الهجرة المستحيلة ـ (5)
التشكيل العراقي مثلا
جودت حسيب : استعادة السيرة المغيبة
لا يمكنني الحديث عن تجربة الفنان العراقي المنفي جودت حسيب بمعزل عن سيرة حياته الشخصية. أولا لعلاقتي الحميمة بشخصه منذ بداية مشوارنا الفني، وثانيا لكون نشاطه الفني الاجتماعي في النصف الأول من سيرته الفنية (العراقية) ارتبط أيضا بالسيرة الشخصية المتفاعلة والمحيط التشكيلي العراقي في ذلك الوقت الذي تمتع فيه الفنان التشكيلي العراقي ببعض من الحرية الشخصية الضرورية لتفعيل الحركة الفنية. لقد كان، ومنذ سنوات دراسته الفنية في معهد الفنون الجميلة في بداية الستينات، يتنازعه توجهان متقاربان فنيا ومختلفان أدائيا، هما الرسم والخط العربي. فبقدر ما كانت منطقة فن الرسم منفتحة على أساليب وممارسات فنية لا تحصى، كان فن الخط العربي في ذلك الوقت تحكمه قوانين ثابتة لا تتعدى الاجتهاد في صقل أنماطها (ما عدا اجتهادات الصكار). ولقد خضعتُ انأ أيضا لدرس ضوابط الخط في عام 1958 على يد الأستاذ التركي ماجد الزهدي، ومن ثم، أستاذنا القدير الخطاط هاشم البغدادي في العام الذي تلاه. لكن بقي جودت مخلصا لكلَي الإبداعين في تلك الفترة، وأجاد فيهما.
مفارقة:
أحيانا ما نستعيد ذكرى ما من أيامنا الأولى فنكتشف أن فيها نبوءة مستقبلية، ربما تكون كذلك وربما يكون وهم التأويل هو من يغرينا بإعادة قراءتها بما يناسبنا:
في صيف عام 1962، وفي بداية مشوارنا الفني، اتفقت مع جودت ورسام ثالث على تأسيس مرسم أو محترف لنا من اجل أن نتمكن من انجاز أعمالنا الفنية. وحصلنا فعلا على"دكان مناسب" في منطقة المربعة من شارع الرشيد ونفذنا بعض الرسوم، وكما في تلك الأيام كانت مزيجا من الجد والعبث. وكانت حصيلة تلك المحاولات معرض في إحد مقاهي بغداد الحديثة في منطقة السنك من شارع الرشيد وليس ببعيد عن مرسمنا. كان اسم المقهى وقتذاك "كازينو لوكانو". ولا غرابة من العرض في مقهى، إذ لم تكن توجد صالات عرض تخصصية في بغداد في ذلك الزمن. المهم، في يوم افتتاح المعرض أغلق الكازينو بأمر من السلطة المحلية، وبقيت رسومنا (لوحاتنا) معلقة إلى اجل غير معلوم، وحتى هذا الوقت. هذا المعرض- الذكرى ربما يفسر بعضا مما أصاب ذواتنا من تصدع موصول باغتراباتنا أو نفينا.
ما بين النفي (المنفى) والاغتراب اعتقد أن ثمة فرق مفهومي بسيط فيما بين مسالكهما، ورغم تشابه المنافي فهي اغترابات غالبا. وإن نعت جودت بالمنفي، فلأنه اختار منفاه الاسباني بنفسه بعد أن تعطل زمنه العراقي في نهاية السبعينات حيث لم يكن يجد المثقف العراقي في تلك الفترة الزمنية أمامه سوى منافذ السلطة أو التحايل المُر أو الخَرَس. ولم يكن جودت، وكما عرفته وقتها، يتحمل التحايل أو الخرس، فنفى نفسه. لكنه استطاع قبل أن يغادر العراق أن يحقق حضورا على الساحة التشكيلية اضافة إلى نشاطه الاجتماعي في المساهمة بإدارة جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين لأكثر من دورة.
اعتقد أن اهتمامات جودت بالخط العربي قادته إلى إجادة صناعة البوستر الفني وصولا إلى منافسة خيرة صنّاعِهِ من أمثال الفنانين العراقيين محمد مهر الدين، يحيى الشيخ، رافع الناصري، هاشم سمرجي وغيرهم. والخط العربي، لكونه محكوما بضوابطه الصارمة، فإن مجال اللعب على هذه الضوابط (القوانين) بدون تجاوزها يحتاج إلى حرفة عالية وخبرة لونية ومهارة ذوقية. هذه الشروط هي نفسها ما يجب أن تتوفر في صناعة البوستر اضافة إلى عملية المونتاج وفهم الآلية الطباعية. واشتغال جودت في تصميم إحدى المجلات الاسبوعية في بغداد (وعي العمال) ولزمن ليس بالقصير، اكسبه الخبرة اللازمة لمواصلة مشواره الفني في هذا المجال وراكم خبرته التي طورها لاحقا.
الذي لا وطن له:
حينما غادر جودت وطنه العراق كان يعرف جيدا أنه لن يعود إليه ما دامت الدكتاتورية قائمة، لذلك حاول جهده أن يحصل على وطن آخر يستطيع أن يواصل فيه معارفه الفنية فاختار كلية الفن في روما، لكن بعد عام من الدراسة اكتشف هشاشة نظام التعليم وعدم جدواه فيها وخاصة للدارسين الآتين من الخارج، فتحول إلى كلية (سان فرناندو) الاسبانية في مدريد، ولم يخنه اختياره الثاني. لكن بعد مرور سنتين (المهلة المحددة لإجراء التعادل) ولاحتياجه لبعض الوثائق العراقية لتعادل شهادة دراسته الأولى، خانه وطنه ايضا بفرض شرط الانتماء الى اتحاد طلبة السلطة آنذاك من اجل الحصول على اية وثيقة، لذا أبى ان يتنازل لذلك الشرط وترك الدراسة الرسمية واتجه الى الدراسة الحرة. وفي صيف سنة (1981)، وجد نفسه فجأة بدون ملاذ آمن حينما انتهت صلاحية جواز سفره العراقي. هو الذي نفى نفسه احتجاجا على سلطة الصوت الواحد وأبى التعامل مع كافة مؤسسات هذه السلطة وبضمنها سفاراتها في الخارج ، لم يكن أمامه إلا أن يخوض صراعا مريرا من اجل أن يفلت من قرار الترحيل (وإلى أين؟). استمر هذا الوضع الصعب لسنتين بالرغم من جهود الكثيرين وبضمنهم زوجته الاسبانية، إلى أن حصل على إقامة بصفة "بدون وطن". وان دونت هذه التفاصيل عن حياة احد مبدعي المنافي، فهي ليست سوى مثل ضمن آلاف الأمثلة التي تعرّض لها مبدعونا العراقيون وهم يطرقون أبواب العالم الواسعة لنصف قرن من الزمن أو أكثر من اجل إيجاد موقع قدم لهم.
ذكرت اشتغالات جودت على الخط العربي وفن البوستر. لكن، هل لهذين الاشتغالين من اثر على رسوماته، وهو خريج فرع الرسم في بغداد أولا، وخاصة تلك الرسوم التي نفذها في زمن إقامته العراقية المبكرة؟ إن كان الفن التشكيلي العراقي في حقبة النصف الثاني من القرن العشرين قد أنتج الكثير من الأعمال التشكيلية المتأثرة والمؤثرة على مساحة الخط العربي، وأنتجت أعمالا تنتسب لكلَي الاشتغالين بنسب معينة، إلا أن رسوم جودت اختلفت بشكل جذري عن كل ذلك رغم استفادتها من السلوكيات والضوابط التقنية لكل من فني الخط والبوستر (كتصميم). فالحرفية العالية متوفرة في نماذج من أعماله، لكن ليس كصور أو رسوم حروفية أو زخرفيه تشكيلية، بل كتشخيص اختزالي، ولنا مَثل في لوحته المعنونة "شيلي، صورة شخصية" التي أنجزها في عام 1974 للمشاركة في البينال العربي الأول في بغداد ثم عرضها في "اسبوع التضامن مع الشعب الشيلي" ضد دكتاتورية بينوشت الذي اقامته جمعية الفنانين العراقيين في العام نفسه. كان العمل بقياس مترين طولا وعرضا، نفذ بالأبيض والأسود فقط : ثنائيه توحي بتقنية الحبر الأسود وقصبته في تنفيذ خط الحروف العربية (ألمشق).
تلك اللوحة لم تكن فتحا جديدا في الفن التشكيلي العراقي، لكنها أسست لذائقة مختلفة بعض الشيء، وهذه حسنتها. فالرسم الواقعي العراقي وقتئذ كان مغرقا بتقنياته التي اعتمدت موشورا ملونا عريضا، وكثافة لونية هي بعض من مخلفات التقنية الأكاديمية أو الرومانتيكية وحتى السريالية الأوربية. ولا غبار في ذلك، فهي عموما تقنيات عالمية رافقت هذا الفن في بعض من أزمنته. ما فعله جودت هو انه ألغى كل هذه التقنية المعهودة واجترح تقنية مغايرة تعتمد على التسطيح والتعبير بالاختزال أو التقليل (المونوغرام ) في آن واحد وبدون أن يفقد رسمه مقدرته التعبيرية التواصلية الادهاشية. ولم يكن الأمر بالنسبة له سوى محاولة صياغة مقاربات لرسوماته بما يوازي اهتماماته الفنية المتشعبة، فاستل من منطقة الخط العربي صرامة كتلة شخصه المرسوم، واستل من منطقة التصميم وضع هذه الكتلة الأحادية في موقعها المناسب من فضاء اللوحة الأسود الشاسع وبما يناسب ما اقترحه هذا التصميم من حركة وفضاء وخط محوري إضافي مناسب لحركة الشخص المرسوم بكفاية موشور ظلاله الخفيفة وبدون أن يتجاوز على القيمة التعبيرية، وكسراً لهيمنة الفضاء وعزل التشخيص. لكن هذا العمل خلق إشكالية تصورية، وهي إمكانية تنفيذ هذا الرسم بحجم اصغر مما هو عليه للحد الذي يبلغ حجم مساحته بطاقة بريد. ربما يكون ذلك ممكنا، وربما لا. لكن ما يهمنا من كل ذلك هو مدى الأثر المباشر الذي أحدثه هذا العمل الفني وقتها والذي يوازي في قيمته ما تحدثه الأعمال التشكيلية المعاصرة من صدمة أو إدهاش بما يتوافق ونية الفنان في توقع ما يحدثه عمله من اثر مواز لوقع الكارثة التي حاول التعبير عنها، مع العلم ان للحجم سطوته أيضا والتي يفقدها اختزال المساحة لحدها الأدنى، وهذا ما عملت علية الأعمال المعاصرة.
أنا لا اعرف ما إذا كان بإمكان جودت أن يواصل تجربة الرسم هذه إلى مداها بعد انقطاع زمني طويل، أو محاولة الخوض من جديد في تجارب جديدة، فاشتغالاته في الخط والتصميم فيما بعد أخذت الكثير من جهده، إذ بعد تبدل مكان إقامته بشكل جذري أصبح من اللازم عليه أن يوازي ما بين اهتماماته الفنية وحاجاته المادية الضرورية. وحسب ما اعتقد، لم يكن له بُد من ممارسة فن التصميم مرة أخرى، وهذه المرة بشكل احترافي. فاشتغل كمسؤول لقسم التصميم في دار الثقافة التابع لبلدية مدينة موستوليس ( محافظة مدريد) ما بين الأعوام 1984 – 1991، وأنتج خلال هذه الفترة الزمنية كمّاً كبيرا من البوسترات التي تناولت شتى الأنشطة الثقافية والرياضية، وجرّب من خلالها العديد من المهارات الأسلوبية وطرق التنفيذ للحد الذي استحقت بعضها جوائز متميزة. ولم يقتصر جهده الإبداعي في دائرة الثقافة هذه، بل اشتغل لحسابه الخاص ايضا، ونفذ خلال سنوات عديدة الكثير من أعمال التصميم والخط العربي لـ " معهد التعاون مع العالم العربي " و " المجلس الأعلى للبحث العلمي " في اسبانيا.
بعد اطلاعي على الكم الكبير من البوسترات التي نفذها خلال إقامته الاسبانية، تبادر إلى ذهني
فقر أرشيفنا الفني او انعدامه وخاصة فيما يتعلق منه بالبوستر الفني. اعتقد أن أعمال جودت هذه تصلح كنواة لمتحف مستقبلي للبوستر. وإن فقدنا أرشيفنا التشكيلي العراقي فبالإمكان الاشتغال على تجميع بعضه وخاصة لمن احتفظ بأرشيفه. لكن يبقى جودت بالاضافة لكل مجهوده في صناعة تصميم البوستر مولعا بإجادة الخط العربي، وهو إذ يعتبر ان مرحلة التصميم انتهت بالنسبة له، فانه يعكف الآن على الاشتغال بكل قدراته على إخراج أعمال في الخط العربي بالشكل الذي يرضي طموحه ويناسب تصوره، وهي: "أعمال حديثة في الخط العربي تلتزم بالأصول والقواعد الكلاسيكية لهذا الفن، أي محاولة تحديث اللوحة الخطّية وليس تحديث الحرف العربي" كما يقول. أي انه لا يكتفي بإجادة الخط العربي، بل بما يوازي صياغاته التراكمية الفذة بصياغات إخراجية يتوازى فيها الفعل الحفري الأثري والصياغات الافتراضية للعمل الفني ألمسندي الحديث، لكن بدون أن يضحي بكلتي الصياغتين. المهم عنده هو الاشتغال على عدم التفريط بقواعد الخط وضوابطه لصالح مشهدية اللوحة الحديثة والتي كثر الاشتغال عليها لعقود عديدة حتى باتت تستهلك ادهاشيتها لصالح الصنعة فقط. هذه المعادلة الصعبة هي ما يراهن على محاولة تحقيقها وهو الفنان الجاد في كل خطواته. ونحن في انتظار هكذا نتائج.
أخيرا لا بد من التذكير بمن جرى تغافلهم من قبل نقاد الفن التشكيلي العراقي من الفنانين التشكيليين العراقيين الذين استوطنوا الغربة مبكرا. وإن فقدوا آثارهم او بصماتهم التي طبعوا بها هذا التشكيل في زمن ما، فليس من الإنصاف أن تمحى ذكراهم من صفحة التشكيل العراقي، وإلا فقد حققت أزمنتنا الثقافية والسياسية الكارثية السابقة واللاحقة مبتغاها.
................................................................................................................................
سيرة الفنان الشخصية:
ولد في الموصل(العراق) عام(1043). أكمل الدراسة في معهد الفنون الجميلة بغداد عام(1962). سنة دراسية في أكاديمية الفنون الجميلة(روما). انتقل بعدها إلى اسبانيا وقام بدراسات حرة في المدرسة العليا للفنون الجميلة ( سان فرناندو ) حتى عام(1980).
له أعمال في : متحف الملصقات – فيلانوف (بولندا) ، المتحف الوطني للفن الحديث – بغداد ، المتحف الحِرَفي – بغداد ، مقتنيات خاصة ، متحف الفنون الجميلة – عمّان ، مطار الملك عبد العزيز الدولي جدّة (لوحة جداريه خطية منسوجة ) ، كنيسة القديس نيكولاس – مدريد ( لوحة من الخط العربي) ، حديقة الأمير محمد الأول مؤسس مدينة مدريد (لوحة سيراميكية من الخط العربي). واشترك في عدة معارض عالمية وعربية في السبعينات للبوستر. كما شارك في ملتقى الشارقة الثالث لفن الخط العربي
عام 2008 ، والرابع عام 2010.
علي النجار
20ـ10ـ2010
التشكيل العراقي مثلا
جودت حسيب : استعادة السيرة المغيبة
لا يمكنني الحديث عن تجربة الفنان العراقي المنفي جودت حسيب بمعزل عن سيرة حياته الشخصية. أولا لعلاقتي الحميمة بشخصه منذ بداية مشوارنا الفني، وثانيا لكون نشاطه الفني الاجتماعي في النصف الأول من سيرته الفنية (العراقية) ارتبط أيضا بالسيرة الشخصية المتفاعلة والمحيط التشكيلي العراقي في ذلك الوقت الذي تمتع فيه الفنان التشكيلي العراقي ببعض من الحرية الشخصية الضرورية لتفعيل الحركة الفنية. لقد كان، ومنذ سنوات دراسته الفنية في معهد الفنون الجميلة في بداية الستينات، يتنازعه توجهان متقاربان فنيا ومختلفان أدائيا، هما الرسم والخط العربي. فبقدر ما كانت منطقة فن الرسم منفتحة على أساليب وممارسات فنية لا تحصى، كان فن الخط العربي في ذلك الوقت تحكمه قوانين ثابتة لا تتعدى الاجتهاد في صقل أنماطها (ما عدا اجتهادات الصكار). ولقد خضعتُ انأ أيضا لدرس ضوابط الخط في عام 1958 على يد الأستاذ التركي ماجد الزهدي، ومن ثم، أستاذنا القدير الخطاط هاشم البغدادي في العام الذي تلاه. لكن بقي جودت مخلصا لكلَي الإبداعين في تلك الفترة، وأجاد فيهما.
مفارقة:
أحيانا ما نستعيد ذكرى ما من أيامنا الأولى فنكتشف أن فيها نبوءة مستقبلية، ربما تكون كذلك وربما يكون وهم التأويل هو من يغرينا بإعادة قراءتها بما يناسبنا:
في صيف عام 1962، وفي بداية مشوارنا الفني، اتفقت مع جودت ورسام ثالث على تأسيس مرسم أو محترف لنا من اجل أن نتمكن من انجاز أعمالنا الفنية. وحصلنا فعلا على"دكان مناسب" في منطقة المربعة من شارع الرشيد ونفذنا بعض الرسوم، وكما في تلك الأيام كانت مزيجا من الجد والعبث. وكانت حصيلة تلك المحاولات معرض في إحد مقاهي بغداد الحديثة في منطقة السنك من شارع الرشيد وليس ببعيد عن مرسمنا. كان اسم المقهى وقتذاك "كازينو لوكانو". ولا غرابة من العرض في مقهى، إذ لم تكن توجد صالات عرض تخصصية في بغداد في ذلك الزمن. المهم، في يوم افتتاح المعرض أغلق الكازينو بأمر من السلطة المحلية، وبقيت رسومنا (لوحاتنا) معلقة إلى اجل غير معلوم، وحتى هذا الوقت. هذا المعرض- الذكرى ربما يفسر بعضا مما أصاب ذواتنا من تصدع موصول باغتراباتنا أو نفينا.
ما بين النفي (المنفى) والاغتراب اعتقد أن ثمة فرق مفهومي بسيط فيما بين مسالكهما، ورغم تشابه المنافي فهي اغترابات غالبا. وإن نعت جودت بالمنفي، فلأنه اختار منفاه الاسباني بنفسه بعد أن تعطل زمنه العراقي في نهاية السبعينات حيث لم يكن يجد المثقف العراقي في تلك الفترة الزمنية أمامه سوى منافذ السلطة أو التحايل المُر أو الخَرَس. ولم يكن جودت، وكما عرفته وقتها، يتحمل التحايل أو الخرس، فنفى نفسه. لكنه استطاع قبل أن يغادر العراق أن يحقق حضورا على الساحة التشكيلية اضافة إلى نشاطه الاجتماعي في المساهمة بإدارة جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين لأكثر من دورة.
اعتقد أن اهتمامات جودت بالخط العربي قادته إلى إجادة صناعة البوستر الفني وصولا إلى منافسة خيرة صنّاعِهِ من أمثال الفنانين العراقيين محمد مهر الدين، يحيى الشيخ، رافع الناصري، هاشم سمرجي وغيرهم. والخط العربي، لكونه محكوما بضوابطه الصارمة، فإن مجال اللعب على هذه الضوابط (القوانين) بدون تجاوزها يحتاج إلى حرفة عالية وخبرة لونية ومهارة ذوقية. هذه الشروط هي نفسها ما يجب أن تتوفر في صناعة البوستر اضافة إلى عملية المونتاج وفهم الآلية الطباعية. واشتغال جودت في تصميم إحدى المجلات الاسبوعية في بغداد (وعي العمال) ولزمن ليس بالقصير، اكسبه الخبرة اللازمة لمواصلة مشواره الفني في هذا المجال وراكم خبرته التي طورها لاحقا.
الذي لا وطن له:
حينما غادر جودت وطنه العراق كان يعرف جيدا أنه لن يعود إليه ما دامت الدكتاتورية قائمة، لذلك حاول جهده أن يحصل على وطن آخر يستطيع أن يواصل فيه معارفه الفنية فاختار كلية الفن في روما، لكن بعد عام من الدراسة اكتشف هشاشة نظام التعليم وعدم جدواه فيها وخاصة للدارسين الآتين من الخارج، فتحول إلى كلية (سان فرناندو) الاسبانية في مدريد، ولم يخنه اختياره الثاني. لكن بعد مرور سنتين (المهلة المحددة لإجراء التعادل) ولاحتياجه لبعض الوثائق العراقية لتعادل شهادة دراسته الأولى، خانه وطنه ايضا بفرض شرط الانتماء الى اتحاد طلبة السلطة آنذاك من اجل الحصول على اية وثيقة، لذا أبى ان يتنازل لذلك الشرط وترك الدراسة الرسمية واتجه الى الدراسة الحرة. وفي صيف سنة (1981)، وجد نفسه فجأة بدون ملاذ آمن حينما انتهت صلاحية جواز سفره العراقي. هو الذي نفى نفسه احتجاجا على سلطة الصوت الواحد وأبى التعامل مع كافة مؤسسات هذه السلطة وبضمنها سفاراتها في الخارج ، لم يكن أمامه إلا أن يخوض صراعا مريرا من اجل أن يفلت من قرار الترحيل (وإلى أين؟). استمر هذا الوضع الصعب لسنتين بالرغم من جهود الكثيرين وبضمنهم زوجته الاسبانية، إلى أن حصل على إقامة بصفة "بدون وطن". وان دونت هذه التفاصيل عن حياة احد مبدعي المنافي، فهي ليست سوى مثل ضمن آلاف الأمثلة التي تعرّض لها مبدعونا العراقيون وهم يطرقون أبواب العالم الواسعة لنصف قرن من الزمن أو أكثر من اجل إيجاد موقع قدم لهم.
ذكرت اشتغالات جودت على الخط العربي وفن البوستر. لكن، هل لهذين الاشتغالين من اثر على رسوماته، وهو خريج فرع الرسم في بغداد أولا، وخاصة تلك الرسوم التي نفذها في زمن إقامته العراقية المبكرة؟ إن كان الفن التشكيلي العراقي في حقبة النصف الثاني من القرن العشرين قد أنتج الكثير من الأعمال التشكيلية المتأثرة والمؤثرة على مساحة الخط العربي، وأنتجت أعمالا تنتسب لكلَي الاشتغالين بنسب معينة، إلا أن رسوم جودت اختلفت بشكل جذري عن كل ذلك رغم استفادتها من السلوكيات والضوابط التقنية لكل من فني الخط والبوستر (كتصميم). فالحرفية العالية متوفرة في نماذج من أعماله، لكن ليس كصور أو رسوم حروفية أو زخرفيه تشكيلية، بل كتشخيص اختزالي، ولنا مَثل في لوحته المعنونة "شيلي، صورة شخصية" التي أنجزها في عام 1974 للمشاركة في البينال العربي الأول في بغداد ثم عرضها في "اسبوع التضامن مع الشعب الشيلي" ضد دكتاتورية بينوشت الذي اقامته جمعية الفنانين العراقيين في العام نفسه. كان العمل بقياس مترين طولا وعرضا، نفذ بالأبيض والأسود فقط : ثنائيه توحي بتقنية الحبر الأسود وقصبته في تنفيذ خط الحروف العربية (ألمشق).
تلك اللوحة لم تكن فتحا جديدا في الفن التشكيلي العراقي، لكنها أسست لذائقة مختلفة بعض الشيء، وهذه حسنتها. فالرسم الواقعي العراقي وقتئذ كان مغرقا بتقنياته التي اعتمدت موشورا ملونا عريضا، وكثافة لونية هي بعض من مخلفات التقنية الأكاديمية أو الرومانتيكية وحتى السريالية الأوربية. ولا غبار في ذلك، فهي عموما تقنيات عالمية رافقت هذا الفن في بعض من أزمنته. ما فعله جودت هو انه ألغى كل هذه التقنية المعهودة واجترح تقنية مغايرة تعتمد على التسطيح والتعبير بالاختزال أو التقليل (المونوغرام ) في آن واحد وبدون أن يفقد رسمه مقدرته التعبيرية التواصلية الادهاشية. ولم يكن الأمر بالنسبة له سوى محاولة صياغة مقاربات لرسوماته بما يوازي اهتماماته الفنية المتشعبة، فاستل من منطقة الخط العربي صرامة كتلة شخصه المرسوم، واستل من منطقة التصميم وضع هذه الكتلة الأحادية في موقعها المناسب من فضاء اللوحة الأسود الشاسع وبما يناسب ما اقترحه هذا التصميم من حركة وفضاء وخط محوري إضافي مناسب لحركة الشخص المرسوم بكفاية موشور ظلاله الخفيفة وبدون أن يتجاوز على القيمة التعبيرية، وكسراً لهيمنة الفضاء وعزل التشخيص. لكن هذا العمل خلق إشكالية تصورية، وهي إمكانية تنفيذ هذا الرسم بحجم اصغر مما هو عليه للحد الذي يبلغ حجم مساحته بطاقة بريد. ربما يكون ذلك ممكنا، وربما لا. لكن ما يهمنا من كل ذلك هو مدى الأثر المباشر الذي أحدثه هذا العمل الفني وقتها والذي يوازي في قيمته ما تحدثه الأعمال التشكيلية المعاصرة من صدمة أو إدهاش بما يتوافق ونية الفنان في توقع ما يحدثه عمله من اثر مواز لوقع الكارثة التي حاول التعبير عنها، مع العلم ان للحجم سطوته أيضا والتي يفقدها اختزال المساحة لحدها الأدنى، وهذا ما عملت علية الأعمال المعاصرة.
أنا لا اعرف ما إذا كان بإمكان جودت أن يواصل تجربة الرسم هذه إلى مداها بعد انقطاع زمني طويل، أو محاولة الخوض من جديد في تجارب جديدة، فاشتغالاته في الخط والتصميم فيما بعد أخذت الكثير من جهده، إذ بعد تبدل مكان إقامته بشكل جذري أصبح من اللازم عليه أن يوازي ما بين اهتماماته الفنية وحاجاته المادية الضرورية. وحسب ما اعتقد، لم يكن له بُد من ممارسة فن التصميم مرة أخرى، وهذه المرة بشكل احترافي. فاشتغل كمسؤول لقسم التصميم في دار الثقافة التابع لبلدية مدينة موستوليس ( محافظة مدريد) ما بين الأعوام 1984 – 1991، وأنتج خلال هذه الفترة الزمنية كمّاً كبيرا من البوسترات التي تناولت شتى الأنشطة الثقافية والرياضية، وجرّب من خلالها العديد من المهارات الأسلوبية وطرق التنفيذ للحد الذي استحقت بعضها جوائز متميزة. ولم يقتصر جهده الإبداعي في دائرة الثقافة هذه، بل اشتغل لحسابه الخاص ايضا، ونفذ خلال سنوات عديدة الكثير من أعمال التصميم والخط العربي لـ " معهد التعاون مع العالم العربي " و " المجلس الأعلى للبحث العلمي " في اسبانيا.
بعد اطلاعي على الكم الكبير من البوسترات التي نفذها خلال إقامته الاسبانية، تبادر إلى ذهني
فقر أرشيفنا الفني او انعدامه وخاصة فيما يتعلق منه بالبوستر الفني. اعتقد أن أعمال جودت هذه تصلح كنواة لمتحف مستقبلي للبوستر. وإن فقدنا أرشيفنا التشكيلي العراقي فبالإمكان الاشتغال على تجميع بعضه وخاصة لمن احتفظ بأرشيفه. لكن يبقى جودت بالاضافة لكل مجهوده في صناعة تصميم البوستر مولعا بإجادة الخط العربي، وهو إذ يعتبر ان مرحلة التصميم انتهت بالنسبة له، فانه يعكف الآن على الاشتغال بكل قدراته على إخراج أعمال في الخط العربي بالشكل الذي يرضي طموحه ويناسب تصوره، وهي: "أعمال حديثة في الخط العربي تلتزم بالأصول والقواعد الكلاسيكية لهذا الفن، أي محاولة تحديث اللوحة الخطّية وليس تحديث الحرف العربي" كما يقول. أي انه لا يكتفي بإجادة الخط العربي، بل بما يوازي صياغاته التراكمية الفذة بصياغات إخراجية يتوازى فيها الفعل الحفري الأثري والصياغات الافتراضية للعمل الفني ألمسندي الحديث، لكن بدون أن يضحي بكلتي الصياغتين. المهم عنده هو الاشتغال على عدم التفريط بقواعد الخط وضوابطه لصالح مشهدية اللوحة الحديثة والتي كثر الاشتغال عليها لعقود عديدة حتى باتت تستهلك ادهاشيتها لصالح الصنعة فقط. هذه المعادلة الصعبة هي ما يراهن على محاولة تحقيقها وهو الفنان الجاد في كل خطواته. ونحن في انتظار هكذا نتائج.
أخيرا لا بد من التذكير بمن جرى تغافلهم من قبل نقاد الفن التشكيلي العراقي من الفنانين التشكيليين العراقيين الذين استوطنوا الغربة مبكرا. وإن فقدوا آثارهم او بصماتهم التي طبعوا بها هذا التشكيل في زمن ما، فليس من الإنصاف أن تمحى ذكراهم من صفحة التشكيل العراقي، وإلا فقد حققت أزمنتنا الثقافية والسياسية الكارثية السابقة واللاحقة مبتغاها.
................................................................................................................................
سيرة الفنان الشخصية:
ولد في الموصل(العراق) عام(1043). أكمل الدراسة في معهد الفنون الجميلة بغداد عام(1962). سنة دراسية في أكاديمية الفنون الجميلة(روما). انتقل بعدها إلى اسبانيا وقام بدراسات حرة في المدرسة العليا للفنون الجميلة ( سان فرناندو ) حتى عام(1980).
له أعمال في : متحف الملصقات – فيلانوف (بولندا) ، المتحف الوطني للفن الحديث – بغداد ، المتحف الحِرَفي – بغداد ، مقتنيات خاصة ، متحف الفنون الجميلة – عمّان ، مطار الملك عبد العزيز الدولي جدّة (لوحة جداريه خطية منسوجة ) ، كنيسة القديس نيكولاس – مدريد ( لوحة من الخط العربي) ، حديقة الأمير محمد الأول مؤسس مدينة مدريد (لوحة سيراميكية من الخط العربي). واشترك في عدة معارض عالمية وعربية في السبعينات للبوستر. كما شارك في ملتقى الشارقة الثالث لفن الخط العربي
عام 2008 ، والرابع عام 2010.
علي النجار
20ـ10ـ2010
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire