المبدع علي النجار
كونست راي(2009) ـ أمستردام الخامس والعشرين*
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس عرض أل( كونست راي ـ أمستردام) هذا العام كسابق عروضه الماضية كونه يمثل احتفالية نحاسية( خمس وعشرون عاما من عمره). بالرغم من الاهتمام الزائد من قبل منظمي هذه الفعالية التشكيلية السنوية المهمة لإظهارها بما يناسبها من خلال إشراكهم لعروض مؤسسات متحفية عديدة اظافة للعروض التقليدية لحوالي مائة وخمس وعشرون قاعة ومؤسسة عرض تشكيلي هولندية(وهي الغالبية) مع بعض عروض القاعات المساهمة من خارج هولندا. لكن, وبالرغم من كل الاستعدادات فإن منظمي هذا العرض لم يستطيعوا أن يتجاوزوا الثغرة التسويقية( والتسويق هو هدف العرض أساسا, بحيث يتناسب و مكانة التسويق عموما وبكل أشكاله وبما يتطابق وعنوانه ـ الراي ـ). فالثقافة لا تزدهر فروعها في أوربا كما في بقية دول العالم بدون التمويل الكافي الذي يغطي أنشطة فروعها المختلفة, لكن, لم يعد خافيا ما فعلته الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على هذا النشاط الإنساني الثقافي التشكيلي الذي تفاخر به أوربا, للحد الذي اضطرت فيه بعض المتاحف التشكيلية الهولندية الإعلان عن إشهار إغلاقها عن قريب. ومن ضمنها متحف( ستادلك أمستردام) المساهم والداعم لعرض الراي هذا. وبما أن ازدهار الثقافة وديمومة عطائها في أوربا يعتمد على تمويل أنشطتها المختلفة بكل مفاصلها. فبالتأكيد سوف تتسبب شحة مصادر التمويل في إعاقات لبعض من مفاصلها, وهي أزمة لم تكن وليدة يومنا أصلا لكنها الآن ربما تؤدي إلى تغييرات منظورة في أنظمة عروضها فبالوقت الذي باتت فيه الأنشطة الفنية وبشكل عام أكثر انزياحا للذائقة الشعبية ومن خلال حراك استمد مشروعيته من الزمن ألمابعد حداثي وذائقته الاستهلاكية الشعبية وسياسة الترويج لها بكل ما تمتلكه وسائل الدعاية من إمكانيات هائلة, مما يعني أن هذه الأزمة ربما تصب في حراك التغيير المستمر في مجال أنشطة وطرق عروضها وصلتها بالمتلقي عموما وبما يتماشى والذائقة الشعبية أو بعض من مناطقها الرخوة القابلة لتقبل الأعمال التشكيلية الهجينة بمعنى تعدد وسائلها ووسائطها. وعلى العموم فان هذا التنافذ أصبح سمة بارزة في العديد من المهرجانات التشكيلية وبات الجمهور المتلقي يلجها كعامل حواري فاعل.
الاهتمام بعروض التشكيليين الشباب ميزة هذا العرض البانارومي. وأمر كهذا وفي هذا الموقع الاستعراضي لم يكن وليد صدفة أو رغبة ذاتية لمنظمي العرض. بل جاء دعما مدروسا لإظهار بعض من الخطوط العامة لمسارات التجارب التشكيلية المستقبلية التي تمثلها هذه المختارات من أعمال أعلنت بعض من قطيعتها أو تقاطعها مع اعمال الأجيال السابقة. العديد من هذه الأعمال ورغم عدم انفصامها بشكل كامل عن أنماط تشكيلية سابقة, فهي تبدو مهجنة بالاستعارة والمزج والابتكار والاستكشاف, و ضياع الخطوط الأسلوبية لأعمالهم يدعونا لنبذ كل حصيلتنا المعرفية النقدية والذوقية السابقة والنظر لما تقترحه هي من تأويلات ترتبط بزمن تنفيذها واشتغالاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, المتجاورة والمتحاورة والمتصادمة. وبالتأكيد أزمنة كهذه لا تقبل التصريف لوجهة نظر واحدة, حتى وان كانت ذائقيه. لذلك وحسب تجربتنا الزمنية أحيانا ومن خلال تلقينا للعديد من هذه الأعمال غالبا ما نصاب بخيبة أمل أو حيرة من أمرها, بما أن زمنها تجاوزنا. وهو أمر يدعونا لمراجعات مستمرة لاختبار قدراتنا الإدراكية في مسعى لتدارك ثغرتها الزمنية. فلكون لا جدوى إن شئنا أم أبينا من ثبات ذائقتنا, فعلينا في هذه الحالة تجاوز الانفعال الحاصل مما تثيره فينا الصدمة ألأولية المتشكلة من ثغرات معرفية وذوقية أو إدراكية, فكلها خاضعة للتغير والحراك الزمني الهش والصلب في نفس الوقت. فالمستقبل لأناس المستقبل ولا يجوز لنا أن نقصي أنفسنا بتقوقعنا في شرنقة الذائقة الماضية أو الزائلة في عصر فقدت فيه السمات الرومانسية جذوة عذريتها إن كان لنا منها شيء. وبات الأمان الشخصي والمقدرة الشرائية وهي من مقومات العيش هاجسا ارأس.
بعض الأعمال المشاركة لفنانين غير أوربيين في هذا العرض تحمل صفاتها الخاصة بالرغم من أنها تقترب في صنعتها من الأثر الغربي أو هي مشتقة منه لكنها تختلف عنه في توظيفها لمقاصدها الأثرية, الميثولوجية, أو السياسية وغير بعيد عن الخطاب السائد. ولنا مثلا في عمل الفنانة الإسرائيلية(أفرات زهافي(1) مواليد(1974) والفنان المغربي(منير فاطمي) مواليد(1970) فكلاهما اشتغل في عمله على الفكرة ألمفهوميه التي تحاول إيصال شفرتها بما يتفق ومحركات ذهنيتهما أو مدياتها التاريخية أو الآنية وغير بعيد عن تأثيرات محيطهم وحراكه السياسي. فالأثر وهو (هيبري) انثروبولوجي طاغي عند زهافي يعلن سلطته كمطلق قناعة ومطلق إيمان أو خرافة. العمل تنصيبا لسكن من عدة طوابق تكتظ بسلوكيات حياة أناسها العلنية والسرية وحتى الجنسية, تفاصيلهم النحتية الكاريكاتورية التي احتلت فراغات فضاءاتها وحتى مجموع شاشات العروض الفيديوية تكرس هاجس الأسطورة المصنعة والمعلبة سكنا اصطناعيا تباركه الآلهة التي تهيمن بشخصها من الأعلى وبعين هي مصدر صوت للتراتيل العبرية كتثبيت لخطاب مبرر لكل السلوكيات والأستحواذات وبقدر ما تخدر ميلوديته الأحاسيس. أما الفنان الفاطمي فقد اشتغل على النص الديني الكاليغرافي وعمله المعروض في هذا العرض يشير إلى الضد من نوايا أفرات التي كرست الأثر نصا مطلقا ومهيمنا. الفاطمي يفكك هذا النص وبالذات في الممارسات التي أهدرت شرعيته وتسببت في اختراقات لخصوصيته القدسية. مثلما يحيلنا وبوضوح أكثر إلى عمله الذي نفذه في عام (2004) والمعنون العلاقة أو الرابطة والذي يربط فيه بموصلات سلكية مابين الرمز الديني, الكتاب القرآني, وعلبة الاختبارات وصورة عن الحلم الأيروتيكي السماوي, صانعا من هذه الأنساق الرمزية لغزا هو الأقرب في تفسيره لمحفزات عصاب الإرهاب ونرجسيته الجنسية. الفنان هنا اختار أن يفكك ادعاء القداسة المشبوه أو المفخخ لا أن يتطامن أو يتوافق والخطاب التاريخي له كما فعلت الفنانة الأسرائيلة. ومحاولاته الأخرى المتعددة تندرج ضمن مفهوميه التفكيك بنوايا الكشف لا التدمير رغم التباس نوايا خطابها أحيانا. خطاب مارسه العديد من الفنانين العرب المغتربين.
من آسيا تميزت مساهمات الفنان الكوري سونكسو كيم(2) بخصوصية معالجته للرسوم الشخصية وبملامحها المحلية. خصوصية استمدت مظهريتها من مادة التنفيذ (الاكريلك) وملامح الملصق الإعلاني. فالشخوص في رسومه تحتل جزءا من فراغاتاتها أو فضاءاتها و قابلة لهاجس النسخ والطي كما في الإعلان. ملامحها تفقد نظارتها الطبيعية لصالح مادة الرسم البلاستيكية وملونتها ذات الطيف المصنع. ورسوم كهذه, في العديد من نتاج مثيلاتها في دول شرق آسيا والصين. تبتعد عن ارث الرسوم الشخصية الأوربية بشكل عام لصالح مقاربات آلية للصور الفوتوغرافية واللعب على إبراز خصوصية الملامح. مع ذلك فان رسوم هذا الفنان لم تشكل النموذج الأمثل ضمن الهوس الأوربي المستجد بمثيلات وبشكل خاص
في النتاجات الصينية الجديدة التي وجدت لها سوقا رائجا في أوربا. إما أعمال الفنانة اليابانية الشابة اياكو روكاكو(3) مواليد(1982) فإنها جمعت مابين تأثرها برسوم الكارتون الشعبية اليابانية والمسحة التجريدية التعبيرية الأوربية ومن دون أن تغادر منطقة طفولتها وتهويمات رسوم أحلامها. لقد أقصت اكاكو نفسها عما كل ما يحيط بها من حراك منطقة التشكيل السحرية الإيهامية المعاصرة, ومع ذلك فان أعمالها اخترقت مجالات العرض من أوسع أبوابها وبتزكية من عرابيها لتوافقها وشروط عوامل أو محركات أو مصادر الانجاز ألما بعد حداثوي المختلطة. من هنا جاء اهتمام قاعة عرض ديلايف الأمستردامية المعروفة بعرض نتاجها جنبا إلى جنب ورموز الحداثة والمعاصرة العالمية. وكانت احتفاليته في هذا العرض باشتغالها على مساحة قماشه كبيرة أمام الجمهور وحتى نهاية العرض. فان كانت أعمال الكوري ملصقات مسطحة فان رسوم أكاكاو حرث في بيئة وأحلام نرجسية طفولية مشعة, لكنها تبقى اقرب إلى الحس الأوربي من الآسيوي الياباني على رغم بعض ملامح هيئات شخوصها الكارتونية المحلية على الضد من اشتغالات ملامح ومنطقة رسوم الكوري سونكسو.
يتشكل هذا العرض ضمن ضوابط استعراضية وتسويقية ولا بد وأن يسوق لبعض الأسماء التشكيلية المعروفة, مع ذلك فهي قليلة في هذا العرض نسبة لكثافة معروضاته إلا أننا نستطيع أن نشخص البارز من مساهمات هؤلاء التشكيليين, وابرز مساهمة كانت للفنان (أرماندو(4) أعمال هذا الفنان سواء كانت نحتا أو رسما تتساوى في أهميتها وفرض هيمنتها على فضاء العرض. كثافة مادتها ومنحاها التعبيري يختزن قوة هائلة, وهو إذ ينحت أو يرسم أية جزئية من الجسد أو البيئة فانه يعمد إلى تأكيدها وبحدة لا تبتعد عن رومانسية مع تضخيم هيئاتها وطمرا بنسبة عالية لملامحها لصالح إبراز الجوهر المتخفي خلف قشرة هي تفاصيل مظللة. إن كان نحته حيوانا فسوف يكون في اعلى حالاته ثباتا وغموضا. وان كان قدما فسوف تكون قدم أخيل لكنها ببصمة فلاح مغروسة في الأرض. كذلك هو حال درجه المكرس للسماء. وان حضر النحت بثقله في أعمال ارماندو فان الخفة وتعدد الوسائط هي ميزة بقية المنحوتات التي تواجدت بكثرة في هذا العرض.مثلما هي في إعمال الفنان ماثياس شميت(5) الذي صنع من مخرماته الورقية عوالم فنطازية تنث أو تنثر رذاذ, جامعا فيها ما بين التشخيص والتشطير والدانتيل بنوايا مسرحة الأشكال وحراكها لا سكونيتها. وان كان الورق يحمل هشاشته فان هذه الأعمال بقدر ما تظهر من هشاشة مظهرية وغير قابلة للمس فان ما تخلقه من فضاءات هي غير قابلة للاختراق إلا في حدود أثير هو نبض يسكنها تجاوبا واستشعارا ببث يوهم حواسنا بخدرها. وان كانت الصلابة لب بحث الفنان أرماندو, فان الخفة هي مسعى ماثياس موصولة بزمن نشأته مابعد الحداثوية, فهو من مواليد(19076). نحات آخر هو(ادم كولتون(6) مواليد(1957) لا يزال يحاور بمواد النحت التقليدية وعجائنها المستحدثة لكنه على الضد أيضا من أرماندو يكرس الخفة والغرابة في إخراج أعماله النحتية التي تبدو وكأنها عناقيد بيوض ملتفة أو متحركة بفعل انصهاري مكوكب. النحات (بيورن بولسن(7) اختار الحديد(الستيل) ولدائن الأكرل لتنفيذ رؤسه الملتبسة المغطاة بصفائح الأكرل المستوية الملونة الشفافة, أقنعة لا تستر حتى هموم رؤسها أو وهمها وما فقدته من وضوح ملامح استجابة لتجاوز ألفة هيئتها واعلاءا لفعل الخفاء أو التخفي أو القسر الذي نمارسه أو يمارس ضدنا يوميا بفعل اختراقات شتى. لكن أعماله تبقى محافظة على جمالية ديكورية نابعة من صفاء سطوحها وميكانيكية التحكم بمواد صنعتها. أخيرا علينا أن نؤكد على أن هذه الأمثلة و بصياغاتها هذه تشير إلى مديات استيعاب التنفيذ بالمواد وتواشجها وأزمنة الفعل الفني وهي من صميم عملية التشكيل. وبالرغم من القدرة التسويقية المعاصرة لهذه الأعمال إلا أنها أيضا لا تمثل مجمل اشتغالات العرض ألا في حدود كونها نماذج تشير إلى بعض من مناطقه المثيرة.
من الفعل النحتي اشتقت كمائن الأعمال التجميعية والتنصيبية. وهذا العرض يزخر ببعض نماذجها التي حاورت البيئة سكنا كما في عمل الفنان(ميخائيل وولف(8) بإنشاءاته وصوره الفوتوغرافية بشروط التجميع. عمله المنشأ هيكلا خشبيا سكنيا تحتل فتحات فراغاته أو نوافذه مجموعة طقم أسنان في حالاتها اليومية المختلفة كناية عن فعل التواصل والمضغ والانفعال وكل الأفعال المتصلة بالفم وحراك أسنانه. فهل ينوي في عمله هذا قضم حتى سكنه. لكن, صوره ونماذجه المصنعة المكملة تشير إلى كثافة السكن نظاما قابضا على أرواح ساكنيه ولا مجال للعبث. وإذا كان وولف يجمع جزئيات أعماله بما يساعده على الكشف عن خطوط سكنه ومصائر أناسه فان الفنان(جان هندريكس(9) مواليد(1937) يستحضر عناصر الطبيعة (النباتات)كتلا معمارية موازية تحمل طعمها ورائحتها وبعض من عصير نشأتها البرية في نية الإعلاء من شأنها. هذين المثالين الأخيرين يشيران إلى اهتمامات مختلفة تشتغل على مرجعيات زمنية مختلفة كما هو حال معظم النتاج المعروض. فزمن نضج تجربة ميخائيل وولف واشتغالاتها وهو من مواليد(1954) غير زمن هندريكس واهتمامات الستينات بالبيئة خامة قابلة للعرض أو المحاورة بحدود شروطها البيئية ومتغيراتها المناخية. وهكذا هو الحال في نتاج بقية الأعمال المعروضة.
الغريب في هذا العرض هو عدم وجود أعمال الفيديو أرت إلا في حدود نادرة, ليس كما في العروض المعاصرة الأوربية. واعتقد أن نظام العرض التسويقي هو الذي تحكم في ذلك مع وجود كم لا بأس به من أعمال الرسم بمختلف مستوياتها ومناطق واشتغالاتها. مثلما هي في بعض من أعمال الفوتوغراف التي اخترقت الفعل التشكيلي في بعض من غرائبية مكونات تشكيلاتها المصنعة برامجيا وتلسيقيا. يبقى السؤال مطروحا وهو هل حقق هذا العرض غايته التسويقية وكمعادل لغايات ثقافية أخرى؟ اعتقد انه لولا الأزمة الاقتصادية الحالية لكانت نتائجه الاقتصادية أفضل. ومع ذلك فان الغاية تحققت بعض الشيء وبالحدود الممكنة التي وفرتها لها المناسبة النحاسية وكم العروض وأهمية بعضها ومكان العرض الذي أصبح تقليدا سنويا يستقطب عروض قاعات العرض الهولندية عامة وبعض من خارج هولندا والمشاهدين والمقتنين.
.................................................................................................................................................
* Art Amsterdam 09
عرض سنوي يضم غالبية قاعات عروض الفن التشكيلي الهولندية, ويستضيف بعض عروض القاعات الأجنبية. ويقام على مساحة عروض الراي المتخصصة بكل العروض الصناعية والفنية الكبرى في أمستردام. افتتح في الثالث عشر من مايس ويبقى للسابع عشر منه.
1- Efrat Zehavi , 2- Sungso Kim , 3-Ayoko Rokkaku , 4- Armando , 5- Mathias Schmied , 6- Adam Colton , 7- Bjorn Poulsen , 8- Michael Wolf , 9- Jan Henderikse ,
.................................................................................................................................................
علي النجارمالمو 04_07_ 2009
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ليس عرض أل( كونست راي ـ أمستردام) هذا العام كسابق عروضه الماضية كونه يمثل احتفالية نحاسية( خمس وعشرون عاما من عمره). بالرغم من الاهتمام الزائد من قبل منظمي هذه الفعالية التشكيلية السنوية المهمة لإظهارها بما يناسبها من خلال إشراكهم لعروض مؤسسات متحفية عديدة اظافة للعروض التقليدية لحوالي مائة وخمس وعشرون قاعة ومؤسسة عرض تشكيلي هولندية(وهي الغالبية) مع بعض عروض القاعات المساهمة من خارج هولندا. لكن, وبالرغم من كل الاستعدادات فإن منظمي هذا العرض لم يستطيعوا أن يتجاوزوا الثغرة التسويقية( والتسويق هو هدف العرض أساسا, بحيث يتناسب و مكانة التسويق عموما وبكل أشكاله وبما يتطابق وعنوانه ـ الراي ـ). فالثقافة لا تزدهر فروعها في أوربا كما في بقية دول العالم بدون التمويل الكافي الذي يغطي أنشطة فروعها المختلفة, لكن, لم يعد خافيا ما فعلته الأزمة الاقتصادية التي ألقت بظلالها على هذا النشاط الإنساني الثقافي التشكيلي الذي تفاخر به أوربا, للحد الذي اضطرت فيه بعض المتاحف التشكيلية الهولندية الإعلان عن إشهار إغلاقها عن قريب. ومن ضمنها متحف( ستادلك أمستردام) المساهم والداعم لعرض الراي هذا. وبما أن ازدهار الثقافة وديمومة عطائها في أوربا يعتمد على تمويل أنشطتها المختلفة بكل مفاصلها. فبالتأكيد سوف تتسبب شحة مصادر التمويل في إعاقات لبعض من مفاصلها, وهي أزمة لم تكن وليدة يومنا أصلا لكنها الآن ربما تؤدي إلى تغييرات منظورة في أنظمة عروضها فبالوقت الذي باتت فيه الأنشطة الفنية وبشكل عام أكثر انزياحا للذائقة الشعبية ومن خلال حراك استمد مشروعيته من الزمن ألمابعد حداثي وذائقته الاستهلاكية الشعبية وسياسة الترويج لها بكل ما تمتلكه وسائل الدعاية من إمكانيات هائلة, مما يعني أن هذه الأزمة ربما تصب في حراك التغيير المستمر في مجال أنشطة وطرق عروضها وصلتها بالمتلقي عموما وبما يتماشى والذائقة الشعبية أو بعض من مناطقها الرخوة القابلة لتقبل الأعمال التشكيلية الهجينة بمعنى تعدد وسائلها ووسائطها. وعلى العموم فان هذا التنافذ أصبح سمة بارزة في العديد من المهرجانات التشكيلية وبات الجمهور المتلقي يلجها كعامل حواري فاعل.
الاهتمام بعروض التشكيليين الشباب ميزة هذا العرض البانارومي. وأمر كهذا وفي هذا الموقع الاستعراضي لم يكن وليد صدفة أو رغبة ذاتية لمنظمي العرض. بل جاء دعما مدروسا لإظهار بعض من الخطوط العامة لمسارات التجارب التشكيلية المستقبلية التي تمثلها هذه المختارات من أعمال أعلنت بعض من قطيعتها أو تقاطعها مع اعمال الأجيال السابقة. العديد من هذه الأعمال ورغم عدم انفصامها بشكل كامل عن أنماط تشكيلية سابقة, فهي تبدو مهجنة بالاستعارة والمزج والابتكار والاستكشاف, و ضياع الخطوط الأسلوبية لأعمالهم يدعونا لنبذ كل حصيلتنا المعرفية النقدية والذوقية السابقة والنظر لما تقترحه هي من تأويلات ترتبط بزمن تنفيذها واشتغالاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية, المتجاورة والمتحاورة والمتصادمة. وبالتأكيد أزمنة كهذه لا تقبل التصريف لوجهة نظر واحدة, حتى وان كانت ذائقيه. لذلك وحسب تجربتنا الزمنية أحيانا ومن خلال تلقينا للعديد من هذه الأعمال غالبا ما نصاب بخيبة أمل أو حيرة من أمرها, بما أن زمنها تجاوزنا. وهو أمر يدعونا لمراجعات مستمرة لاختبار قدراتنا الإدراكية في مسعى لتدارك ثغرتها الزمنية. فلكون لا جدوى إن شئنا أم أبينا من ثبات ذائقتنا, فعلينا في هذه الحالة تجاوز الانفعال الحاصل مما تثيره فينا الصدمة ألأولية المتشكلة من ثغرات معرفية وذوقية أو إدراكية, فكلها خاضعة للتغير والحراك الزمني الهش والصلب في نفس الوقت. فالمستقبل لأناس المستقبل ولا يجوز لنا أن نقصي أنفسنا بتقوقعنا في شرنقة الذائقة الماضية أو الزائلة في عصر فقدت فيه السمات الرومانسية جذوة عذريتها إن كان لنا منها شيء. وبات الأمان الشخصي والمقدرة الشرائية وهي من مقومات العيش هاجسا ارأس.
بعض الأعمال المشاركة لفنانين غير أوربيين في هذا العرض تحمل صفاتها الخاصة بالرغم من أنها تقترب في صنعتها من الأثر الغربي أو هي مشتقة منه لكنها تختلف عنه في توظيفها لمقاصدها الأثرية, الميثولوجية, أو السياسية وغير بعيد عن الخطاب السائد. ولنا مثلا في عمل الفنانة الإسرائيلية(أفرات زهافي(1) مواليد(1974) والفنان المغربي(منير فاطمي) مواليد(1970) فكلاهما اشتغل في عمله على الفكرة ألمفهوميه التي تحاول إيصال شفرتها بما يتفق ومحركات ذهنيتهما أو مدياتها التاريخية أو الآنية وغير بعيد عن تأثيرات محيطهم وحراكه السياسي. فالأثر وهو (هيبري) انثروبولوجي طاغي عند زهافي يعلن سلطته كمطلق قناعة ومطلق إيمان أو خرافة. العمل تنصيبا لسكن من عدة طوابق تكتظ بسلوكيات حياة أناسها العلنية والسرية وحتى الجنسية, تفاصيلهم النحتية الكاريكاتورية التي احتلت فراغات فضاءاتها وحتى مجموع شاشات العروض الفيديوية تكرس هاجس الأسطورة المصنعة والمعلبة سكنا اصطناعيا تباركه الآلهة التي تهيمن بشخصها من الأعلى وبعين هي مصدر صوت للتراتيل العبرية كتثبيت لخطاب مبرر لكل السلوكيات والأستحواذات وبقدر ما تخدر ميلوديته الأحاسيس. أما الفنان الفاطمي فقد اشتغل على النص الديني الكاليغرافي وعمله المعروض في هذا العرض يشير إلى الضد من نوايا أفرات التي كرست الأثر نصا مطلقا ومهيمنا. الفاطمي يفكك هذا النص وبالذات في الممارسات التي أهدرت شرعيته وتسببت في اختراقات لخصوصيته القدسية. مثلما يحيلنا وبوضوح أكثر إلى عمله الذي نفذه في عام (2004) والمعنون العلاقة أو الرابطة والذي يربط فيه بموصلات سلكية مابين الرمز الديني, الكتاب القرآني, وعلبة الاختبارات وصورة عن الحلم الأيروتيكي السماوي, صانعا من هذه الأنساق الرمزية لغزا هو الأقرب في تفسيره لمحفزات عصاب الإرهاب ونرجسيته الجنسية. الفنان هنا اختار أن يفكك ادعاء القداسة المشبوه أو المفخخ لا أن يتطامن أو يتوافق والخطاب التاريخي له كما فعلت الفنانة الأسرائيلة. ومحاولاته الأخرى المتعددة تندرج ضمن مفهوميه التفكيك بنوايا الكشف لا التدمير رغم التباس نوايا خطابها أحيانا. خطاب مارسه العديد من الفنانين العرب المغتربين.
من آسيا تميزت مساهمات الفنان الكوري سونكسو كيم(2) بخصوصية معالجته للرسوم الشخصية وبملامحها المحلية. خصوصية استمدت مظهريتها من مادة التنفيذ (الاكريلك) وملامح الملصق الإعلاني. فالشخوص في رسومه تحتل جزءا من فراغاتاتها أو فضاءاتها و قابلة لهاجس النسخ والطي كما في الإعلان. ملامحها تفقد نظارتها الطبيعية لصالح مادة الرسم البلاستيكية وملونتها ذات الطيف المصنع. ورسوم كهذه, في العديد من نتاج مثيلاتها في دول شرق آسيا والصين. تبتعد عن ارث الرسوم الشخصية الأوربية بشكل عام لصالح مقاربات آلية للصور الفوتوغرافية واللعب على إبراز خصوصية الملامح. مع ذلك فان رسوم هذا الفنان لم تشكل النموذج الأمثل ضمن الهوس الأوربي المستجد بمثيلات وبشكل خاص
في النتاجات الصينية الجديدة التي وجدت لها سوقا رائجا في أوربا. إما أعمال الفنانة اليابانية الشابة اياكو روكاكو(3) مواليد(1982) فإنها جمعت مابين تأثرها برسوم الكارتون الشعبية اليابانية والمسحة التجريدية التعبيرية الأوربية ومن دون أن تغادر منطقة طفولتها وتهويمات رسوم أحلامها. لقد أقصت اكاكو نفسها عما كل ما يحيط بها من حراك منطقة التشكيل السحرية الإيهامية المعاصرة, ومع ذلك فان أعمالها اخترقت مجالات العرض من أوسع أبوابها وبتزكية من عرابيها لتوافقها وشروط عوامل أو محركات أو مصادر الانجاز ألما بعد حداثوي المختلطة. من هنا جاء اهتمام قاعة عرض ديلايف الأمستردامية المعروفة بعرض نتاجها جنبا إلى جنب ورموز الحداثة والمعاصرة العالمية. وكانت احتفاليته في هذا العرض باشتغالها على مساحة قماشه كبيرة أمام الجمهور وحتى نهاية العرض. فان كانت أعمال الكوري ملصقات مسطحة فان رسوم أكاكاو حرث في بيئة وأحلام نرجسية طفولية مشعة, لكنها تبقى اقرب إلى الحس الأوربي من الآسيوي الياباني على رغم بعض ملامح هيئات شخوصها الكارتونية المحلية على الضد من اشتغالات ملامح ومنطقة رسوم الكوري سونكسو.
يتشكل هذا العرض ضمن ضوابط استعراضية وتسويقية ولا بد وأن يسوق لبعض الأسماء التشكيلية المعروفة, مع ذلك فهي قليلة في هذا العرض نسبة لكثافة معروضاته إلا أننا نستطيع أن نشخص البارز من مساهمات هؤلاء التشكيليين, وابرز مساهمة كانت للفنان (أرماندو(4) أعمال هذا الفنان سواء كانت نحتا أو رسما تتساوى في أهميتها وفرض هيمنتها على فضاء العرض. كثافة مادتها ومنحاها التعبيري يختزن قوة هائلة, وهو إذ ينحت أو يرسم أية جزئية من الجسد أو البيئة فانه يعمد إلى تأكيدها وبحدة لا تبتعد عن رومانسية مع تضخيم هيئاتها وطمرا بنسبة عالية لملامحها لصالح إبراز الجوهر المتخفي خلف قشرة هي تفاصيل مظللة. إن كان نحته حيوانا فسوف يكون في اعلى حالاته ثباتا وغموضا. وان كان قدما فسوف تكون قدم أخيل لكنها ببصمة فلاح مغروسة في الأرض. كذلك هو حال درجه المكرس للسماء. وان حضر النحت بثقله في أعمال ارماندو فان الخفة وتعدد الوسائط هي ميزة بقية المنحوتات التي تواجدت بكثرة في هذا العرض.مثلما هي في إعمال الفنان ماثياس شميت(5) الذي صنع من مخرماته الورقية عوالم فنطازية تنث أو تنثر رذاذ, جامعا فيها ما بين التشخيص والتشطير والدانتيل بنوايا مسرحة الأشكال وحراكها لا سكونيتها. وان كان الورق يحمل هشاشته فان هذه الأعمال بقدر ما تظهر من هشاشة مظهرية وغير قابلة للمس فان ما تخلقه من فضاءات هي غير قابلة للاختراق إلا في حدود أثير هو نبض يسكنها تجاوبا واستشعارا ببث يوهم حواسنا بخدرها. وان كانت الصلابة لب بحث الفنان أرماندو, فان الخفة هي مسعى ماثياس موصولة بزمن نشأته مابعد الحداثوية, فهو من مواليد(19076). نحات آخر هو(ادم كولتون(6) مواليد(1957) لا يزال يحاور بمواد النحت التقليدية وعجائنها المستحدثة لكنه على الضد أيضا من أرماندو يكرس الخفة والغرابة في إخراج أعماله النحتية التي تبدو وكأنها عناقيد بيوض ملتفة أو متحركة بفعل انصهاري مكوكب. النحات (بيورن بولسن(7) اختار الحديد(الستيل) ولدائن الأكرل لتنفيذ رؤسه الملتبسة المغطاة بصفائح الأكرل المستوية الملونة الشفافة, أقنعة لا تستر حتى هموم رؤسها أو وهمها وما فقدته من وضوح ملامح استجابة لتجاوز ألفة هيئتها واعلاءا لفعل الخفاء أو التخفي أو القسر الذي نمارسه أو يمارس ضدنا يوميا بفعل اختراقات شتى. لكن أعماله تبقى محافظة على جمالية ديكورية نابعة من صفاء سطوحها وميكانيكية التحكم بمواد صنعتها. أخيرا علينا أن نؤكد على أن هذه الأمثلة و بصياغاتها هذه تشير إلى مديات استيعاب التنفيذ بالمواد وتواشجها وأزمنة الفعل الفني وهي من صميم عملية التشكيل. وبالرغم من القدرة التسويقية المعاصرة لهذه الأعمال إلا أنها أيضا لا تمثل مجمل اشتغالات العرض ألا في حدود كونها نماذج تشير إلى بعض من مناطقه المثيرة.
من الفعل النحتي اشتقت كمائن الأعمال التجميعية والتنصيبية. وهذا العرض يزخر ببعض نماذجها التي حاورت البيئة سكنا كما في عمل الفنان(ميخائيل وولف(8) بإنشاءاته وصوره الفوتوغرافية بشروط التجميع. عمله المنشأ هيكلا خشبيا سكنيا تحتل فتحات فراغاته أو نوافذه مجموعة طقم أسنان في حالاتها اليومية المختلفة كناية عن فعل التواصل والمضغ والانفعال وكل الأفعال المتصلة بالفم وحراك أسنانه. فهل ينوي في عمله هذا قضم حتى سكنه. لكن, صوره ونماذجه المصنعة المكملة تشير إلى كثافة السكن نظاما قابضا على أرواح ساكنيه ولا مجال للعبث. وإذا كان وولف يجمع جزئيات أعماله بما يساعده على الكشف عن خطوط سكنه ومصائر أناسه فان الفنان(جان هندريكس(9) مواليد(1937) يستحضر عناصر الطبيعة (النباتات)كتلا معمارية موازية تحمل طعمها ورائحتها وبعض من عصير نشأتها البرية في نية الإعلاء من شأنها. هذين المثالين الأخيرين يشيران إلى اهتمامات مختلفة تشتغل على مرجعيات زمنية مختلفة كما هو حال معظم النتاج المعروض. فزمن نضج تجربة ميخائيل وولف واشتغالاتها وهو من مواليد(1954) غير زمن هندريكس واهتمامات الستينات بالبيئة خامة قابلة للعرض أو المحاورة بحدود شروطها البيئية ومتغيراتها المناخية. وهكذا هو الحال في نتاج بقية الأعمال المعروضة.
الغريب في هذا العرض هو عدم وجود أعمال الفيديو أرت إلا في حدود نادرة, ليس كما في العروض المعاصرة الأوربية. واعتقد أن نظام العرض التسويقي هو الذي تحكم في ذلك مع وجود كم لا بأس به من أعمال الرسم بمختلف مستوياتها ومناطق واشتغالاتها. مثلما هي في بعض من أعمال الفوتوغراف التي اخترقت الفعل التشكيلي في بعض من غرائبية مكونات تشكيلاتها المصنعة برامجيا وتلسيقيا. يبقى السؤال مطروحا وهو هل حقق هذا العرض غايته التسويقية وكمعادل لغايات ثقافية أخرى؟ اعتقد انه لولا الأزمة الاقتصادية الحالية لكانت نتائجه الاقتصادية أفضل. ومع ذلك فان الغاية تحققت بعض الشيء وبالحدود الممكنة التي وفرتها لها المناسبة النحاسية وكم العروض وأهمية بعضها ومكان العرض الذي أصبح تقليدا سنويا يستقطب عروض قاعات العرض الهولندية عامة وبعض من خارج هولندا والمشاهدين والمقتنين.
.................................................................................................................................................
* Art Amsterdam 09
عرض سنوي يضم غالبية قاعات عروض الفن التشكيلي الهولندية, ويستضيف بعض عروض القاعات الأجنبية. ويقام على مساحة عروض الراي المتخصصة بكل العروض الصناعية والفنية الكبرى في أمستردام. افتتح في الثالث عشر من مايس ويبقى للسابع عشر منه.
1- Efrat Zehavi , 2- Sungso Kim , 3-Ayoko Rokkaku , 4- Armando , 5- Mathias Schmied , 6- Adam Colton , 7- Bjorn Poulsen , 8- Michael Wolf , 9- Jan Henderikse ,
.................................................................................................................................................
علي النجارمالمو 04_07_ 2009
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire