النسبة الذهبية الاسلامية
اما في الحضارة العربية الاسلامية، وبعد تحليل العديد من المظاهر المعمارية المختلفة زمانيا ومكانيا، فقد وجد بانها ترتبط بنسبة ذهبية ايضا
مع اختلاف ابعاد هذه النسبة وبما يبلغ 1,414 اي ان مستطيلها الذهبي اقصر طولا من المستطيل الذهبي الاغريقي الذي وضعه فيثاغورس .
كما تطابقت هذه النسبة مع العديد من منتجات الفن الاسلامي، وما يخصنا في بحثنا هذا هو هل يمكن ان تنطبق هذه النسبة او اي نسبة اخرى على الخطوط العربية، خاصة اذا علمنا ان الفكر الرياضي يشكل اهمية كبيرة في المنطق الجمالي للفنون الاسلامية في العمارة والزخارف النباتية والهندسية فضلا عن الخط العربي .
ومنذ ان وضع ابن مقلة النسبة الفاضلة في هندسة الخط العربي والتي قدرت ابعاد الحروف ورسم اشكالها وفق نسبة معينة تستمد جمالها من طبيعة الاشياء وتعد هذه النسبة من اولى المحاولات التي ارست هذه العلاقة، وقيدت الخط بنسب ثابتة لا تتغير، حتى عرف خطه بالخط المنسوب، واتخذ شكل النقطة المربعة – المرسومة بنفس القلم – والتي يعتبرها جزءا من الحرف، وسيلة لقياس ابعاد الحروف . ومن الجدير بالذكر ان مقياس الحروف بواسطة النقطة اصبح ومنذ عهد ابن مقلة الوسيلة لتحديد العلاقة العضوية بين اجزاء الشكل للتعبير عن علاقات فنية صحيحة – ويجد القارئ المزيد عن جهد ابن مقلة في رسالته في الخط والقلم الا ان الاساس في ذلك هو وجود علاقة هندسية صحيحة تربط الحروف مع بعضها .
وقد اعتبرت ما قام به ابن مقلة احد المسلمات الجمالية في الخط العربي .
لكن عودة الى ابسط الاشكال الفنية للخطوط العربية نجد ان تلك المفردات من الجمل التي تنتظم فوق سطر الكتابة الاكثر اهمية في حركتها من اليمين الى اليسار وفي علاقة الحروف والكلمات ببعضها والسطر هو اهم العناصر الذي يمنح الكتابة بناءا هندسيا منتظما كما يرى ذلك القسطالي في ارجوزته اذ يؤكد على ضرورة وضوحه كونه يعمل على ارشاد الكاتب في سير اتجاه القلم ويححده كما انه يستوعب الحروف في اتساق وانتظام كعقد الؤلؤ، وشبه الحروف الحسنة بالجواهر والسطر بالسمط – الخيط - وهذا يوضح اهمية السطر كوتر لجميع الحروف لا يجوز المحيد عنه لانه الاصل .
وكما يعلم الخطاطون بان الحروف تتوزع على سطر الكتابة في ثلاثة مجاميع اساسية:
الاولى: تلك الحروف التي تقع على السطر وتمتد عموديا فوقه (ا، ط، ك، ل، لا) .
والثانية: الحروف التي تقع مع مستوى السطر وتمتد افقيا عليه (ب، ت، ث، د، ذ، ر، ز، س، ص، ف، ق، ن، و، هـ، ي)
والثالثة : تلك الحروف التي تقع على سطر الكتابة وتمتد تحته (ج، ح، خ، ع، غ، م) .
اي ان السطر هو العامل المشترك الاساسي الذي تلتقي عنده الحروف مهما اختلفت مواقعها، وتتفاوت اعداد كل من فصائل هذه الحروف في اشكال الخطوط العربية، واختلاف هذه المواقع واعدادها هي في الحقيقة تشكل جمال الخطوط وقيمتها الوظيفية . وحيث ان جميع الخطوط العربية التي تكتب فوق سطر الكتابة تكون محصورة بين خطين افقيين من اعلاها ومن اسفلها فضلا عن سطر الكتابة .
تم تحليل المسافة التي تقع فوق سطر الكتابة ومقارنتها بالمسافة التي تقع تحت سطر الكتابة ووجد بان العلاقة بينهما تنطبق على ذات النسبة التي انطبقت في العمارة وتبلغ 1،414، وبمعنى اخر اذا كان المربع الذي يقع فوق سطر الكتابة هو واحد فان المسافة التي تقع تحت سطر الكتابة هي 0،414 وبهذا يتشكل المستطيل الذهبي في الخط العربي ليكون ذات العلاقة الجمالية المستخدمة في فن العمارة وقد طبقت هذه النسبة على جميع الخطوط العربية (الاقلام الستة) ووجد بانها انطبقت على بعض الخطوط ولم تنطبق على خطوط اخرى، اما الخطوط التي انطبقت عليها فكانت الثلث والنسخ والكوفي بانواعه، ومن المعروف بان هذه الخطوط وما يتفرع منها في تاريخ الخط العربي ذات اصل عربي، اما الخطوط التي لم تنطبق عليها النسبة فهي الفارسي والديواني والرقعة وما يتفرع عنها وهذه الخطوط ذات اصول غير عربية . مما يؤكد بان هناك وحدة في الذهنية العربية داخل الفكر الاسلامي ووجود بنية عربية جمالية ذات سمات خاصة داخل البنية الجمالية الاسلامية .
الترديد العمودي والافقي
ولم تكن نتيجة التحليل للتوصل الى وجود هذا المستطيل الذهبي فقط، وانما الكشف على العديد من العلاقات الجمالية في الكتابة العربية بما اسميه الترديد العمودي المتمثل بالخطوط العمودية الحقيقية والوهمية المتوازية وبزاوية ميل محددة في كل خط من الخطوط العربية فكانت زاوية الترديد العمودي في :
الخط الكوفي = 90 درجة لتعامد حروفه على سطر الكتابة .
خط الثلث = 80 درجة .
خط النسخ = 85 درجة .
الخط الفارسي = 100 درجة .
الخط الديواني = 75 درجة
خط الرقعة = 85 درجة .
وذلك يعني ميل الترديد العمودي في جميع الخطوط العربية الى جهة اليسار للدلالة على اتجاه سير الكتابة من اليمين الى اليسار ما عدا الخط الفارسي الذي يميل ترديده العمودي الى جهة اليمين .
اما بالنسبة (للترديد الافقي) في الخطوط الافقية المتوازية وبزاوية ميل محددة في كل خط من الخطوط فكانت زاوية الترديد الافقي كما يلي :
الخط الكوفي = 90 درجة لاستقرار حروفه على سطر الكتابة بطريقة مستوية .
خط الثلث = 10 درجات .
خط النسخ = 15 درجة
الخط الفارسي = 40 درجة .
خط الديواني = 60 درجة .
خط الرقعة = 20 درجة .
وتكشف لنا مجموع زوايا الترديدات العمودية مع زوايا الترديدات الافقية بان هناك مبدأين اساسيين :
الاول – خطوط تكون الزاوية الحاصلة بين الترديد العمودي والافقي = 90 درجة .
الثاني – خطوط تكون الزاوية الحاصلة بين الترديد العمودي والافقي = زوايا منفرجة مختلفة وكما مبين ادناه .
الخط الكوفي : الترديد العمودي والافقي = 90 درجة
خط الثلث : الترديد العمودي 80 درجة + ترديد افقي 10 درجات = 90 درجة .
خط النسخ : الترديد العمودي 85 درجة + الترديد الافقي 5 درجات = 90 درجة .
الخط الفارسي : الترديد العمودي 100 درجة + الترديد الافقي 40 درجة = 110 درجة .
الخط الديواني : الترديد العمودي 75 درجة + الترديد الافقي 40 درجة = 115 درجة .
خط الرقعة : الترديد العمودي 85 درجة + الترديد الافقي 20 درجة = 105 درجة .
يتضح من الارقام اعلاه تاكيدا اخر على وحدة الذهنية العربية في اشتراك الخطوط ذات الاصل العربي في زاوية قيمتها 90 درجة اما الخطوط ذات الاصل غير العربي فكانت زواياها وحاصل الترددات العمودية والافقية زوايا هندسية منفرجة .
زاوية البداية
ان التقاء قلم الخط مع سطر الكتابة الافقي يشكل زاوية هندسية محددة وهي الزاوية التي يبتدأ بها رسم اي حرف من الحروف وهذه الزاوية التي نسميها زاوية البداية ثابتة بمقدار معين في كل خط من الخطوط وتنطبق على جميع حروفه وقد تم الكشف عن قيمة زاوية كل خط من الخطوط .
فحروف خط الثلث مثلا تبتدأ بزاوية قيمتها 70 درجة .
وحروف خط النسخ زاوية بدايتها هي 75 درجة .
والخط الكوفي زاوية بداية حروفه 45 درجة .
والخط الفارسي زاوية بداية حروفه 70 درجة .
والخط الديواني زاوية بداية حروفه 85 درجة .
وخط الرقعة زاوية بداية حروفه 70 درجة .
ويدل اختلاف هذه الزوايا بين انواع الخطوط على اختلاف سمك حروف كل خط من الخطوط، وكلما اقتربت زاوية القلم من الـ (90 درجة) كانت الحروف العمودية دقيقة (رفيعة) والخطوط الافقية عريضة (سميكة) . ولهذا فان حروف الخط الكوفي معتدلة جدا لان زاوية القلم 45 درجة فيكون عرض الخطوط العمودية مشابها لعرض الخطوط الافقية . بينما تختلف رشاقة وعرض الخطوط الاخرى بسبب تغير زاوية القلم بين خط واخر وهكذا فان قيمة زاوية القلم تحدد قيمة الجمال والوظيفة في كل خط من الخطوط العربية .
ولم تكن النسبة الذهبية الاسلامية ومتوالداتها تنطبق على الحروف الابجدية المنفردة وفقا لموقعها من سطر الكتابة وانما على التكوينات الفنية التي انجزها العديد من الخطاطين الاوائل، وكانت هذه التكوينات تبرز المهارة الفائقة في ابداع تكوينات متنوعة فكانت احيانا تاخذ اشكالا متراكبة او هندسية كالدائرة والبيضوي والمربع او المثلث، او رسوم لطيور او حيوانات، ولكن اجمل تلك التراكيب والتكوينات هي تلك التي كانت تنطبق عليها النسبة الذهبية الاسلامية وذلك ما يحتاج الى مزيد من الدراسة والبحث والتحليل .
وقد كان هذا سببا في ان يكون الخط العربي زاخرا بالقيم الجمالية والفنية التي تعبر عن تجليات الفكر العربي في قيمه المجردة وفي ذلك يقول (بيكاسو) بصراحة وموضوعية (ان اقصى نقطة اردت الوصول اليها في فن الرسم، وجدت الخط الاسلامي قد سبقني اليها منذ امد بعيد) .
ورافق الخط العربي الزخرفة الاسلامية باشكالها المتعددة النباتية والهندسية والحيوانية والكتابية والمختلطة والتي شكلت تناغما رائعا في الشكل واللون والايقاع والحركة و في نسيج اكمل الرؤية الجمالية الاسلامية، والتي يقول عنها المؤرخ (غوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) (ان للخط العربي شانا كبيرا في فن الزخرفة فهو ذو انسجام عجيب مع النقوش العربية ويتضح ذلك في كتابة السطر الاول من القرآن هو بسم الله الرحمن الرحيم، وان كل بلد خفقت فوقه راية الرسول تحولت بسرعة وازدهرت فيه العلوم والفنون والاداب والصناعة والزراعة ايما ازدهار) .
خصائص واساليب
ورغم ثبات قواعد الخط العربي واستقرار اشكاله الفني الا انه يمكن التمييز بين الحروف والعديد من الاساليب والاتجاهات في طريقة الكتابة واول هذه الاساليب نجده عندما تبتعد زاوية البداية عن الزاوية العمودية فتكون الحروف العمودية عريضو ويسميها الخطاطون (حرفا مشبعة) كما هو الامر لدى الخطاطين الاتراك سامي ونظيف وكامل وحامد وعندما تكون زاوية القلم اقرب الى الزاوية العمودية تكون الحروف دقيقة ورفيعة كما هو الامر لدى خطوط الخطاطين المصرين مثل سيد ابراهيم واخرين .
لقد كانت عملية تحليل هذه الترددات والزوايا تعتمد على كتابات افضل الخطاطين في تاريخ الخط ولمرات متعددة لتكتسب صفة الثبات والمنطق ومن المؤكد بعد ذلك ان عدم انطباقها على خطوط اخرى يعني ان تلك الخطوط هي خطوط ضعيفة لا ترقى الى مستوى الاتقان في الخط العربي .
والسؤال الاكثر اهمية الان هل كان الخطاط العربي المسلم يخطط ويهيء لهذه الزوايا والنسب الذهبية والترديدات العمودية والافقية مع اختلاف الزمان والمكان ومن قبله المعماري العربي المسلم ... هل كان يخطط في عمارته بنفس النسب . وهل كان المزخرف في الزخارف الهندسية والنباتية والكتابية والحيوانية والمختلطة يخطط ايضا لهذه النسب والابعاد، فهل كانت هذه المنتجات الفنية الحضارية تنتج وفق منهج (يونج) الذي يعمل على الرأي الجماعي .
لا شك ان القيم الجوهرية الماورائية التي تقف وراء الفنون الاسلامية كان مصدرها منطق واحد .
وفي الخط العربي على الاقل لم يكن للخطاط المسلم من وسيلة للكتابة والاتقان سوى يده وعقله وقلمه ولم يكن يعتمد وسيلة قياس او اداة فكانت لغة العين سائدة كوسيلة تختزن الالاف الصور الجميلة المتقنة بحروف الخطاطين البارعين، ولترتقي بهذه الصور الى اعلى مستويات التهذيب والتجلي في الفكر ثم تسعى يد الخطاط بالممارسة والتمرين الوصول الى طواعية اليد لاعادة تطبيق اجمل الصور الذهنية المحفوظة بالذاكرة عن اولئك الخطاطين الاوائل . هكذا توارث الخطاط روحية وجوهر القواعد دون ان يكون لكل زوايانا وترديداتنا ونسبنا اي حساب ا واعتبار .
ان عمل النسبة الذهبية في هذا النظام الدقيق بين الفنون الاسلامية كانت تشكل مجموعة انساق سيميائية وضمنية وهي اشكالية لا يمكن ان تكون في حالة تقاطع مع الانساق المعرفية وتداخل منظوماتها المصطلحية، اي ان الاشكالية يطرحها حضور النسق وغيابه وانطباقها على منتجات متعددة مع اختلاف مكان وزمان انتاجها او يجعل الاشياء تنضوي ضمن انساق تحدد لها شكل وجودها كحالات التشابه والتقابل والتطابق .
وفي اطار وتسلسل منهجي دقيق يعاد اكتشاف القانون الداخلي لمفردات الفن الاسلامي والخط العربي بتلك الشبكة المتداخلة بين منظومة النظرة والفكرة واللغة لتجعل الفن الاسلامي نظام خطابي يؤسس مكوناته المفهومية والمنهجية في الذاكرة الفنية والخطابية الجمالية .
لا شك ان خلف كل تقنية او اسلوب ميتافيزيقيا يجب حصر معالمها لفهم تلك الرؤيا الماورائية للعمل الفني، من خلال الارضية الثقافية والتاريخية لاشكال الخطوط العربية والفنون الاسلامية عموما .
وهنا يكشف الفن الاسلامي بناء ثوابته الشكلية الموزعة على محور الزمان والمكان ويؤسس لسلم احالات داخلية تنظم تاريخه وبنية خطابه المتماسك في صيرورة تعيد النسق الفكري الى تلك النقطة الجوهرية التي ابتدء منها الفن الاسلامي
* عميد الكلية العلمية للتصميم - مسقط
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire