زمن عبد زيد الكرعاوي- العراق
دلالة اللون عند الجواهري
بقلم : زمن عبد زيد الكرعاوي- العراق
للون دور مهم في منطقة البصر وكذلك دوره في المنطقة الذهنية وعلى هذا الأساس يمكن تقسيمه إلى قسم فيزيائي بالإمكان قياسه وقسم ( فيزيولوجي) يبحث اثر اللون في حالة الرؤية وأخر نفسي ينشأ من ارتباط كل لون ارتباطا نفسيا عند المتلقي أو من السطوة الذهنية التي اكتسبها اللون في العقل الجمعي للشعوب ، فدخل معتقداتهم الدينية والفكرية وحتى في الموروث الشعبي ، فنجد اللون الأزرق مثلا يستخدمه الناس لدفع الحسد وهو ( رمز الصداقة والحكمة والخلود) 1 أما اللون الأسود فهو تعبير عن الحزن لعدم ميل النفس إليه لدى الإنسان ، و كابوس لوني يشير إلى عدم وجود لون وهو كذلك نقطة امتصاص الألوان كلها 2 واللون الأبيض رمز ( للصفاء ونقاء السريرة والهدوء والأمل) 3 أما اللون الأصفر فله دلالات مختلفة قد تصل حد التباين في اللغة الذهنية عند الشعوب ، فمنهم من عده( رمز الغش والخداع)4 ومنهم من يراه ( من الألوان الفاتحة القريبة من النفس ) 5 وهو عند الإغريق لون اليأس والآلهة الإناث ... والعذارى 6 أما اللون الأخضر فيرتبط بفكرة (المستحيل الذي لا يبلغه الإنسان ، من فردوس الطفولة والطهر والاتفاق والخلاص )7 وهو ( رمز الحياة والتجدد والانبعاث الروحي) 8 وفي ذلك اتفاق بين ( الديانات المسيحية والإسلامية والصينية ) 9 أما اللون الأحمر فهو رمز للعواطف الثائرة ( وشهوة الحب والنشوة العارضة) 10 وكذلك لون ( الحب والفرح والسرور ) 11 واللون البنفسجي يعبر عن ( الوهن والحزن) 12 ويراه كاندينسكي ملائما لملابس النساء المسنات ( والواقع إن الصينيين قد استخدموه كلون للحداد ) 13 .واللون في الشعر يحتل فضاءا بالغ الأهمية لما له من بعد دلالي ، فالتوظيف الفني للون قد ينطلق من مرجعيات معرفية أو من اللاوعي المعرفي للشاعر ، فقد استخدم الشاعر اللون للتعبير عن الحالة النفسية المراد إيصالها للمتلقي أو لرسم صورة شعرية بالألوان ( فالشعر رسم ناطق ) 14 أو كما عبر عنه بيكاسو : ( الرسم هو الشعر دائما يكتب على شكل قصيدة ذات قافية تشكيلية) 15 ولأن للون قدرة إيحائية عالية لما له من بعد فكري ونفسي فقد وظفه الشاعر ليجعل ( الأشكال والألوان والأفكار تترابط جميعها مع بعضها بعلائق ... مؤلفة نظاما بنائيا طوبولوجيا ) 16 وحينما نقول أن الشاعر يوظف اللون في شعره فإننا لا نرمي حتما إلى انه يوظفه كما منحته الطبيعة وإنما يخلق منه صورة تخيلية حسب باشلار لذلك يتحول اللون في القصيدة من ( الوعي البصري) كما يسميه د.ج.لورنس إلى ( وعي ذهني ) وان توجه الشعراء لتوظيف اللون في قصائدهم ناتج من إدراكهم بتأثيره فينا وهذا ناتج عن خبرتنا بالألوان سواء في وعينا أو لا وعينا . فقد توصل الشاعر إلى لغة تواصل مع المتلقي عبر إيجاده شبكة علاقات متجاورة منتجة للغة تواصلية واللون عنصر مهم في هذه الشبكة لما يحمله من دلالات سيميائية ، وللون خارج سياق النص دلالاته الثابتة ولكن قد يوصل إلينا مفهوما أراده الشاعر عن طريق وضعه في سياق يمثل إزاحة عما هو في أصله وذلك لما يحمله هذا اللون من كثافة بصرية وشحنة عاطفية وكذلك تفاعل النص ينتج لنا صورة ذهنية ، فقد يعمد الشاعر إلى ذكر لونين متضادين في الصفات لينتج دلالة ذهنية عبر دالات متنافرة ، فالشاعر يصل إلى نمط معين من الإدراك لفكر مشترك مع الجماعة التي يرتبط بها في مرحلة تاريخية محددة فـ ( الوعي الفعلي) هو نتاج تجاربه المرتبطة بواقع الوضع اليومي وما فيه من صراعات نفسية وفكرية في عصره تحديدا ، فإذا كان الشاعر قديما يصور اللون بما ينطبق عليه وصفيا في الواقع فالشاعر اليوم يصف اللون بما يحمله من دلالة معبرة ومثيرة ومن المؤكد( انه لا يمكن إنكار تلك الحقيقة التي تعني قيام الألوان بنقل تعبير قوي) 17 ومما يؤكد أن الشاعر لابد أن يُخضع توظيف اللون ( للوعي الفعلي) هو توظيفه للون الأخضر مثلا فقد اختلف التوظيف من شاعر لأخر حسب مجتمعه والفترة التاريخية التي يعيش ، ففي( بعض الرسوم المسيحية رُسم إبليس بجلد اخضر اللون) 18 في حين أن اللون الأخضر عند غيرهم يعني الخضرة والربيع والحياة . اللون عند الجواهري :عندما انطلقنا إلى متابعة اللون عند الجواهري وجدنا بان اللون الأسود يشغل حيزا كبيرا من شعره بل يكاد يكون من الثيمات المهيمنة ، ويطغي على باقي الألوان ، فقد ذكره الجواهري كثيرا في حين انه لم يكن للألوان الأخرى إلا النصيب القليل ، وان كان الجواهري بصورة عامة لم يكثر من توظيف الألوان بما فيها الأسود إلا عند الضرورة وقد ذكر الشاعر اللون الأسود بصورتين إحداهما مباشرة بذكر لفظة ( الأسود) وهو يريد أن يحقق به ما لهذا اللون من صفات الحزن والظلمة والنكبة والخسارة بما له من قوة حضور عند الشعراء العرب لما يمثله لهم من لغة تعبيرية وعلى مختلف الأصعدة والجواهري واحد من هؤلاء الشعراء الذين لم يغفلوا أهمية هذا اللون فتارة يذكره كما قلنا بلفظه المباشر وبما يحمله من كم حزين فيقولترنو له زُهـرُ النجوم وإنها لـو أنصفته لسَوّدت أحداقها 19 وقد استوفى الشاعر ما لهذا اللون من صفات الحزن والظلمة فاللون في هذه الأبيات قال ما لا يستطيع أن يقوله أي دال غيره أيفــي النــــجمَ فـيبقى ساهـرا مُحييا سودَ الليالي ونخونُ 20يُخدِّرُ الجَوعى بها ، والرُؤى سُودٌ ، ولَمحُ النـور إيهــامُ 21والصورة الأخرى لذكر اللون الأسود بصورة غير مباشرة أي انه لا يذكر لفظة ( الأسود) وإنما يحضر قرينة نستدل من خلالها على اللون وبالتالي يكون اللون الأسود حاضرا ذهنيا من دلالة الجملة الشعرية ليخلق التصور الذهني المراد عن هذا اللون فهو يذكر الغراب ، والغراب علامة ذات شخصية لونية فهو ( الكاهن الأسود) 22 فينتزع صفة من صفاته وهي اللون فيقوللهجـةُ الصـدق بـــها مثلُ بياضٍ في غرابِ 23فلقُ الاصباح غربيبُ ونعيــق البــوم تشييبُ 24ويذكر الفحم لنفس الغرض أي لما له من لون اسود يحيلنا إلى صفات هذا اللون لا إلى صفات الفحم فيقولينفدُ العمرُ شدَ ما كان حَوجا كِراجٍ في فحمة ِ الليل يطفأ 25وعيون (( كفحمة الطرّفاء)) 26فنلاحظ الشاعر هنا لم يذكر لفظة ( اسود) صراحة وإنما كان داله الغراب مرة والفحم مرة أخرى للوصول لدلالة اللون الأسود ، وبأسلوب الشاعر هذا تتحقق صورة شعرية مشحونة بالمعاني ( فالغراب) اسود ليس فيه نقطة بيضاء لذلك جعل استحالة وجود اللون الأبيض في الغراب وأراد أن يقول استحالة وجود الصدق في حديثهم كاستحالة وجود اللون الأبيض في سواد الغراب فجعل الصدق يقابل اللون الأبيض والكذب وان لم يذكره لفظا يقابل اللون الأسود فالطباق الناجم عن اللون الأبيض واللون الأسود نتج عنه معنى أخلاقي رافض للكذب.ونلاحظ كذلك عند الجواهري أينما وُجد اللون الأسود وُجد معه اللون الأبيض فكأنه يخلق لنا ثنائية تشكيلية مهمة في بناء لوحة القصيدة لأنهما يضيفان عليها جمالية عالية ويعمقان العلاقة بين عناصرها ويخلق بهما صورة شعرية متميزة فضلا عن إثارة الإحساس بالعمق أي خلق معنى ثالث غير الأسود والأبيض فكأن الشاعر يؤسس (لبعد ثالث ) كما في اللوحة التشكيلية 27 فشدة المعنى الناتج عن الأسود جاءت بفعل مواجهة الأسود للأبيض فكأني بالجواهري يتكأ على معنى تشكيلي يقول ( لا شكل يمكن خلقه دون أن يتسم بلون ما ، ولا شكل يمكن رؤيته إلا إذا كان وجودا على لون ما ) 28 والجدير بالذكر إن استخدام الجواهري لثنائية اللون ( الأسود والأبيض) كان هدفها تقوية معاني اللون الأسود على حساب الأبيض ، فجعل من اللون الأبيض رديفا داعما لإبراز وإظهار الدلالة الذهنية للأسود ، كما في قوله ما أنصفوا التاريخ وهو صحائف بيض نواصع لفعت بسواد 29وألـــواحٌ كوجـهِ الصُّبــحِ بيــضٌ يُجلّـَلُ بالسوادِ لـها فُضـولُ 30 ولم يغفل الجواهري في لوحاته اللون الأخضر الذي حمل معه الأمل المرتبط بالحياة وذلك عبر ربط اللون الأخضر بالربى والأشجار والربيع والعراق والحقول وان كانت هذه الدوال صفات طبيعية وهي من استحقاق هذا اللون إلا انه خلق لنا معاني الحياة والتفاؤل والوطنية كمعاني مُنتجة من قبل اللون الأخضر في سياق الجملة الشعرية وبذلك قد أطلق الشاعر الإمكانيات الذهنية التي يحققها هذا اللون إلى أقصاها محققا بذلك توظيفا متمكنا لهذا اللون فهو يقول : ولا الربى مخضّرة تزدهي حسنا حواشيها اللطافُ الرقاق 31تفتّحي خُضرَ الرُّبى للندى فـي مبسم - متى شئتِ - ريـق 32الم تريا حسن الربيع وما ضفا على هذه الأشجار من حُلل خُضرِ 33رأوا حسن العــراق فـأعجبتهم أباطــحُ مــن، ربيــع فيــه خضـر 34ومن اجل أن يكمل الشاعر لوحاته الفنية بألوان متعددة وبدوال متعددة كشف لنا عن مدلول الأمل عبر اللون الأصفر و قلما وُظف هذا اللون بهذا المعنى إلا أن الجواهري ومن خلال وضع هذا اللون في سياقه الصحيح في الجملة أنتج هذا المعنى يقولترى الورقة الصفراء تنمو على الحيا رويدا كما ينمو الرضيع على الدرِّ 35فقد ربط الشاعر اللون الأصفر بشبكة من المؤهلات التي تهيأ ذهن المتلقي ليتلقاه بمثل ما أراد له الشاعر من معنى ، فاللون ينمو على الحياة وشبهه والحياة كما الرضيع الذي ينمو على حليب أمه ، وهذه القدرة المنتجة لمعنى خلاف ما في أصل اللون من معنى الغش والخداع واليأس كما سبق وذكرنا في بداية بحثنا ، فهذه القدرة تعد بمثابة موجات تقود القارئ وتأخذ بيده للدخول ومن ثم التعايش في فضاء النصوإذا تحولنا إلى اللون الأحمر وجدنا الشاعر يستخدمه بطرق مختلفة ، فهو يعبر به مرة عن العواطف والحياة والحب من فيقولمن خُضرةِ المُروج ؟ من حُمرة الـ ورودِ ؟ من نبعٍ بسفحِ الجبال؟ 36ومرة أخرى يعبر به عن الهجوم والقوة والقدرة فيقولوربيعُها فَلـَكٌ بعاصفة حمراءَ تذور الناسَ دوّار37فالربيع الجميل والناس يدوران بعاصفة حمراء . أما اللون الأسمر فكان لهذا اللون دلالته الغالبة ( على ألوان العرب السمرة والأدمة) 38 ونقرأ هذا اللون من سياق النص بدلالة النغم والعذوبة والجمال حين يقولوجَسَستَ أوتار النُّفوس فوقعّت لـك طُوّعا أنغامَها السمراءَ 39ويتبين لنا إعجاب الشاعر بالسمرة العربية لما لها من ارتباط ذهني جميل في لا وعيه فهو يقول والشمس تَلفَحُ سُمرةً عربية والنجم يُرقِص قامةً هيفاء 40فاللون الأسمر مرتبط عند الشاعر بالنغم والقامة الهيفاء والسنابل لما يحققه من جمالية ذهنية لدى الشاعر ومتلقيه . ولم يغفل الشاعر اللون الأزرق فهو يتغزل بواد بهيج من سهول العالم الشهيرة بجمالها اسمه ( كاليجولا ) فيقوللازورديةٌ .. حَيارى تحوم 41 فالشاعر يتغزل بهذا الوادي باللون الأزرق - اللازوردي- في حين انه سبق وتغزل بالأرض العربية باللون الأخضر وهذه مفارقة عمد إليها الشاعر بلا وعي حسب ما ازعم وذلك لتأثير المكان على الشاعر ، فهو حينما يصف المكان الأليف( الأرض العربية) يعمد إلى ألوان متحركة مفعمة بالحيوية والنشاط وحين يصل إلى إبداء إعجابه بهذا الوادي الذي لا يرتبط وإياه بألفة فيصفه بلون ( يوحي ... بالبرودة ) 42 والوحدة والصمت فالألوان تختلف عن بعضها البعض من حيث التعبير النوعي لأن المفهوم الحسي والذهني للمكان وتأثيره على اختيار اللون عند الشاعر ينبع من ( جدلية المكان الفاعل ، والمكان المفرغ من الفعل) 43 .وخلاصة القول لما تقدم نلاحظ أن هناك علاقة مطلقة بين الألوان والمعاني والشاعر لا يتحدث عن العلاقة المطلقة فحسب وإنما عن مفاهيمها الخاصة عنده ، فالشاعر أكد على العلاقة بين اللغة ورمزية اللون في القصيدة وقدرتهما على إيصال دلالات ومفاهيم تنقل المتلقي إلى عوالم النص الشعري.
الهوامش
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-•1- الرسم واللون 171•
2- ينظر : الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نؤاس ، سايين عساف
30•3- علم عناصر الفن
1/137•4- الرسم واللون
170•5- الصورة الشعرية ونماذجها في إبداع أبي نؤاس
130 •6- ينظر : اللون نظريا وعمليا
96•7- الرمز والرمزية في الأدب العربي
94•8- جماليات اللون في السينما - سعد عبد الرحمن قلج
44•9- المصدر نفسه 4410- الرمزية في الأدب العربي الحديث - انطون غطاس كريم
9311- اللون - يوسف همام 912- جماليات اللون في السينما 4813- المصدر نفسه 4814- الشعر والرسم : رؤية طوبولوجية - من بحوث مهرجان المربد الحادي عشر - طراد الكبيسي 115- المصدر نفسه 116- المصدر نفسه 117- جماليات اللون في السينما 4318- المصدر نفسه 4519- ديوان الجواهري 1/18120- المصدر نفسه 1/26921- المصدر نفسه 6/14022- تأملات في فضاء الغراب - حاتم الصكر 2623- ديوان الجواهري 1/31724- المصدر نفسه 7/23825- المصدر نفسه 6 /13226- المصدر نفسه 7 /18627- ينظر : سيكولوجيا الخطوط كيف تقرا صورة ، حسن سليمان- دار الكتاب العربي للطباعة والنشر ، سلسلة الكتب الثقافية (175) ، القاهرة ، 1967 :628- حورية الرؤية : ناثان نوبلر ، ت : خيري خليل ، مراجعة : جبرا إبراهيم جبرا ، دار الحرية للطباعة - بغداد ، ط1 ، 1987 : 9329- ديوان الجواهري 1/16930- المصدر نفسه 7 / 11731- المصدر نفسه 1/25632- المصدر نفسه 1/30633- المصدر نفسه 1/36534- المصدر نفسه 1/38635- المصدر نفسه 1/36536- المصدر نفسه 6/3937- المصدر نفسه 7/21538- لسان العرب ابن منظور 2/58639- ديوان الجواهري 6/5540- المصدر نفسه 6/6241- المصدر نفسه 7/26142- جماليات اللون في السينما 4343- الرواية والمكان - ياسين النصير ، بغداد : منشورات وزارة الثقافة والإعلام ، 1980: 27 من بحوث ندوة بانقيا الثانية ( الجواهري في بيت طفولته)