الفنان المبدع علي النجار
الرواية والتشكيل.. وتبادل الأدوار
...................................................
في البدء انعدمت حدود القص(كحادثة معاشة), عند سكان الكهوف الأوائل. وكانت الصورة الجدارية الكهفية تتشكل بتفاصيل الحدث اليومي الملح كصراع من اجل الحياة وإدامتها عبر سبل مراقبة سلوك الحيوان واصطياده. هذا الديالوك الصوري بنصوصه الجغرافية المتعددة شكل بذرة القص الأولى قبل اكتشاف رموز وحروف التشكيل الأولى. ثم نطق الإنسان. وتحت إلحاح الذكرى أو انمحاء الذاكرة والتوثيق المعرفي والإجرائي العملي تشعبت طرق وأساليب التدوين لتشمل الذات ومحيطها عبر سبل التاريخ المتتابعة. وكانت الخرافة الأولى والصور الميثولوجية الأولى والإرث ألتدويني المادي أو الواقعي الأول. ولم تكن الحروف الأولى إلا رسوما مختزلة شذبت باستمرار حتى فقدت ملامحها وتحولت إلى علامات تدوينية دالة
1ـ كتب هذا النص أصلا لأجل الترجمة للغة الانكليزية. لذلك كان هذا التنويه واجبا.
..........................................................................................
( 09-02-16) علي النجار
الرواية والتشكيل.. وتبادل الأدوار
...................................................
في البدء انعدمت حدود القص(كحادثة معاشة), عند سكان الكهوف الأوائل. وكانت الصورة الجدارية الكهفية تتشكل بتفاصيل الحدث اليومي الملح كصراع من اجل الحياة وإدامتها عبر سبل مراقبة سلوك الحيوان واصطياده. هذا الديالوك الصوري بنصوصه الجغرافية المتعددة شكل بذرة القص الأولى قبل اكتشاف رموز وحروف التشكيل الأولى. ثم نطق الإنسان. وتحت إلحاح الذكرى أو انمحاء الذاكرة والتوثيق المعرفي والإجرائي العملي تشعبت طرق وأساليب التدوين لتشمل الذات ومحيطها عبر سبل التاريخ المتتابعة. وكانت الخرافة الأولى والصور الميثولوجية الأولى والإرث ألتدويني المادي أو الواقعي الأول. ولم تكن الحروف الأولى إلا رسوما مختزلة شذبت باستمرار حتى فقدت ملامحها وتحولت إلى علامات تدوينية دالة
.
لقد تعددت الألسن حد تكريس واقعة التعدد هذه لمرجعية خرافية( بابل وتبلبل الألسن), وتعدد الألسن نتج عنه تعدد الثقافات. وبالرغم من هذه التعددية الألسنية الا ان الرواية والفن اشتركا في السمات الأساسية لمصادر مرجعية انتمائهما بشقيها الذاتي والجمعي(الاجتماعي, الميثولوجيا وسلطة التاريخ ورموزه المحركة). وان تمثل التاريخ لنا قصصا. فقد كانت معظمها قصصا رسمية. كما هي في الحضارات القديمة(الآشورية الرافدينية ’ والمصرية واليونانية). أما الميثولوجيا الدينية فقد أورثتنا قصص الذات الجمعية بكل فنتازياتها. وكان الفنان يجهد عبر كل العصور لتلبية متطلبات هذه القصص بالتعبير المتماهي فنيا ومعظمها. وكان في أحيان كثيرة مجرد سارد للقصة الرسمية الملكية أو الإمبراطورية في عصورها الأولى وللحد الذي كان يجد نفسه مجرد عامل ماهر لا يحيد عن ألأسلوبية المتوارثة لصيغ هذه الأعمال والتي شاء الصانع المتقن الأول وضع خطوطها العامة التي تماشي وسلوكية سطوة الحكم وهيبته المدنية والكهنوتية. وهذا ما نلاحظه في كل الموروث التشكيلي الأثري الموازي والمترجم للنصوص المروية لهذه الحضارات. لقد كانت صناعة الفنان وقتها تتناغم وملامح صناعة الكاتب(المؤلف) التدوينية في ملامحها العامة. وتشعبت صور حكاية (ملحمة كلكامش) السومرية,ومن ثمة البابلية, ضمن العديد من المنحوتات والرقم الطينية والأسطوانية. مثلما تم تمثيل الحكايات الأسطورية الأولى مع نصوص أخرى لا تقل أهمية. وهذا ما تثبته الاكتشافات الأثرية لحد الآن .
أثر الخطاب الأيديولوجي (الكهنوتي القديم والحديث, ومنه العهد القديم والجديد والإسلامي والبوذي) والسياسي, وبما أنتجه من ثقافة وعبر العصور التاريخية في خلق أرضية مناسبة من الإرث ألتدويني ومنه الملحمي والروائي. وفي موازاة هذا الكم ألتدويني انبثق كم تشكيلي( منحوتات ورسوم) تأثرت وأثرت في هذا النتاج. وسعت السلطتين السياسية والدينية لكسب الجهد الثقافي ألتدويني والتشكيلي إلى جانبهما بأي شكل من الأشكال وحتى العصر الحديث المتأخر(الواقعية الاشتراكية, الرسوم الجدارية المكسيكية) واندمجت فروع الإبداع الفني ألتدويني ومنه الروائي والصوري على اختلافه لتنتج خطابا موحدا يتوافق وخطاب السلطة المؤدلجة. وان اشتغل هذا النتاج ضمن ضوابط الخطاب الجمعي أو المجتمعي الموحد. فان الحداثة الأوربية بأطرها الواسعة فجرت الإبداع الذاتي لدى المبدع كفرد فاعل ومتأثر بذائقة عصره ومحركاته المحيطية والوجدانية. كما هي الأعمال الرومانسية وسليلتها السريالية وصولا إلى الخرافة المعاصرة التي محت الحدود التعبيرية والأسلوبية وانطلقت لآفاق لم تشهدها البشرية سابقا ومن خلال اختلاط المعلومة العلمية والتكنيكية والذات المشتغلة والمعبرة عن واقع جديد تجاوز حتى المدركات الواقعية الملموسة واختلطت فروع الثقافة الإنسانية من خلال تنافذها تدوينيا وصوريا. وكثيرة هي الشواهد على عدم استقلالية الخطاب الروائي أو التشكيلي أو الفيلمي, بل إننا لا نعدم تنافذ شروط إنتاج كل منهما فيما بينهم وحتى السيولة الثقافية المعولمة وأداتها الفيديوية والانترنيت(وكلها صور رقمية). لقد أنتجت النص الروائي التشكيلي(السينمي) والأدائي التشكيلي المسرحي والنص السائل العولمي بهاجس السرد القصصي والصوري والذي بمعظمه ذاتي. أو ذاتيا تحول إلى جمعيا
لقد تعددت الألسن حد تكريس واقعة التعدد هذه لمرجعية خرافية( بابل وتبلبل الألسن), وتعدد الألسن نتج عنه تعدد الثقافات. وبالرغم من هذه التعددية الألسنية الا ان الرواية والفن اشتركا في السمات الأساسية لمصادر مرجعية انتمائهما بشقيها الذاتي والجمعي(الاجتماعي, الميثولوجيا وسلطة التاريخ ورموزه المحركة). وان تمثل التاريخ لنا قصصا. فقد كانت معظمها قصصا رسمية. كما هي في الحضارات القديمة(الآشورية الرافدينية ’ والمصرية واليونانية). أما الميثولوجيا الدينية فقد أورثتنا قصص الذات الجمعية بكل فنتازياتها. وكان الفنان يجهد عبر كل العصور لتلبية متطلبات هذه القصص بالتعبير المتماهي فنيا ومعظمها. وكان في أحيان كثيرة مجرد سارد للقصة الرسمية الملكية أو الإمبراطورية في عصورها الأولى وللحد الذي كان يجد نفسه مجرد عامل ماهر لا يحيد عن ألأسلوبية المتوارثة لصيغ هذه الأعمال والتي شاء الصانع المتقن الأول وضع خطوطها العامة التي تماشي وسلوكية سطوة الحكم وهيبته المدنية والكهنوتية. وهذا ما نلاحظه في كل الموروث التشكيلي الأثري الموازي والمترجم للنصوص المروية لهذه الحضارات. لقد كانت صناعة الفنان وقتها تتناغم وملامح صناعة الكاتب(المؤلف) التدوينية في ملامحها العامة. وتشعبت صور حكاية (ملحمة كلكامش) السومرية,ومن ثمة البابلية, ضمن العديد من المنحوتات والرقم الطينية والأسطوانية. مثلما تم تمثيل الحكايات الأسطورية الأولى مع نصوص أخرى لا تقل أهمية. وهذا ما تثبته الاكتشافات الأثرية لحد الآن .
أثر الخطاب الأيديولوجي (الكهنوتي القديم والحديث, ومنه العهد القديم والجديد والإسلامي والبوذي) والسياسي, وبما أنتجه من ثقافة وعبر العصور التاريخية في خلق أرضية مناسبة من الإرث ألتدويني ومنه الملحمي والروائي. وفي موازاة هذا الكم ألتدويني انبثق كم تشكيلي( منحوتات ورسوم) تأثرت وأثرت في هذا النتاج. وسعت السلطتين السياسية والدينية لكسب الجهد الثقافي ألتدويني والتشكيلي إلى جانبهما بأي شكل من الأشكال وحتى العصر الحديث المتأخر(الواقعية الاشتراكية, الرسوم الجدارية المكسيكية) واندمجت فروع الإبداع الفني ألتدويني ومنه الروائي والصوري على اختلافه لتنتج خطابا موحدا يتوافق وخطاب السلطة المؤدلجة. وان اشتغل هذا النتاج ضمن ضوابط الخطاب الجمعي أو المجتمعي الموحد. فان الحداثة الأوربية بأطرها الواسعة فجرت الإبداع الذاتي لدى المبدع كفرد فاعل ومتأثر بذائقة عصره ومحركاته المحيطية والوجدانية. كما هي الأعمال الرومانسية وسليلتها السريالية وصولا إلى الخرافة المعاصرة التي محت الحدود التعبيرية والأسلوبية وانطلقت لآفاق لم تشهدها البشرية سابقا ومن خلال اختلاط المعلومة العلمية والتكنيكية والذات المشتغلة والمعبرة عن واقع جديد تجاوز حتى المدركات الواقعية الملموسة واختلطت فروع الثقافة الإنسانية من خلال تنافذها تدوينيا وصوريا. وكثيرة هي الشواهد على عدم استقلالية الخطاب الروائي أو التشكيلي أو الفيلمي, بل إننا لا نعدم تنافذ شروط إنتاج كل منهما فيما بينهم وحتى السيولة الثقافية المعولمة وأداتها الفيديوية والانترنيت(وكلها صور رقمية). لقد أنتجت النص الروائي التشكيلي(السينمي) والأدائي التشكيلي المسرحي والنص السائل العولمي بهاجس السرد القصصي والصوري والذي بمعظمه ذاتي. أو ذاتيا تحول إلى جمعيا
.
تتشابه السمات التعبيرية لفروع الإبداع الإنساني لارتباطها بالنزوع التعبيري الذاتي للمبدع أولا وللمؤثرات الاجتماعية المحيطة. وغالبا ما يغلب احدهما على الآخر وان بقيت الذات هي مصدر الحراك الإبداعي الأول على الرغم من تشعب طرق التعبير وأساليبه عبر كل الأزمنة. فالنصوص التدوينية التي اشتغلت على الإرث الجمعي والتي أضفت عليه غرابة قدسية أثرت على أفكار وأساليب فنانين أوربيين لاحقين للحد الذي أبقاهم أسرى غرابة عوالمها الغريبة من خلال تناولهم لمتاهات الذات الكامنة (الميتافيزيقية) المتلبسة ذهنية تنـأى عن محيطها بقدر تنامي محركات خيالها المتساوقة والصور الخيالية لهذه النصوص. كما هو الحال في أعمال الفنانين الفلمنكيين( جيروم بوش و برويل الأب) وكذلك الشاعر الإنكليزي ( وليم بليك) وبعض من نتاج الأسباني( كويا) المتأخر.
تتشكل طقوس وشعائر وممارسات الديانات الشرقية والغربية ضمن ايدولوجيا شمولية تكرس الذات العليا حقلا للممارسة بمطلقية خطابها المكرس لجوهر خطابها وبتفويض من هذه الذات الخالقة حسب تصورها. خطاب يجمع ثنائيات النفس المتعددة وروح الكون المتصور. في مسعى منها لاستحضار الذات الكونية التي تعتقدها كامنة في الذات الإنسانية. الخطاب الميتافيزيقي هذا حمل في ثنايا رواياته(قصصه) المتعددة كما هائلا من صور مخلوقات مرئية وغير مرئية مكرسة كواسطة بين الذات العليا والإنسان. وضمن رواياتها المتعددة عن عوالم الدنيا والآخرة وبمفهوم ثنائياتها المتعددة والتي كرسها الخطاب الديني ومنها العقاب والثواب. سعى العديد من الروائيين والشعراء في كل الثقافات لتناول هذه الروايات والتعمق في إخراج تصوراتهم عنها بما يوازي سلطة الخطاب الديني, واشتغل خيرة الفنانين عبر العصور الحضارية المتعددة لترجمة هذه الروايات بما يوازيها بصريا. وان كانت السلطة الكنسية في أوربا استحوذت على غالبيتها وسيرتها عاملا مساعدا لتثبيت سطوة سلطتها. مع ذلك فان فرادة تجارب بعض الفنانين( بوش و بليك مثلا) شكلت خرقا لمألوفة النتاج الروائي الكنسي. وذلك من خلال: أولا اختياراتهم لصور العالم الثاني ( ما بعد الموت والثواب والعقاب) بشكل تفصيلي خيالي, وثانيا من خلال ترجمة الصور المتخيلة لبعض من ألاعيب السحر والقص الفولكلوري تشكيليا وخاصة عند (بوش) أو الأسباني (كويا). تكمن أهمية نتاجات هؤلاء الفنانين بكونهم خرقوا المألوف من ترجمة النص الروائي(دانتي وملتون) عن مألوفة الرسوم الواقعية المثالية (الكلاسيكية) المفترضة في نتاجات الفنانين المعاصرين لهم, من خلال غرابة تصورهم للإنسان والمخلوقات الافتراضية المصاحبة له في رحلة عوالمهم الغيبية. غرابة أبقتهم على مبعدة من شروط التلقي أو القبول السائدة في زمنهم لمعظم نتاجهم. ولم يكن ذلك نزقا منهم بقدر تحكم القدرات التعبيرية الذاتية في إنتاج أعمالهم وعلى الصيغة التي تتواءم مع تركيبتهم السلوكية والسيكولوجية الذاتية. مثلما تحكمت هذه العوامل في إخراج الأثر الروائي لأصول أعمالهم. واعني من ضمن ذلك (كوميديا دانتي وفردوس ملتون). وان تشكل النتاج الفنتازي لهذين الفنانين(المثالين) ما بين القرن الخامس عشر وحتى الثامن عشر. إلا أن نتاج فنان شرقي مغاير تشكل قبلهم, خلال القرن الثالث عشر في بغداد. هو الآخر اعتمد القصة مجالا واسعا لإنتاج أعماله وبناء شهرته تاريخيا من خلالها, ويدعى هذا الفنان( يحيى الوسطي).
إن كانت الرواية مصدرا إلهاميا عند بوش وبليك, فهي تشكل للفنان الواسطي جغرافيا بيئية لمنطقة تجوال بطل اقصوصاته المعتمدة(أبي زيد السروجي) والمسماة بمصطلحها المتداول ب(المقامات) وهي اقصوصات بلغة عربية مسجوعة(شعرية مخارج حروف الكلمات المنتهية للجمل أو المقاطع النصية(1).أي بمعنى ما هي اقرب إلى اللغة النثرية العربية للعصر الوسيط منها للغة العصرية. والواسطي يتابع الراوي(الحارث بن همام) في تفاصيل سرده لوقائع اقصوصاته(مقاماته) في كل حله وترحاله ملاحقا بطل رواياته وعبر الجغرافيا العربية والمجاورة. انه يدون إضافة إلى إشارة الحدث القصصي للمقامات ملامح هذه الجغرافيا البارزة وبيئاتها وحيواناتها وملامح أناسها وأزياءهم وعماراتهم السكنية ووسائل تنقلاتهم. أي انه يحيط بدقائق النص النظرية ومظهريته البيئية الواقعية في محاولة لخلق نص إبداعي مواز ومزاحم للنص الأصلي. وما يميز ملامح نتاج هذا الفنان التصويرية التدوينية هي صيغ الاختلاف عن مجمل النتاج الفني الصوري الإسلامي لعصره. وفرادته في تأسيس أسلوبيته التي أطلقت عليها تسمية (المدرسة البغدادية في التصوير). تقشف . هوامش أو الحاشية أو الخلفية الزخرفية لبعض رسومه , ليس كما هو حال النتاج الصوري الفارسي أو المغولي(بتفاصيله الدقيقة الميكروسكوبية) لنفس الفترة الزمنية على سبيل المثال. واحتلال مجاميع الرسوم الشخصية غالبية مساحة السطح الصوري وبهيئات قريبة من الهيئات النحتية(الفور مات) الرافدينية , مع التأكيد على إبراز فرادة ملامحهم واختلافات تعبيراتها الموازية لحادثة الرواية. وبشكل عام تشكل رسومه وبموازاة النصوص الروائية منحى لسلوكيات دنيوية لا تجد غضاضة حتى عن نقد سلوكيات بعض رجال الدين الغير سوية. وتشكل نصوصا مغايرة بشكل واضح للنصوص الصورية
المقدسة(الأيقونة). وان كانت رسوم بليك وبوش مغرقة بالنص الديني وهي على مبعدة حداثية من نصوص الواسطي. فان الواسطي اختار منطقة أدائه الدنيوية قبل عصرهم وفي ذروة عصر عربي منفتح على محاور ثقافية متعددة ومختلطة. و شكل نتاجه بعض من ملامح ثقافة ذلك العصر. مثلما شكلت نتاجات الفنانين الآخرين بعض من ملامح عصرهم الذي ساده الخطاب الديني والرومانسي وبأثر من العصور الأوربية السابقة. وما يميز فرادة تجارب هؤلاء الفنانين هو غلبة نوازعهم الذاتية ومحمولاتهم الثقافية على اختياراتهم التصورية والأدائية وبدون الخضوع للسائد من النتاج الثقافي والفني. كذلك ترجمتهم الذاتية لنصوص تحمل فرادتها الأدائية والتصورية وتؤسس لمناطق مغايرة أو مخالفة لمألوفة نصوص زمنها. و تتشكل من خلال ترجمتها لنصوص تصورية مترجمة وموازية للنصوص الروائية على اختلاف مناطقها الأدائية والتعبيرية ولا تبتعد عن رومانسية روح عصرها مع كونها طليعية تؤسس لذائقة مستقبلية تتعدى ذلك الزمن
تتشابه السمات التعبيرية لفروع الإبداع الإنساني لارتباطها بالنزوع التعبيري الذاتي للمبدع أولا وللمؤثرات الاجتماعية المحيطة. وغالبا ما يغلب احدهما على الآخر وان بقيت الذات هي مصدر الحراك الإبداعي الأول على الرغم من تشعب طرق التعبير وأساليبه عبر كل الأزمنة. فالنصوص التدوينية التي اشتغلت على الإرث الجمعي والتي أضفت عليه غرابة قدسية أثرت على أفكار وأساليب فنانين أوربيين لاحقين للحد الذي أبقاهم أسرى غرابة عوالمها الغريبة من خلال تناولهم لمتاهات الذات الكامنة (الميتافيزيقية) المتلبسة ذهنية تنـأى عن محيطها بقدر تنامي محركات خيالها المتساوقة والصور الخيالية لهذه النصوص. كما هو الحال في أعمال الفنانين الفلمنكيين( جيروم بوش و برويل الأب) وكذلك الشاعر الإنكليزي ( وليم بليك) وبعض من نتاج الأسباني( كويا) المتأخر.
تتشكل طقوس وشعائر وممارسات الديانات الشرقية والغربية ضمن ايدولوجيا شمولية تكرس الذات العليا حقلا للممارسة بمطلقية خطابها المكرس لجوهر خطابها وبتفويض من هذه الذات الخالقة حسب تصورها. خطاب يجمع ثنائيات النفس المتعددة وروح الكون المتصور. في مسعى منها لاستحضار الذات الكونية التي تعتقدها كامنة في الذات الإنسانية. الخطاب الميتافيزيقي هذا حمل في ثنايا رواياته(قصصه) المتعددة كما هائلا من صور مخلوقات مرئية وغير مرئية مكرسة كواسطة بين الذات العليا والإنسان. وضمن رواياتها المتعددة عن عوالم الدنيا والآخرة وبمفهوم ثنائياتها المتعددة والتي كرسها الخطاب الديني ومنها العقاب والثواب. سعى العديد من الروائيين والشعراء في كل الثقافات لتناول هذه الروايات والتعمق في إخراج تصوراتهم عنها بما يوازي سلطة الخطاب الديني, واشتغل خيرة الفنانين عبر العصور الحضارية المتعددة لترجمة هذه الروايات بما يوازيها بصريا. وان كانت السلطة الكنسية في أوربا استحوذت على غالبيتها وسيرتها عاملا مساعدا لتثبيت سطوة سلطتها. مع ذلك فان فرادة تجارب بعض الفنانين( بوش و بليك مثلا) شكلت خرقا لمألوفة النتاج الروائي الكنسي. وذلك من خلال: أولا اختياراتهم لصور العالم الثاني ( ما بعد الموت والثواب والعقاب) بشكل تفصيلي خيالي, وثانيا من خلال ترجمة الصور المتخيلة لبعض من ألاعيب السحر والقص الفولكلوري تشكيليا وخاصة عند (بوش) أو الأسباني (كويا). تكمن أهمية نتاجات هؤلاء الفنانين بكونهم خرقوا المألوف من ترجمة النص الروائي(دانتي وملتون) عن مألوفة الرسوم الواقعية المثالية (الكلاسيكية) المفترضة في نتاجات الفنانين المعاصرين لهم, من خلال غرابة تصورهم للإنسان والمخلوقات الافتراضية المصاحبة له في رحلة عوالمهم الغيبية. غرابة أبقتهم على مبعدة من شروط التلقي أو القبول السائدة في زمنهم لمعظم نتاجهم. ولم يكن ذلك نزقا منهم بقدر تحكم القدرات التعبيرية الذاتية في إنتاج أعمالهم وعلى الصيغة التي تتواءم مع تركيبتهم السلوكية والسيكولوجية الذاتية. مثلما تحكمت هذه العوامل في إخراج الأثر الروائي لأصول أعمالهم. واعني من ضمن ذلك (كوميديا دانتي وفردوس ملتون). وان تشكل النتاج الفنتازي لهذين الفنانين(المثالين) ما بين القرن الخامس عشر وحتى الثامن عشر. إلا أن نتاج فنان شرقي مغاير تشكل قبلهم, خلال القرن الثالث عشر في بغداد. هو الآخر اعتمد القصة مجالا واسعا لإنتاج أعماله وبناء شهرته تاريخيا من خلالها, ويدعى هذا الفنان( يحيى الوسطي).
إن كانت الرواية مصدرا إلهاميا عند بوش وبليك, فهي تشكل للفنان الواسطي جغرافيا بيئية لمنطقة تجوال بطل اقصوصاته المعتمدة(أبي زيد السروجي) والمسماة بمصطلحها المتداول ب(المقامات) وهي اقصوصات بلغة عربية مسجوعة(شعرية مخارج حروف الكلمات المنتهية للجمل أو المقاطع النصية(1).أي بمعنى ما هي اقرب إلى اللغة النثرية العربية للعصر الوسيط منها للغة العصرية. والواسطي يتابع الراوي(الحارث بن همام) في تفاصيل سرده لوقائع اقصوصاته(مقاماته) في كل حله وترحاله ملاحقا بطل رواياته وعبر الجغرافيا العربية والمجاورة. انه يدون إضافة إلى إشارة الحدث القصصي للمقامات ملامح هذه الجغرافيا البارزة وبيئاتها وحيواناتها وملامح أناسها وأزياءهم وعماراتهم السكنية ووسائل تنقلاتهم. أي انه يحيط بدقائق النص النظرية ومظهريته البيئية الواقعية في محاولة لخلق نص إبداعي مواز ومزاحم للنص الأصلي. وما يميز ملامح نتاج هذا الفنان التصويرية التدوينية هي صيغ الاختلاف عن مجمل النتاج الفني الصوري الإسلامي لعصره. وفرادته في تأسيس أسلوبيته التي أطلقت عليها تسمية (المدرسة البغدادية في التصوير). تقشف . هوامش أو الحاشية أو الخلفية الزخرفية لبعض رسومه , ليس كما هو حال النتاج الصوري الفارسي أو المغولي(بتفاصيله الدقيقة الميكروسكوبية) لنفس الفترة الزمنية على سبيل المثال. واحتلال مجاميع الرسوم الشخصية غالبية مساحة السطح الصوري وبهيئات قريبة من الهيئات النحتية(الفور مات) الرافدينية , مع التأكيد على إبراز فرادة ملامحهم واختلافات تعبيراتها الموازية لحادثة الرواية. وبشكل عام تشكل رسومه وبموازاة النصوص الروائية منحى لسلوكيات دنيوية لا تجد غضاضة حتى عن نقد سلوكيات بعض رجال الدين الغير سوية. وتشكل نصوصا مغايرة بشكل واضح للنصوص الصورية
المقدسة(الأيقونة). وان كانت رسوم بليك وبوش مغرقة بالنص الديني وهي على مبعدة حداثية من نصوص الواسطي. فان الواسطي اختار منطقة أدائه الدنيوية قبل عصرهم وفي ذروة عصر عربي منفتح على محاور ثقافية متعددة ومختلطة. و شكل نتاجه بعض من ملامح ثقافة ذلك العصر. مثلما شكلت نتاجات الفنانين الآخرين بعض من ملامح عصرهم الذي ساده الخطاب الديني والرومانسي وبأثر من العصور الأوربية السابقة. وما يميز فرادة تجارب هؤلاء الفنانين هو غلبة نوازعهم الذاتية ومحمولاتهم الثقافية على اختياراتهم التصورية والأدائية وبدون الخضوع للسائد من النتاج الثقافي والفني. كذلك ترجمتهم الذاتية لنصوص تحمل فرادتها الأدائية والتصورية وتؤسس لمناطق مغايرة أو مخالفة لمألوفة نصوص زمنها. و تتشكل من خلال ترجمتها لنصوص تصورية مترجمة وموازية للنصوص الروائية على اختلاف مناطقها الأدائية والتعبيرية ولا تبتعد عن رومانسية روح عصرها مع كونها طليعية تؤسس لذائقة مستقبلية تتعدى ذلك الزمن
.
وأخيرا ما دور الأسلوب في إبراز أهمية صياغة التعبير الموافق لتصورات الراوي أو الفنان. في أمثلتنا هذه نكتشف أهمية ذلك من خلال اختلاف أساليب كل منهم بما يوافق ما تبثه نصوصهم المختارة. وباختصار, لقد أضفى كل من(بوش وبليك)طابعا فنتازيا على رسومهما. وبما أن الخطاب الفنتازي يتمتع بخفة وهوائية محتوياته. فقد اشتغل كل منهم على أن تلف شخوصهم المرسومة دوامات متجهة إلى الأعلى إن لم تكن الشخوص نفسها تشكل الدوامة وتفقد ثقلها الأرضي, وخاصة في رسوم (بليك) مما يضفي على هذه الرسوم خفة موازية لخفة شخوصها حالها حال هيئات الشخوص الدينية أو الأسطورية الخيالية المفترضة التي حاورتها رسومهم. أما في رسوم الواسطي فقد اشتغل على إبراز الكتلة الأرضية الثقيلة ومن خلال المنظور الخطي, وليس الجوي(لم يكن معروفا لهذه الشعوب وقتها) كما هو حال الرسوم الإسلامية لتلك العصور. الذي يوظف الحاشية السفلى من الورقة المرسومة. مما عزز المفهوم أو الصيغة الدنيوية المرتبطة بالأرض وليس بالسماء وكان موفقا في تناوله لطبيعة النصوص الروائية الدنيوية التي ترجمها صورا. وسوف تبقى إمكانية التعبير وأدواته الإجرائية تتنافذ وتختلط عبر وسائله المتاحة مادامت تلبي حاجة الإنسان الذاتية والمعرفية الخيالية والواقعية(أو جوارها) وبما يجعلها متاحة للجميع عبر وسائط مختلفة, المتوفر منها أو المكتشف لاحقا.
................................................................................................................................................
وأخيرا ما دور الأسلوب في إبراز أهمية صياغة التعبير الموافق لتصورات الراوي أو الفنان. في أمثلتنا هذه نكتشف أهمية ذلك من خلال اختلاف أساليب كل منهم بما يوافق ما تبثه نصوصهم المختارة. وباختصار, لقد أضفى كل من(بوش وبليك)طابعا فنتازيا على رسومهما. وبما أن الخطاب الفنتازي يتمتع بخفة وهوائية محتوياته. فقد اشتغل كل منهم على أن تلف شخوصهم المرسومة دوامات متجهة إلى الأعلى إن لم تكن الشخوص نفسها تشكل الدوامة وتفقد ثقلها الأرضي, وخاصة في رسوم (بليك) مما يضفي على هذه الرسوم خفة موازية لخفة شخوصها حالها حال هيئات الشخوص الدينية أو الأسطورية الخيالية المفترضة التي حاورتها رسومهم. أما في رسوم الواسطي فقد اشتغل على إبراز الكتلة الأرضية الثقيلة ومن خلال المنظور الخطي, وليس الجوي(لم يكن معروفا لهذه الشعوب وقتها) كما هو حال الرسوم الإسلامية لتلك العصور. الذي يوظف الحاشية السفلى من الورقة المرسومة. مما عزز المفهوم أو الصيغة الدنيوية المرتبطة بالأرض وليس بالسماء وكان موفقا في تناوله لطبيعة النصوص الروائية الدنيوية التي ترجمها صورا. وسوف تبقى إمكانية التعبير وأدواته الإجرائية تتنافذ وتختلط عبر وسائله المتاحة مادامت تلبي حاجة الإنسان الذاتية والمعرفية الخيالية والواقعية(أو جوارها) وبما يجعلها متاحة للجميع عبر وسائط مختلفة, المتوفر منها أو المكتشف لاحقا.
................................................................................................................................................
1ـ كتب هذا النص أصلا لأجل الترجمة للغة الانكليزية. لذلك كان هذا التنويه واجبا.
..........................................................................................
( 09-02-16) علي النجار
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire