الفنان العراقي علي النجار:الصورة مسرحا
................................................
ليس غريبا أن يكون مسرح الصورة من ضمن مكتشفات الحداثة الفائقة بغرائبية صوره التي باتت لا تعد. وما بين مسرح الصورة والصورة مسرحا زمن يمتد من أول اكتشاف احتفالي في الزمن الغابر حتى يومنا هذا. صورا شكلت إرثا غالبا ما فككت المنظومات الثقافية غرائبية تفاصيلها التي لم تكن غريبة أصلا في أزمنتها لكنها اغتربت بفعل تقادمها الثقافي المحيطي. ومابين غرائبية مندثرة وفعل ثقافي متعدي معاصر تشكلت تجارب مسرحية طليعية استلت من الصورة فعلا مغامرا هو احد أفعال المغامرة العولمية الثقافية الكونية الديناميكية.
في بغداد بداية السبعينات لم يكن في نية حميد الجمالي(*) أن يقدم عرضا مسرحيا تقليديا وهو لا يزال طالب فن. ولم يكن منه إلا أن يلغى النص المدون لصالح عرضا شكلت لغته الافصاحية أجساد الممثلين في بادرة منه لتكريس اللغة الجسدية الاشارية بكل أبعاد حركاتها المقننة بنص افتراضي كخلاصة لنص مسرحي سكن مخيلته. أو ربما اجتزأتها ذاكرة غفل بعناية توائم إمكانية تكثيفها مسرحة بصرية لا سردية. بعده ظل المخرج صلاح قصب ملتصقا بتجاربه المسرحية الصورية الرائدة عراقيا. وليكون المجرب الأبعد غورا في هذا المضمار وحتى على المستوى العربي. تجارب مسرحية كهذه غالبا ما يندمج نصها البصري الحركي وسينوكرافيا العرض وأحيانا ما يتعارض معها بحدود تصادمات تصعد من فاعلية لغته ألمشهديه., عروض كهذه هي بالتأكيد استفادت من تجارب مسرحية عالمية حداثية متنوعة وما بعدها, من تمارين (ستانسلافسكي) و مسرح(جروتوفسكي) إلى المسرح الفقير( راينهاردت و أدولف آبيا) أو مسرح (انطونيو ارتو) الصوري الميتافيزيقي. أو التجارب المسرحية الأسكندنافية الصورية الأحدث, بالعديد من أشكالها الأدائية الفنتاسية. لكن تبقى الريادة العراقية وضمن حدود اشتغالات هي وليدة لاجتهادات بحثها عن مناطق استكشافية غالبا ما كان للأثر الثقافي المحلي دور ما في إخراجها.
إن شكل مسرح الصورة لغزا للمشاهد. فان ألغازه لا تغادر منطقة الإمتاع البصري مثلما هي أيضا تفتح أفاقا عديدة للتأويل بمستوياته المتعددة لما تحمله إشاراته الحركية والإيمائية من دلالات واضحة أو مبطنة ومن إثارة مبعثها غرائبية الأداء الجسدي في اشد حالات توتره أو انبساطه وتسارع أو تباطؤ إيقاعاته الحركية. اثارات لم تقتصر على الحيز المكاني المسرحي التقليدي بل هي باتت تطل علينا في العديد من المشاهد الصورية التي يكتظ بها عالمنا المعاصر يوميات لا تخلو من غرابة, لكنها غرابة فقدت بعض من مميزاتها بعد أن كسبت الفتها وكافتراض مفتوح على التخيل ومعزز بإيقونات التكرار ألمشهدي (الصوري) اليومي, غرابة الصور الإعلانية المتلفزه هي إحداها, وبالذات تلك الصور أو اللقطات الفيلمية التي لا تربطها أية رابطة أشارية إلى المادة المعلنة عنها( فواصل الإعلانات التلفزيونية) سوى النص المكتوب والمذيل في نهاية العرض أو المادة العينية للمعلن عنه أو صورة المادة العينية للمعلن عنه. غرائبية هي في مظهريتها عبث ربما يستمد جذره من مسرح اللامعقول أو بمحاذاته, لكنها لا معقولية موظفة بذكاء تجاري جلبا للانتباه للمعلن عنه بعد أن أقصيت أساليب العرض الأخرى من اجل إعادة تفكيكها لما يخدم الغرض التجاري العابر للقارات. فاللغة الاشارية المبهمة لهذه اللقطات الصورية لا تخضع لثقافة معينة بقدر عمومية ثقافتها الاشارية كمحصلة لناتج عولمي نفعي عابر للجغرافيا.
اللا معقول هو بعض من إيحاءات الصورة الافتراضية الممسرحة على مر العصور الماضية. إن لم يكن سلوكا مداهنا لحاشية البلاط فعلى الأقل لمهرجه. وصورة المهرج يشكلها جسده وملامحه الإيحائية. مثلما تشكل غرائبية ملابسه سينوكرافيا عرضه, أما البلاط فهو فضاء عرضه المسرحي. غرائبية لا معقولة تحيط به وتخترق عبثيتها محيطه. لكنها عبثية مغلفة بفعل درامي يشكل ذات المهرج احد أركانه. وهذا الركن الأساسي هو احد إيحاءات مسرح الصورة المعاصر رغم تعدد إغراضه. ولم تكن أفلام شارلي شابلن الأولى هي الأخرى إلا مسرحا صوريا, هو يعترف بذلك حينما يؤرخ لها بان بلاتوه التمثيل وقتها كان مكانا فقيرا وصغيرا و قريب في شكله من منصة المسرح وكان يضطر للتقليد المسرحي في ضبط مسيرة حركته يمينا وشمالا عند دخول المشهد أو الخروج منه. أي بمعنى ما هو لم ينفصل عن الأداء المسرحي, كما لم يستغني عن المهرج الذي في داخله, وان كانت الكوميديا وحتى السوداء هي شاغله فان درسه الصوري هو الآخر لم يمر دون أن يترك أثرا على الفعل الصوري المعاصر مثلما هو مسرح (النو) الياباني الغني في أدائه الحركي والمغرق في تقليديته الموروثة الأثرية و تفرد إيقاعات حركات ممثليه الإيمائية الملغزة و تعدد أقنعتهم كناية عن تعدد الشخصيات وألغازها. لكن ثمة أقنعة أخرى في صور عديدة منتشرة في ساحات مدن أوربا, أجساد هي أقنعة لمهرجين وأباطرة وتماثيل برونزية أثرية تشكل جزأ من مشهد المدينة المعاصرة رغم كونها مشهدية ممسرحة بفعل استعراضي استرزاقي
لا يخلو من اثر إيمائي لصور أثرية من تواريخ ماضية غالبا ما تكون محاذية للأنصاب الأثرية المدنية.
هل شكل المسرح الاستعراضي بعضا من مرجعيات الصورة الممسرحة. مشاهدتي لمسرحية(أوه كلكتا) في مونمارتر(باريس) عام(1977) تؤكد لي ذلك. فشرط الأداء الجسدي كان هو الوحيد في هذا العرض. الجسد عاريا وكما ولدته أمه هو الذي أوصل لنا مضمون العرض الصامت وأدخلنا في متاهات الحدث ودلالاته ليس كالغاز بل بوضوح مقاصده الإيمائية السردية في الحقبة السبعينية. ورغم كون العرض منفتح على غرائبية العري الجسدي, إلا انه وظف هذا العري لغزا مضافا لبقية ألغاز التفكيك ألمشهدي ألمابعد حداثي. وان اختلف في شيء عن عروض الطاحونة الحمراء الباريسية الاستعراضية فاعتقده اختلافا بسيطا استبطن إثارة لممارسات اجتماعية أباح خلالها بعض من محظوراتها. لكن ما تبقى من مشاهدتنا لعرض كهذا يختزل في قابلية الجسد على استحضار الصورة مشهدا قابلا للمعاينة. مثلما هو استعراضا في مسارح الترفيه. رغم كون الترفيه هو الأخر كما الساحر بعض من إغراض المسرح. لكن هل من الممكن أن تكون عروض الأزياء هي الأخرى كذلك: اعتقدها نعم, فخشبة المسرح جاهزة والأداء الجسدي كذلك رغم اختلاف الأغراض(التجارة ..الثقافة..التسويق) والتقاط جزئية من هنا وجزئية من هناك هو بالتأكيد ما يحاوله مسرح الصورة المعاصر.
للرقص الإيمائي أو الحركات الإيمائية(البانتومايم) تقاليده المسرحية مثلما لرقص الباليه وغالبا ما تتشابك الصلات الصورية فيما بينهما, وان تحكمت قوانين الحركة و مديات اداءاتها الزمنية في هذه العروض فكذلك تتحكم فيما بينهما قوانين ممارسات الفعل الدرامي المسرحي. وإذا ما اتصفت المشهدية الصورية للباليه بسعتها. فان الأداء الإيمائي غالبا ما يكون متقشفا في وسائل عرضه المساعدة ويلج أحيانا الممثل الإيمائي مشهدية عرضه منفردا أو مع آخرين, لكن الممثلين غالبا ما يشكلون وحدة صورية متجانسة أو متشضية تطلق العنان لنشاط حركات الجسد حتى أقصى إمكانياتها الأدائية التي لا تخلو من شطارتها البهلوانية أحيانا. وان كان لمشهد الباليه إيقاعاته الموازية والمنسجمة مع طقس موسيقاه فان للتدخلات الإيمائية وقفاتها الخاصة التي بقدر ما تكسر بعض من زخم أو رتابة الإيقاع فإنها أيضا تفعل الحدث المسرحي الذي صاغ تفاصيل عمل الباليه. وإذ اكتسب البانتومايم تسميته اليونانية كفعل أدائي تقليدي (تقليد الشيء صوريا) فان للشرق أيضا فنونه الإيقاعية الإيمائية ,الرقص التقليدي الديني الهندي أو الصيني وبقية شعوب الشرق الأقصى, التي تكتنز كما هائلا من الحركات الإيقاعية الدلالية التي لا تستثني إثناء أداءها اصغر عضو في الجسد مثلما تتشكل فيها كل حركة من حركات أجساد الراقصين كصورة مسرحية منفردة يمكن بعد استيعاب دلالاتها إعادة صياغتها بما يناسب الفعل الأدائي المعاصر. ولم تغب صوره المسرحية بكل عناصرها عن اجتهادات تجميعية أو تفكيكية آو تلسيقية من اجل إعادة صياغاتها وبلا محدودية وليكتسب مسرح الصورة أهميته كمرادف طليعي وكتجربة ما بعد حداثية تنقب في مساحة مفاهيمية واسعة تنسجم وغرائبية عصر الصورة الجديدة.
للفن التشكيلي كذلك طرقه السرية والعلنية لولوج مسرحة الصورة وتبادل الأدوار في زمن اختلاط الوسائل والوسائط. ومثلما الفت قصائد عديدة في أزمنة ليست بعيدة على إيحاءات من رسوم ولا تزال. كذلك اكتنزت رسوما عديدة ومن فترات تاريخية متتابعة مشاهد إحداث تتماثل و المشهدية المسرحية, منها رسومات عديدة لكويا الأسباني(استيهاماته المتأخرة) أو ابن بلده فيلاسكوز(مرسمه مثلا) وان كان بشكل اغرب في لوحة(الغذاء على العشب) لمانيه. وحتى بيكاسو في غالبية أعماله ومنها (الجيرنيكا) التي هي بالأساس مثقلة بحركتها التعبيرية التراجيدية التي تتجاوز في عنفها حتى حيزها الفضائي وسط علبة مسرحها الضيق. لم يخل بشروط إخراج عمله كل من مانيه أو بيكاسو ضمن ضوابطهم الأسلوبية في مجال ابتكاراتهم المشهدية. شخوص مانيه اختارت الطبيعة سيناكرافيا معادلة لتلقائية خلوتهم. لكنه بادل هذه السيناكرافيا ببعض من عريها الطبيعي المتمثل في ممثلته(موديله) العارية, موديل الرسم الذي يتوسط مشهد الخلوة لا يعدو عن كونه غرائبية مسرحية لا معقولة سبقت زمنها. أما جيرنيكا بيكاسو فقد اختارت الفعل الأدائي الإيحائي في أقصى درجات توتره. وان كان الفضاء في عمل مانيه أثيرا(انطباعيا) فانه عند بيكاسو مفككا ومتصادما(تكعيبيا) وبما يوازي مرجعية العملين الإدراكية الثقافية والوجدانية. ولم يقتصر الأمر بعد ذلك على الفعل الصوري في الفن التشكيلي ضمن حيز لوحة الرسم بل تعداه إلى الأداء الجسدي المباشر(بيرفورمانس) في اكتشافات جيل الستينات وما بعده الأوربي. وكان الألماني(جوزيف بويز) مدركا تماما لأهمية أفعاله(العابة) المسرحية التشكيلية الاستعراضية الاستكشافية وبمحفزات الحراك الثقافي الفني ألمابعد حداثي في ولعه لتفكيك المنظومة المعرفية الثقافية وإعادة إنتاجها بما يوازي الاكتشافات التي مهدت لعولمة البحث عن مصادرها في احياز المدرك الآني وما قبله وما تحته من طبقات أخرى تصل حتى تخوم الخيال. مثلما أدرك أهمية الفعل الإنساني الاجتماعي ألابتكاري وقدرة الجسد الأدائية الإيحائية لغنى المدركات الحسية في التصالح والواقع البيئي أو إمكانية تغييره.
في صيف عام(2005)عرض متحف(بانهوف هامبورغ) بعض من أعمال الفنان (فردريش
كريستيان) التركيبية الضوئية. وإن كانت معظم الأعمال التشكيلية التي وظفت ضوء(النيون) اعتمدت نصوصا أو إشارات مدونة, فان أعمال كريستيان وظفت الجسد كوميديا سوداء لا تخلو من تصادمات هي بالأساس كشفا لجوهر الرياء الاجتماعي. حيث وظف الجنس (أنا) مرضية كابحة لكل النوازع الإنسانية والفتها(عمله الذي يظهر فيه شخصين متصافحين وتوقيتا مع امتداد أياديهم بالمصافحة تمتد من الأسفل أعضائهم الذكورية بحركة مشابهة لتلغي بشراسة فعل المجاملة), أو عمله الثاني الذي يظهر فيه بروفيل شخصين متقابلين في حالة حوار لكن أصابع أيديهم تندفع لتفقس عينيهما. وكريستيان في هذه الأعمال يختصر الفعل الدرامي الاشاري على مسطح لوحاته الكهربية في الذروة منه مع توفره على شروطه الإخراجية.
أخيرا يبقى السؤال مقلقا وهو هل كل أفعالنا(تصرفاتنا) هي بالأساس اكتملت أو تكتمل ضمن سلوكيات مجتمعية لا تخلو من إخراج مسرحي, بدءا من تبدلات ملامح وجوهنا, خطواتنا, إيماءات أيادينا, أصابعنا, نظراتنا, وحتى كل عضلة من عضلات جسدنا. وهل نحن غالبا ما نمثل أدوارا هي مجرد صور علينا أن نتقن كادر لقطاتها. مثلما هي الصورة العولمية التي تسوقنا ضمن فضاء سوقها المتعاظم. وهل بإمكاننا أن ندرك أن شاشة العرض المعاصرة ما هي إلا نافذة تبتلعنا بسيل صورها المبرمجة أثيرا متعاظما لا تحده حدود وللحد الذي ربما يدخلنا في متاهات عديدة كانت إحداها متاهتنا الاقتصادية الأخيرة. ويبقى الفعل الإنساني ومن خلال مبتكراته التقنية يقود خطواتنا وعلينا أن نحجز اطر صورنا مقدما. مع ذلك فإننا سوف نبقى نلح على البحث عن إجابات عن كل تساؤلاتنا أو علاماتنا الوجودية وصورنا المفقودة.
.......................................................................................................................
(*).. حديث مع الدكتور حميد الجمالي في مدينة مالمو السويدية.
علي النجار
09-11-14
................................................
ليس غريبا أن يكون مسرح الصورة من ضمن مكتشفات الحداثة الفائقة بغرائبية صوره التي باتت لا تعد. وما بين مسرح الصورة والصورة مسرحا زمن يمتد من أول اكتشاف احتفالي في الزمن الغابر حتى يومنا هذا. صورا شكلت إرثا غالبا ما فككت المنظومات الثقافية غرائبية تفاصيلها التي لم تكن غريبة أصلا في أزمنتها لكنها اغتربت بفعل تقادمها الثقافي المحيطي. ومابين غرائبية مندثرة وفعل ثقافي متعدي معاصر تشكلت تجارب مسرحية طليعية استلت من الصورة فعلا مغامرا هو احد أفعال المغامرة العولمية الثقافية الكونية الديناميكية.
في بغداد بداية السبعينات لم يكن في نية حميد الجمالي(*) أن يقدم عرضا مسرحيا تقليديا وهو لا يزال طالب فن. ولم يكن منه إلا أن يلغى النص المدون لصالح عرضا شكلت لغته الافصاحية أجساد الممثلين في بادرة منه لتكريس اللغة الجسدية الاشارية بكل أبعاد حركاتها المقننة بنص افتراضي كخلاصة لنص مسرحي سكن مخيلته. أو ربما اجتزأتها ذاكرة غفل بعناية توائم إمكانية تكثيفها مسرحة بصرية لا سردية. بعده ظل المخرج صلاح قصب ملتصقا بتجاربه المسرحية الصورية الرائدة عراقيا. وليكون المجرب الأبعد غورا في هذا المضمار وحتى على المستوى العربي. تجارب مسرحية كهذه غالبا ما يندمج نصها البصري الحركي وسينوكرافيا العرض وأحيانا ما يتعارض معها بحدود تصادمات تصعد من فاعلية لغته ألمشهديه., عروض كهذه هي بالتأكيد استفادت من تجارب مسرحية عالمية حداثية متنوعة وما بعدها, من تمارين (ستانسلافسكي) و مسرح(جروتوفسكي) إلى المسرح الفقير( راينهاردت و أدولف آبيا) أو مسرح (انطونيو ارتو) الصوري الميتافيزيقي. أو التجارب المسرحية الأسكندنافية الصورية الأحدث, بالعديد من أشكالها الأدائية الفنتاسية. لكن تبقى الريادة العراقية وضمن حدود اشتغالات هي وليدة لاجتهادات بحثها عن مناطق استكشافية غالبا ما كان للأثر الثقافي المحلي دور ما في إخراجها.
إن شكل مسرح الصورة لغزا للمشاهد. فان ألغازه لا تغادر منطقة الإمتاع البصري مثلما هي أيضا تفتح أفاقا عديدة للتأويل بمستوياته المتعددة لما تحمله إشاراته الحركية والإيمائية من دلالات واضحة أو مبطنة ومن إثارة مبعثها غرائبية الأداء الجسدي في اشد حالات توتره أو انبساطه وتسارع أو تباطؤ إيقاعاته الحركية. اثارات لم تقتصر على الحيز المكاني المسرحي التقليدي بل هي باتت تطل علينا في العديد من المشاهد الصورية التي يكتظ بها عالمنا المعاصر يوميات لا تخلو من غرابة, لكنها غرابة فقدت بعض من مميزاتها بعد أن كسبت الفتها وكافتراض مفتوح على التخيل ومعزز بإيقونات التكرار ألمشهدي (الصوري) اليومي, غرابة الصور الإعلانية المتلفزه هي إحداها, وبالذات تلك الصور أو اللقطات الفيلمية التي لا تربطها أية رابطة أشارية إلى المادة المعلنة عنها( فواصل الإعلانات التلفزيونية) سوى النص المكتوب والمذيل في نهاية العرض أو المادة العينية للمعلن عنه أو صورة المادة العينية للمعلن عنه. غرائبية هي في مظهريتها عبث ربما يستمد جذره من مسرح اللامعقول أو بمحاذاته, لكنها لا معقولية موظفة بذكاء تجاري جلبا للانتباه للمعلن عنه بعد أن أقصيت أساليب العرض الأخرى من اجل إعادة تفكيكها لما يخدم الغرض التجاري العابر للقارات. فاللغة الاشارية المبهمة لهذه اللقطات الصورية لا تخضع لثقافة معينة بقدر عمومية ثقافتها الاشارية كمحصلة لناتج عولمي نفعي عابر للجغرافيا.
اللا معقول هو بعض من إيحاءات الصورة الافتراضية الممسرحة على مر العصور الماضية. إن لم يكن سلوكا مداهنا لحاشية البلاط فعلى الأقل لمهرجه. وصورة المهرج يشكلها جسده وملامحه الإيحائية. مثلما تشكل غرائبية ملابسه سينوكرافيا عرضه, أما البلاط فهو فضاء عرضه المسرحي. غرائبية لا معقولة تحيط به وتخترق عبثيتها محيطه. لكنها عبثية مغلفة بفعل درامي يشكل ذات المهرج احد أركانه. وهذا الركن الأساسي هو احد إيحاءات مسرح الصورة المعاصر رغم تعدد إغراضه. ولم تكن أفلام شارلي شابلن الأولى هي الأخرى إلا مسرحا صوريا, هو يعترف بذلك حينما يؤرخ لها بان بلاتوه التمثيل وقتها كان مكانا فقيرا وصغيرا و قريب في شكله من منصة المسرح وكان يضطر للتقليد المسرحي في ضبط مسيرة حركته يمينا وشمالا عند دخول المشهد أو الخروج منه. أي بمعنى ما هو لم ينفصل عن الأداء المسرحي, كما لم يستغني عن المهرج الذي في داخله, وان كانت الكوميديا وحتى السوداء هي شاغله فان درسه الصوري هو الآخر لم يمر دون أن يترك أثرا على الفعل الصوري المعاصر مثلما هو مسرح (النو) الياباني الغني في أدائه الحركي والمغرق في تقليديته الموروثة الأثرية و تفرد إيقاعات حركات ممثليه الإيمائية الملغزة و تعدد أقنعتهم كناية عن تعدد الشخصيات وألغازها. لكن ثمة أقنعة أخرى في صور عديدة منتشرة في ساحات مدن أوربا, أجساد هي أقنعة لمهرجين وأباطرة وتماثيل برونزية أثرية تشكل جزأ من مشهد المدينة المعاصرة رغم كونها مشهدية ممسرحة بفعل استعراضي استرزاقي
لا يخلو من اثر إيمائي لصور أثرية من تواريخ ماضية غالبا ما تكون محاذية للأنصاب الأثرية المدنية.
هل شكل المسرح الاستعراضي بعضا من مرجعيات الصورة الممسرحة. مشاهدتي لمسرحية(أوه كلكتا) في مونمارتر(باريس) عام(1977) تؤكد لي ذلك. فشرط الأداء الجسدي كان هو الوحيد في هذا العرض. الجسد عاريا وكما ولدته أمه هو الذي أوصل لنا مضمون العرض الصامت وأدخلنا في متاهات الحدث ودلالاته ليس كالغاز بل بوضوح مقاصده الإيمائية السردية في الحقبة السبعينية. ورغم كون العرض منفتح على غرائبية العري الجسدي, إلا انه وظف هذا العري لغزا مضافا لبقية ألغاز التفكيك ألمشهدي ألمابعد حداثي. وان اختلف في شيء عن عروض الطاحونة الحمراء الباريسية الاستعراضية فاعتقده اختلافا بسيطا استبطن إثارة لممارسات اجتماعية أباح خلالها بعض من محظوراتها. لكن ما تبقى من مشاهدتنا لعرض كهذا يختزل في قابلية الجسد على استحضار الصورة مشهدا قابلا للمعاينة. مثلما هو استعراضا في مسارح الترفيه. رغم كون الترفيه هو الأخر كما الساحر بعض من إغراض المسرح. لكن هل من الممكن أن تكون عروض الأزياء هي الأخرى كذلك: اعتقدها نعم, فخشبة المسرح جاهزة والأداء الجسدي كذلك رغم اختلاف الأغراض(التجارة ..الثقافة..التسويق) والتقاط جزئية من هنا وجزئية من هناك هو بالتأكيد ما يحاوله مسرح الصورة المعاصر.
للرقص الإيمائي أو الحركات الإيمائية(البانتومايم) تقاليده المسرحية مثلما لرقص الباليه وغالبا ما تتشابك الصلات الصورية فيما بينهما, وان تحكمت قوانين الحركة و مديات اداءاتها الزمنية في هذه العروض فكذلك تتحكم فيما بينهما قوانين ممارسات الفعل الدرامي المسرحي. وإذا ما اتصفت المشهدية الصورية للباليه بسعتها. فان الأداء الإيمائي غالبا ما يكون متقشفا في وسائل عرضه المساعدة ويلج أحيانا الممثل الإيمائي مشهدية عرضه منفردا أو مع آخرين, لكن الممثلين غالبا ما يشكلون وحدة صورية متجانسة أو متشضية تطلق العنان لنشاط حركات الجسد حتى أقصى إمكانياتها الأدائية التي لا تخلو من شطارتها البهلوانية أحيانا. وان كان لمشهد الباليه إيقاعاته الموازية والمنسجمة مع طقس موسيقاه فان للتدخلات الإيمائية وقفاتها الخاصة التي بقدر ما تكسر بعض من زخم أو رتابة الإيقاع فإنها أيضا تفعل الحدث المسرحي الذي صاغ تفاصيل عمل الباليه. وإذ اكتسب البانتومايم تسميته اليونانية كفعل أدائي تقليدي (تقليد الشيء صوريا) فان للشرق أيضا فنونه الإيقاعية الإيمائية ,الرقص التقليدي الديني الهندي أو الصيني وبقية شعوب الشرق الأقصى, التي تكتنز كما هائلا من الحركات الإيقاعية الدلالية التي لا تستثني إثناء أداءها اصغر عضو في الجسد مثلما تتشكل فيها كل حركة من حركات أجساد الراقصين كصورة مسرحية منفردة يمكن بعد استيعاب دلالاتها إعادة صياغتها بما يناسب الفعل الأدائي المعاصر. ولم تغب صوره المسرحية بكل عناصرها عن اجتهادات تجميعية أو تفكيكية آو تلسيقية من اجل إعادة صياغاتها وبلا محدودية وليكتسب مسرح الصورة أهميته كمرادف طليعي وكتجربة ما بعد حداثية تنقب في مساحة مفاهيمية واسعة تنسجم وغرائبية عصر الصورة الجديدة.
للفن التشكيلي كذلك طرقه السرية والعلنية لولوج مسرحة الصورة وتبادل الأدوار في زمن اختلاط الوسائل والوسائط. ومثلما الفت قصائد عديدة في أزمنة ليست بعيدة على إيحاءات من رسوم ولا تزال. كذلك اكتنزت رسوما عديدة ومن فترات تاريخية متتابعة مشاهد إحداث تتماثل و المشهدية المسرحية, منها رسومات عديدة لكويا الأسباني(استيهاماته المتأخرة) أو ابن بلده فيلاسكوز(مرسمه مثلا) وان كان بشكل اغرب في لوحة(الغذاء على العشب) لمانيه. وحتى بيكاسو في غالبية أعماله ومنها (الجيرنيكا) التي هي بالأساس مثقلة بحركتها التعبيرية التراجيدية التي تتجاوز في عنفها حتى حيزها الفضائي وسط علبة مسرحها الضيق. لم يخل بشروط إخراج عمله كل من مانيه أو بيكاسو ضمن ضوابطهم الأسلوبية في مجال ابتكاراتهم المشهدية. شخوص مانيه اختارت الطبيعة سيناكرافيا معادلة لتلقائية خلوتهم. لكنه بادل هذه السيناكرافيا ببعض من عريها الطبيعي المتمثل في ممثلته(موديله) العارية, موديل الرسم الذي يتوسط مشهد الخلوة لا يعدو عن كونه غرائبية مسرحية لا معقولة سبقت زمنها. أما جيرنيكا بيكاسو فقد اختارت الفعل الأدائي الإيحائي في أقصى درجات توتره. وان كان الفضاء في عمل مانيه أثيرا(انطباعيا) فانه عند بيكاسو مفككا ومتصادما(تكعيبيا) وبما يوازي مرجعية العملين الإدراكية الثقافية والوجدانية. ولم يقتصر الأمر بعد ذلك على الفعل الصوري في الفن التشكيلي ضمن حيز لوحة الرسم بل تعداه إلى الأداء الجسدي المباشر(بيرفورمانس) في اكتشافات جيل الستينات وما بعده الأوربي. وكان الألماني(جوزيف بويز) مدركا تماما لأهمية أفعاله(العابة) المسرحية التشكيلية الاستعراضية الاستكشافية وبمحفزات الحراك الثقافي الفني ألمابعد حداثي في ولعه لتفكيك المنظومة المعرفية الثقافية وإعادة إنتاجها بما يوازي الاكتشافات التي مهدت لعولمة البحث عن مصادرها في احياز المدرك الآني وما قبله وما تحته من طبقات أخرى تصل حتى تخوم الخيال. مثلما أدرك أهمية الفعل الإنساني الاجتماعي ألابتكاري وقدرة الجسد الأدائية الإيحائية لغنى المدركات الحسية في التصالح والواقع البيئي أو إمكانية تغييره.
في صيف عام(2005)عرض متحف(بانهوف هامبورغ) بعض من أعمال الفنان (فردريش
كريستيان) التركيبية الضوئية. وإن كانت معظم الأعمال التشكيلية التي وظفت ضوء(النيون) اعتمدت نصوصا أو إشارات مدونة, فان أعمال كريستيان وظفت الجسد كوميديا سوداء لا تخلو من تصادمات هي بالأساس كشفا لجوهر الرياء الاجتماعي. حيث وظف الجنس (أنا) مرضية كابحة لكل النوازع الإنسانية والفتها(عمله الذي يظهر فيه شخصين متصافحين وتوقيتا مع امتداد أياديهم بالمصافحة تمتد من الأسفل أعضائهم الذكورية بحركة مشابهة لتلغي بشراسة فعل المجاملة), أو عمله الثاني الذي يظهر فيه بروفيل شخصين متقابلين في حالة حوار لكن أصابع أيديهم تندفع لتفقس عينيهما. وكريستيان في هذه الأعمال يختصر الفعل الدرامي الاشاري على مسطح لوحاته الكهربية في الذروة منه مع توفره على شروطه الإخراجية.
أخيرا يبقى السؤال مقلقا وهو هل كل أفعالنا(تصرفاتنا) هي بالأساس اكتملت أو تكتمل ضمن سلوكيات مجتمعية لا تخلو من إخراج مسرحي, بدءا من تبدلات ملامح وجوهنا, خطواتنا, إيماءات أيادينا, أصابعنا, نظراتنا, وحتى كل عضلة من عضلات جسدنا. وهل نحن غالبا ما نمثل أدوارا هي مجرد صور علينا أن نتقن كادر لقطاتها. مثلما هي الصورة العولمية التي تسوقنا ضمن فضاء سوقها المتعاظم. وهل بإمكاننا أن ندرك أن شاشة العرض المعاصرة ما هي إلا نافذة تبتلعنا بسيل صورها المبرمجة أثيرا متعاظما لا تحده حدود وللحد الذي ربما يدخلنا في متاهات عديدة كانت إحداها متاهتنا الاقتصادية الأخيرة. ويبقى الفعل الإنساني ومن خلال مبتكراته التقنية يقود خطواتنا وعلينا أن نحجز اطر صورنا مقدما. مع ذلك فإننا سوف نبقى نلح على البحث عن إجابات عن كل تساؤلاتنا أو علاماتنا الوجودية وصورنا المفقودة.
.......................................................................................................................
(*).. حديث مع الدكتور حميد الجمالي في مدينة مالمو السويدية.
علي النجار
09-11-14
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire