موت اللوحة وهجرة الجمال
أ.د. اياد الحسيني عبد الله
استاذ فلسفة التصميم
بعد رحلة طويلة مع الالم ، ابتدات بجدران الكهوف وقاعات المتاحف وصالات العرض وجدران القصور تعلن اللوحة الفنية موتها ، بعد ان غادرها الجمال الى غير رجعة.
ولعل اول المفجوعين بموتها هم الفنانين التشكيليين الذين سيلقون بادواتهم بعد ان انهكتها الرحلة الطويلة واتعبها عناء تعابيرهم وصراعاتهم.
ولعل خاصة مشيعيها هم النقاد الذين ما انفكوا يستنطقونها بمناهج شتى مرة مادحين وتارة مقومين واخرى قادحين .
ولعل كل الحاضرين في مراسم دفنها ، جمهورها الضئيل الذي ما فتئ يجول بين صالات العرض ومزادات بيعها مرة مقتنين وتارة بائعين واخرى مزورين .واعلنت اللوحة موتها كما اعلنت كثيرا من العلوم والفنون من قبل نزقها الاخير.
شاهد الحضارة هذه ، المزهوة برموز الجمال والمتخمة بدلالات التعبير اقترن بها الهرم من زمن بعيد ، مذ بدات رمزا دينيا معبرا عن الطقوس والمعتقدات ، ثم انطوت تحت رداء الفلسفة عندما كان سمو الموضوع في الحضارة الاغريقية تعبيرا عن امجاد وصلتها في الفكر، ثم بلغت امجادها في عصر النهضة منذ دافنشي وانجلو ورافائيل ، ثم وصلت اهم مراحل تحولاتها في القرن التاسع عشر على ايدي سيزان ومانيه ومونيه وفان كوخ واخرين .
تنقلت في مسيرة عنائها الطويل بين الكلاسيكية والواقعية والانطباعية والسريالية والتجريدية والتعبيرية والحداثة وما بعدها ، قديمها وجديدها ، وكان يصحبها اجيالا من الرسامين والنحاتين مقحمة نفسها في مجتمعات كثيرة لعل افضلها كان الفنان فيها تعيسا متقعا . وحدها كانت عيون الصفوة المثقفة الواعية تتفرسها وتتملى جمالها وتدرك فحواها .
على الرغم من ان العديد من اللوحات كانت مواضيعها تتضمن مشاهد قتال وعنف وتصور ابطالا الا انها لم تدخل موضوع الصراع الا بعد الثورة الصناعية ، اذ لم يعد مفهومها يعني ذلك النسق القديم الذي ينسجم مع القصور والملوك والاباطرة ، لان الثورة الصناعية رغم عظم تبادل تاثيرها في تطور الفكر والانسان والانتاج ، الا انها كانت في ذات الوقت سببا اساسيا لفكرة الاستعمار والاضطهاد وشيوع القهر والاستعباد والكراهية ، عندما احتاجت الدول الصناعية الى موارد وايدي عاملة خارج حدودها بعد ان عجزت كل مواردها عن تلبية الثورة الجديدة ، ولم يكن من وسيلة للحصول على الموارد الجديدة الا السطو والسرقة واستعباد الشعوب .
وجد الفنان الانسان فجأة ، ان ذلك الرغيف الذي يتناوله اضحى مغمسا بذل القهر والهوان والعبودية ، وان ملامح الطبيعة والزهور ومفاتنها كرموز في اللوحة الفنية لم تعد قادرة على تطهير ذلك الرغيف .
تحولت اللوحة الى شاهد على ذلك الصراع بين القسوة والالم ، بين الاستغلال والجشع ، بين بقائه او فنائه ، وتحولت رموز الجمال من دلالات الفرح الى ذلك الجمال الذي يدعو الى الحزن والالم والبؤس، حتى وصلت امكانات الفنان على اقتناص الرموز المعبرة مقياسا للتجربة الذاتية الخلاقة التي تشهد على امكانات مبدعها طيلة القرن العشرين .
لاشك ان للوحة عبر تاريخها الطويل كان لها اهدافا عديدة ووظائف شتى الا ان ماخلصت اليه هو ذلك السحر الخلاب الذي ندعوه الجمال بانواعه والذي ياسر القلوب ويفتن العقول ولشد ما كنا بحاجة الى جرعات منه في كل حين لكي تكون الحياة ممكنة ، ولشد ما بحث عنها متذوقوا الجمال بشغف كبير ، بينما كانت في ذات الوقت لاتعني شيئا للاغلبية الساحقة من البشر .
فلم تكن اللوحة تعني للحمال الا ذلك الشيء الذي يحمله ، ومن اي الجهات يربطه ، ولم تكن تعني للنجار سوى تلك الاخشاب التي يثبتها بمسامير من جهاتها الاربعة ، الا انها كانت تعني للفنان الكثير مما يلخص تجربته الحياتية والمعرفية وقدراته الخلاقة التي تضيف للحياة شيئا جديد .
نعم انها جرعة الجمال ذلك السحر الخلاب الذي استولى علينا لقرون طويله باحثين عنه في شتى بقاع الارض والمجتمعات . ولكنها لم تعد كذلك .
فقد هجر الجمال اللوحه بعد ان غادر المتاحف والقصور ولم نعد نسمع بأحد يزور المتاحف ويرتاد القاعات لان تحولات الحياة والمناخ السائد استقبل الجمال المهاجر من المتاحف استقبله في الاسواق والشوارع والمنازل ، عندما غزت التكنولوجيا والخامات والمواد والادوات والصناعات كل زوايا حياتنا المعاصرة .
فكان لكل منتج مزايا الجمال الخاص به وبضروراته انه جمال من نوع جديد يبرز من خلال الوظيفة والاستخدام والاداة والنفع .
نعم انها جرعة الجمال التي تولد المتعه والتي لم تعد بالضرورة مرتبطه بلوحه او تمثال وانما قد تكون منبعثه من جهاز موبايل او سيارة حديثة او مشاهدة فلم او شراء حذاء جديد .
ولم تكن التكنولوجيا والخامات الجديدة السبب الوحيد في هذه التحولات وانما دخول العديد من المناهج النظرية والتيارات الفكرية مع اللوحة الفنية والتي لم تعد تعني مهارات التفوق الحرفية الناتجة عن اتقان الصنعة ، وانما اصبحت نصا بصريا فكريا يخضع لمشكلة التاريخ وصعوبة التفسير وهذا طبيعي لان اللوحة كانت تعيش المناخ الفكري الذي يمر عبر المجتمع في كل تحولاته .
وهكذا اصبح من المألوف ان نرى بقايا متفسخة في قاعة عرض او مجموعة نفايات نستقي منها جرعة الجمال التي تفرضها رؤية الفنان او مساحة لونية واحدة يريد الفنان ان يقنعنا بأنها العالم الكبير الذي لاحدود له .
ولم تكن اشكالية الحضارة بين المنتج والمستهلك ببعيدة عن الفن فقد بقي الجمهور ولزمن طويل مستهلكا للفن الى ان واجهت نظرية التلقي والتاويل جمهور الفن بثورة كبيرة عندما حولته الى مشارك في انتاج اللوحة الفنية حتى يستوعب جمالها ، فكانت الخيبة كبيرة عندما اصبحت اللوحة في واد وجمهورها في واد ،فهل عجزت اللوحة عن اداء دورها الحضاري في هذا الزمن مقارنة بمفردات الحضارة المختلفة ، ام تخلف الجمهور عن ادراك مغزاها ودورها في الحياة .
كانت الهوة تزداد يوما بعد يوم الى ان وجد الانسان ان الجمال الذي يحصل عليه من ساندويج همبركر خير من الف لوحة غير مفهومة ولا تعني له شيئ .
في احدى مذكراتها كانت اللوحة وثيقة الصلة بعصر الرومانسية والرخاء اذ كانت تضفي على ذلك الزمن صورة مكتملة الابعاد وغادرتنا بعد ان غادرنا العصر الرومانسي الى عصر التمرد واهوال السياسة والاضطهاد .
وقبل ان تودعنا اضحت غير قادرة عن التعبير عن حركة الحياة المختلفة ضمن التكنولوجيا السريعة التي لم تعد تترك لنا مساحة للتامل والتفكر والتدبر
وكنت كاحد المفجوعين بموتها والغير اسف على رحيلها اطلب من اللوحة اكثر مما خلقت لاجله واصاب بالخيبة عندما لااجد ان العالم قد تغير بعد ان انجزتها . وكنت اشعر كما هو حال المبدعين ان تلك الولادة العسيرة لم تكن تعني احدا في الكون سواي ، وانها ليست سوى شاهد على مأساة ذلك الانسان منذ ولد ، وتعبيراعن مرارة صراع ازلي ، لم يشأ يترك له الا الياس.
اعلنت اللوحة موتها فمات الشاهد
وهجرها الجمال فغدى القبح مقياس الحقيقة
حتى قيدت الماساة ضد مجهول .
*عميد الكلية العلمية للتصميم - مسقط
استاذ فلسفة التصميم
بعد رحلة طويلة مع الالم ، ابتدات بجدران الكهوف وقاعات المتاحف وصالات العرض وجدران القصور تعلن اللوحة الفنية موتها ، بعد ان غادرها الجمال الى غير رجعة.
ولعل اول المفجوعين بموتها هم الفنانين التشكيليين الذين سيلقون بادواتهم بعد ان انهكتها الرحلة الطويلة واتعبها عناء تعابيرهم وصراعاتهم.
ولعل خاصة مشيعيها هم النقاد الذين ما انفكوا يستنطقونها بمناهج شتى مرة مادحين وتارة مقومين واخرى قادحين .
ولعل كل الحاضرين في مراسم دفنها ، جمهورها الضئيل الذي ما فتئ يجول بين صالات العرض ومزادات بيعها مرة مقتنين وتارة بائعين واخرى مزورين .واعلنت اللوحة موتها كما اعلنت كثيرا من العلوم والفنون من قبل نزقها الاخير.
شاهد الحضارة هذه ، المزهوة برموز الجمال والمتخمة بدلالات التعبير اقترن بها الهرم من زمن بعيد ، مذ بدات رمزا دينيا معبرا عن الطقوس والمعتقدات ، ثم انطوت تحت رداء الفلسفة عندما كان سمو الموضوع في الحضارة الاغريقية تعبيرا عن امجاد وصلتها في الفكر، ثم بلغت امجادها في عصر النهضة منذ دافنشي وانجلو ورافائيل ، ثم وصلت اهم مراحل تحولاتها في القرن التاسع عشر على ايدي سيزان ومانيه ومونيه وفان كوخ واخرين .
تنقلت في مسيرة عنائها الطويل بين الكلاسيكية والواقعية والانطباعية والسريالية والتجريدية والتعبيرية والحداثة وما بعدها ، قديمها وجديدها ، وكان يصحبها اجيالا من الرسامين والنحاتين مقحمة نفسها في مجتمعات كثيرة لعل افضلها كان الفنان فيها تعيسا متقعا . وحدها كانت عيون الصفوة المثقفة الواعية تتفرسها وتتملى جمالها وتدرك فحواها .
على الرغم من ان العديد من اللوحات كانت مواضيعها تتضمن مشاهد قتال وعنف وتصور ابطالا الا انها لم تدخل موضوع الصراع الا بعد الثورة الصناعية ، اذ لم يعد مفهومها يعني ذلك النسق القديم الذي ينسجم مع القصور والملوك والاباطرة ، لان الثورة الصناعية رغم عظم تبادل تاثيرها في تطور الفكر والانسان والانتاج ، الا انها كانت في ذات الوقت سببا اساسيا لفكرة الاستعمار والاضطهاد وشيوع القهر والاستعباد والكراهية ، عندما احتاجت الدول الصناعية الى موارد وايدي عاملة خارج حدودها بعد ان عجزت كل مواردها عن تلبية الثورة الجديدة ، ولم يكن من وسيلة للحصول على الموارد الجديدة الا السطو والسرقة واستعباد الشعوب .
وجد الفنان الانسان فجأة ، ان ذلك الرغيف الذي يتناوله اضحى مغمسا بذل القهر والهوان والعبودية ، وان ملامح الطبيعة والزهور ومفاتنها كرموز في اللوحة الفنية لم تعد قادرة على تطهير ذلك الرغيف .
تحولت اللوحة الى شاهد على ذلك الصراع بين القسوة والالم ، بين الاستغلال والجشع ، بين بقائه او فنائه ، وتحولت رموز الجمال من دلالات الفرح الى ذلك الجمال الذي يدعو الى الحزن والالم والبؤس، حتى وصلت امكانات الفنان على اقتناص الرموز المعبرة مقياسا للتجربة الذاتية الخلاقة التي تشهد على امكانات مبدعها طيلة القرن العشرين .
لاشك ان للوحة عبر تاريخها الطويل كان لها اهدافا عديدة ووظائف شتى الا ان ماخلصت اليه هو ذلك السحر الخلاب الذي ندعوه الجمال بانواعه والذي ياسر القلوب ويفتن العقول ولشد ما كنا بحاجة الى جرعات منه في كل حين لكي تكون الحياة ممكنة ، ولشد ما بحث عنها متذوقوا الجمال بشغف كبير ، بينما كانت في ذات الوقت لاتعني شيئا للاغلبية الساحقة من البشر .
فلم تكن اللوحة تعني للحمال الا ذلك الشيء الذي يحمله ، ومن اي الجهات يربطه ، ولم تكن تعني للنجار سوى تلك الاخشاب التي يثبتها بمسامير من جهاتها الاربعة ، الا انها كانت تعني للفنان الكثير مما يلخص تجربته الحياتية والمعرفية وقدراته الخلاقة التي تضيف للحياة شيئا جديد .
نعم انها جرعة الجمال ذلك السحر الخلاب الذي استولى علينا لقرون طويله باحثين عنه في شتى بقاع الارض والمجتمعات . ولكنها لم تعد كذلك .
فقد هجر الجمال اللوحه بعد ان غادر المتاحف والقصور ولم نعد نسمع بأحد يزور المتاحف ويرتاد القاعات لان تحولات الحياة والمناخ السائد استقبل الجمال المهاجر من المتاحف استقبله في الاسواق والشوارع والمنازل ، عندما غزت التكنولوجيا والخامات والمواد والادوات والصناعات كل زوايا حياتنا المعاصرة .
فكان لكل منتج مزايا الجمال الخاص به وبضروراته انه جمال من نوع جديد يبرز من خلال الوظيفة والاستخدام والاداة والنفع .
نعم انها جرعة الجمال التي تولد المتعه والتي لم تعد بالضرورة مرتبطه بلوحه او تمثال وانما قد تكون منبعثه من جهاز موبايل او سيارة حديثة او مشاهدة فلم او شراء حذاء جديد .
ولم تكن التكنولوجيا والخامات الجديدة السبب الوحيد في هذه التحولات وانما دخول العديد من المناهج النظرية والتيارات الفكرية مع اللوحة الفنية والتي لم تعد تعني مهارات التفوق الحرفية الناتجة عن اتقان الصنعة ، وانما اصبحت نصا بصريا فكريا يخضع لمشكلة التاريخ وصعوبة التفسير وهذا طبيعي لان اللوحة كانت تعيش المناخ الفكري الذي يمر عبر المجتمع في كل تحولاته .
وهكذا اصبح من المألوف ان نرى بقايا متفسخة في قاعة عرض او مجموعة نفايات نستقي منها جرعة الجمال التي تفرضها رؤية الفنان او مساحة لونية واحدة يريد الفنان ان يقنعنا بأنها العالم الكبير الذي لاحدود له .
ولم تكن اشكالية الحضارة بين المنتج والمستهلك ببعيدة عن الفن فقد بقي الجمهور ولزمن طويل مستهلكا للفن الى ان واجهت نظرية التلقي والتاويل جمهور الفن بثورة كبيرة عندما حولته الى مشارك في انتاج اللوحة الفنية حتى يستوعب جمالها ، فكانت الخيبة كبيرة عندما اصبحت اللوحة في واد وجمهورها في واد ،فهل عجزت اللوحة عن اداء دورها الحضاري في هذا الزمن مقارنة بمفردات الحضارة المختلفة ، ام تخلف الجمهور عن ادراك مغزاها ودورها في الحياة .
كانت الهوة تزداد يوما بعد يوم الى ان وجد الانسان ان الجمال الذي يحصل عليه من ساندويج همبركر خير من الف لوحة غير مفهومة ولا تعني له شيئ .
في احدى مذكراتها كانت اللوحة وثيقة الصلة بعصر الرومانسية والرخاء اذ كانت تضفي على ذلك الزمن صورة مكتملة الابعاد وغادرتنا بعد ان غادرنا العصر الرومانسي الى عصر التمرد واهوال السياسة والاضطهاد .
وقبل ان تودعنا اضحت غير قادرة عن التعبير عن حركة الحياة المختلفة ضمن التكنولوجيا السريعة التي لم تعد تترك لنا مساحة للتامل والتفكر والتدبر
وكنت كاحد المفجوعين بموتها والغير اسف على رحيلها اطلب من اللوحة اكثر مما خلقت لاجله واصاب بالخيبة عندما لااجد ان العالم قد تغير بعد ان انجزتها . وكنت اشعر كما هو حال المبدعين ان تلك الولادة العسيرة لم تكن تعني احدا في الكون سواي ، وانها ليست سوى شاهد على مأساة ذلك الانسان منذ ولد ، وتعبيراعن مرارة صراع ازلي ، لم يشأ يترك له الا الياس.
اعلنت اللوحة موتها فمات الشاهد
وهجرها الجمال فغدى القبح مقياس الحقيقة
حتى قيدت الماساة ضد مجهول .
*عميد الكلية العلمية للتصميم - مسقط
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire