الفنان الدكتور مصدق الحبيب
لمحة تأريخية عن نشأة وتطورالخط العربي(*)
د. مصدق الحبيب
18/08/2008
قراءات: 1339
"فلابد هنا من قولة الحق والانصاف، بأن ما سيخلده التأريخ الانساني من التراث العربي في نهاية المطاف هو ثلاثاً: القرآن اولاً، والشعر العمودي ثانياً، والخط العربي متضمناً الزخرفة والعمارة ثالثاً. ذلك إن الخط العربي ماهو الا هندسة الروح العربية الملهَمة بلغة الحب والايمان والخلود"
AbdelKebir Khatibi, The Splendor of Islamic Calligraphy (2001)
بالرغم من الاعتقاد الشائع حول الارتباط الوثيق بين نشأة الكتابة العربية وبزوغ فجر الاسلام إلا ان تأريخ الصيغة المكتوبة للغة العربية يعود في واقع الامر الى عصور ما قبل الإسلام، حيث تجذرت التركيبات اللغوية واستمدت أشكال حروفها الأبجدية بفضل ارتباطها مع اللغات النبطية الآرامية التي كانت سائدة في المنطقة وقتذاك. على ان تطور الهياكل التشكيلية والصيغ الهندسية للحروف الابجدية العربية كان قد تفجر بنجاح مضطرد مع نزول القرآن وشيوع تعاليم الدين الاسلامي منذ نهايات القرن السادس الميلادي فصاعداً. فمع إنتشار رسالة القرآن، تطوّرت الوظيفة الرئيسية للكتابة العربية من تسجيل الامور اليومية الاعتيادية الصغيرة الى توثيق وتبجيل وحفظ الوحي الجديد. ولم يكن يمر زمن طويل حتى أصبح النَسّاخون، والخطّاطون لاحقاً، مُلتزِمين مهنيا واخلاقيا وروحيا بتجميل وتزويق وموازنة كتاباتهم من اجل تقديمها على أمثل وجه بهيّ يليق بقدسية كلام الله ويجسد قيمته السماوية واهميته الدنيوية. ومن هنا كان على الخط أن يتحوّل الى حرفةٍ تَحْكُمُها قواعد محددة وتربط محترفيها بإلتزام اخلاقي ديني مقدس جدير بمن يؤتمن ان يقدم كلام الله لعامة الناس. وبذلك فقد كان من الطبيعي ان يتظافر الابداع الفني في تطوير اصول الخط واشكاله مع العلم والادب والفلسفة والاخلاق والروحانية. ومن هذا المفصل لم يكن مُفاجِئاً ان يشيع قول العرب وتوصيفها للخط العربي بأنه " هندسة الروح التي تنساب عبر اليد".
طِوال المراحل الأولى من تطور الكتابة، ووصولاً الى الصيغة النهائية للحروف وطريقة نطقها، كان الامر قد تَطَلَّبَ إجراءَ تعديلات وتنقيحات لا حصر لها من قبل اللغويين الاوائل مثل أبو الأسود الدؤلي (توفى عام 688)، والخليل بن احمد الفراهيدي (توفى786) اللذين كانت اسهاماتهما في إبتكار نظام النقاط والحركات حاسمة في ترسيخ مسار اللغة الصحيح. وبسبب من كثرة الاسهامات الفردية والجماعية واختلاف مصادرها على امتداد قرون عديدة، اصبح من المتعذر ان يستدِّل المتتبع على مسارٍ خَطّي واحد لإقتفاء أثر تطوّر كتابة الحروف العربية منذ البداية ولحد الان. فمع إنتشار رقعة الإسلام شرقاً وغرباً، تطوّر العديد من إشتقاقات وأساليب كتابة الحروف وعلى إمتداد مساحات جغرافية واسعة، الامر الذي ادى الى ان تصبح اللغة شكلا ومضمونا عبارة عن إنعكاساتٍ لثقافاتٍ ومجتمعاتٍ متباينة ومتعددة. إلا ان فيما يخص موضوع شكل الحروف وتحول الكتابة الى خط ، تشيرالمصادر التأريخية الى ان الحروف التي تم إستخدامها في أول نسخة مخطوطة من القرآن كانت بخط اولي يدعى "الجزم". وقد تشرف بنسخ تلك النسخة الاولى من المصحف زيد بن ثابت، وذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان (644-656). على ان خط الجزم الاول كان مختلفا باختلاف المناطق التي تطور فيها. فهناك الجزم (الحيري) و(الأنباري) في العراق، و(المَكّي) و(المديني) في الجزيرة العربية. وبالإضافة الى الجزم، تم تطوير العديد من أشكال الكتابة في جميع الأماكن الأخرى لتمثل انواعا اخرى من الخطوط التي كان بعضها شعبيا وشائعاً فإستمر ليتطوّر الى صياغاتٍ أخرى مثل (المائل) الذي تطور كثيرا في العراق ليصبح بعدئذ (الكوفي)، فيما اندثر البعض الآخرالأقل شيوعاً مثل (المُكوَّر) و(المَبسوط) و(المشق)، التي تلاشت جميعا بَعدَ حِين.
ومع تطوّر دولة الإسلام وإتساعها، وشيوع الوظائف الادارية وحاجاتها من المهمات الكتابية، تم تطوير مجموعات جديدة أخرى من الخطوط التي أخذت تُلَبّي مُتطلبات الوظائف المدنية المتصاعدة من اجل مواجهة الطلب المتزايد على المراسلات الإدارية والتجارية. وفي مجال نبوغ الخطاطين الاوائل في هذا المجال، يمكن الاشارة ، بموجب ماجاء في صفدي (1992) الى إثنين من ألمع الخطاطين الأمويين في دمشق لإسهاماتِهما التاريخية في تطوير الكتابة الاعتيادية الى خط. أولهم هو قطبة المحرر الذي يُنسب إليه تطوير صيغة الخطوط الاولى المكتوبة بشكل متصل، مثل (الطومار)، (والجليل)، (والنصف)، (والثلث)، (والثلثين). كما نُسبت إليه الكتابة الرائعة بخط الجليل المنقوشة على محراب مسجد النبي في المدينة المنورة. أما الخطاط الثاني فهو خالد بن الهيّاج، الذي كان يشغل منصب النسّاخ الرسمي الاول للخليفة الوليد بن عبد الملك (705-715). وهنا تجدر الاشارة الى اعمال الخط الرائعة التي سجلت قبل ذلك على جدران مسجد قبة الصخرة في القدس الذي شيده الخليفة عبد الملك بن مروان عام 690 كأول انجاز عملاق في حقل العمارة الاسلامية. كما يُنسب للهياج اكمال نُسَخٍ كبيرة من القرآن بخطوط الطومار والجليل.
وتجدر الاشارة ايضا الى ان هذه الخطوط الاولية المبكرة كانت قد نسبت الى حجم القصبة التي تكتب بها. على ان خط الطومار كان يصلح لان يكون أساس القياس، حيث ان إرتفاع مدة الحرف تساوي ما قَدْرُهُ أربعٌ وعشرون شعرةً مرصوفة من ذَيْلِ حِصان، فيما تُشير خطوط (النصف) و(الثلث) و(الثلثين) الى نصف وثلث وثلثي هذا القدر تِباعاً. وهنا يرى صفدي (1992) ان نظرية عربية منافسة تضع تفسيرا اخرا في هذا المجال فتشير الى (النصف) و(الثلث) و(الثلثين) كنسبةِ مَدّات الحروف الى إنحناءاتها في تلك الأنواع من الخطوط.
في منتصف القرن السابع الميلادي تحول مد الاهتمام بالخط العربي وتطوره بشكل متميز الى العراق، وخاصة في مدينة الكوفة التي كانت قد تأسست عام (640) كمستودعٍ لحامية عسكرية. الا ان اتساع وتطور الثكنة العسكرية سرعان ما أدى الى تحوّل المدينة الى مركز دينيٍ وثقافي وفر المتلزمات المدنية واجتذب كل من يتعامل مع العلوم والاداب والفنون ليأسسوا نشاطاتهم المتنوعة في بيئة صحية فيها الكثير من الحوافز ومستلزمات الانتاج الثقافي. وليس من الغريب في مثل ذلك المناخ ان يتوافد النساخون والخطاطون واساتذة الادب والفن للعمل والاستقرار في الكوفة. ومن هناك ازدهر الخط العربي ودخل مرحلة اخرى جديدة تمخّضت عن ولادة خط جديد يدعى "الكوفي كتطوير لخط "المائل" السابق ذكره. يتميّز هذا النوع الجديد من الخطوط بتكوينه الهندسي الصارم الذي غالباً ما يكون مُشْتَمِلاً على زخارفَ تزيينية، ومقرونا بالمرونة الواسعة التي سمحت له ان يتناغم مع مشتقات ومتغايرات كثيرة مثل "المضفور"، "المزهور"، "المورَّق"، "المعقود"، "المُخمَّل"، "المُربَّع" وانواع عديدة أخرى. ولما يتميز به الخط الكوفي من دقة في القياس ومثال في التناسب فانه كان نتيجة طبيعية لنشوء ونموَّ جيلٍ جديد متمكن في استيعاب العلوم وضليع في دراسة وهضم الحساب والهندسة، مما كان يعتبر صفة واضحة ميزت ازدهار الكوفة العلمي والثقافي. على ان الخط الكوفي الاصلي ذاع صيته واتسع سراعا ليشمل مناطق قريبة وبعيدة ضمن الامبراطورية الاسلامية التي كانت تتسع جغرافيا هي الاخرى. ومن هنا يأتي تفسير مسميات الخط الكوفي تبعا لمناطق تطوره. فهناك على سبيل المثال "الكوفي المشرقي" الذي يرجع الى انماط متنوّعة طوِّرت في بغداد، و"الكوفي المغربي" الذي يشير بصفة عامة الى تنويعة من الخطوط الكوفية الاصل التي طُوِّرت في القيروان في أقصى غرب المنطقة العربية حيث إكتسب بعدئذ شعبيةً واسعة في عموم شمال غرب أفريقيا والأندلس، وبخاصة في عهدي دولة الاغلبيين (800-909) والفاطميين (910-1171). وكان الخط الكوفي قد بلغ ذروة تطوره في نهاية القرن الثامن لكنه واصلَ هيمنته على حرفة نَسخ القرآن حتى بدأت الخطوط المتصلة الاخرى الأكثر مرونة وانسيابا والاقل التزاما بالتناسبات الرياضية تحل مَحلَّهُ بالتدريج.
مع حلول القرن الحادي عشر، إستمرت مجموعة من الخطوط المتصلة الأولى في هيمنتها على نسخ القرآن وكتابة النصوص الدينية والمدنية. الا ان خط "الثلث" ، من بين الانواع الاخرى، تقدم بشكل ملحوظ ليكون على رأس قائمة متكونة من ستة أشكال من الخطوط، أُطلِق عليها "الأقلام الستة"، في إشارة الى أكثر الأشكال شيوعاً في ذلك الوقت، وهذه الخطوط هي الثُلث، النَسْخ، المُحَقَّق، الريحاني، الرِّقاع، والتوقيع. وبالرغم من ان خطوط الثلث والمحقق والريحاني كانت تستخدم في نسخ القرآن، إلا ان خط النسخ إكتسب شعبية فذّة وهيمن على حرفة كتابة المصاحف مؤثرا بشكل بليغ في صناع الكلمة وقرائها، الامر الذي استمر الى يومنا هذا حيث يشكل النسخ القاعدة الاساسية للحروف الطباعية والنماذج الالكترونية للكتابة العربية. أما عملية تطوير خطي الرقاع والتوقيع الذين يرتبطان بالثلث على نحو لصيق، فتُنسب لإبن الخازن المتوفى عام 1124.
في الفترة التي امتدت لخمسة قرون لاحقة، وفي ظل حكم سلالة العباسيين (750-1258)، أصبحت بغداد عاصمة الدولة الإسلامية، وأطلق عليها إسم "مدينة السلام" لِما كانت تتمتع به من إستقرار وازدهار وتطورهائل أهلَّها لتُصْبِحَ مركزاً ثقافياً رئيساً في العالم، حيث كانت الفنون والعلوم تُنْعِمان بأكثر عصورهِما إنتاجاً وتألقاً. وفي هذه الحقبة المتمتعة بالانتعاش الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والمتوهجة بالنور الثقافي، كان لابد من ان يعاد تثويرُ الخط العربي ليكون حقلاً دراسياً دقيقا ومتخصصا يدرس في كتاتيب بغداد الشهيرة على ايدي عمالقة الخط الاوائل وطلابهم المتفوقين. لقد استوعب هذه المرحلة من تطور الخط وبجدارة عالية مهمات إدخال القواعد الهندسية والجمالية لتقييس الكتابة وإيجاد المعاير الفنية الكفيلة بضبط الخطوط لغويا وتشكيليا، والإرتقاء بنوعية الخط الى ما كان يُطلق عليه آنذاك "الخط المنسوب"، نسبة الى فترة الاقلاع عن الارتجال العشوائي والاجتهاد التلقائي والى ماكان يتطلبه هذا الفن من تناسبات هندسية محسوبة في اطار نظرية جمالية عربية اسلامية جديدة.
وفي هذا الصدد لابد من ذكر ان تلك الفترة الذهبية كانت قد شهدت نبوغ ثلاثة من الخطاطين العراقيين الذين يشير لهم مؤرخو الفن الاسلامي بـ "العمالقةً الثلاثة" الذين تميزوا تأريخيا بمهمات تطوير وتهذيب فن الخط العربي واستنباط قواعده وتقنين اصوله، والذين يُعْتَبَرون، في جميع المقاييس، الأعمدة الثلاثة التي بُنِيَ عليها تاريخ الخط العربي الإسلامي. اولئك المبدعون هُم: أبو علي محمد بن مقلة (توفى عام 940 م)، أبوالحسن علي بن هلال بن البواب (توفى عام 1024م) وياقوت المستعصمي (توفى 1298 م). وتتفق معظم المصادر العالمية، وبضمنها المصادر العربية والإسلامية على ان ابن مُقلة هو الذي إبتكر طريقة التقييس التناسبي في الخط التي تعتمد على استخدام النقاط كوحدة قياس لضبط اطوال الامتدادات العمودية والافقية وعمق احواض الانحناءات في الحروف. وتتفق المصادر المختلفة على ان كل من ابن البواب والمستعصمي اضطلعا بطريقتهما الشخصية وبزمن مختلف على إكمال قواعد ابن مقلة وتعديلها وتهذيبها بالتقنيات التجديدية والممارسة. واستنادا لما جاء في كتاب درمان (1998)، فان ياقوت المستعصمي هو الذي يقف وراء فكرة قطع مقدمة قصبة الخط بزاوية بدلاً من قطعها على نحو مستقيم، وهو ابتكار حاسم وتجديد ملحوظ أضفى على الخط تميّزاً جماليا لافتاً، ومنحه انسيابية وعذوبة اضافية.
يؤكد صفدي (1992) بأن اللوحة المنمنمة الشهيرة التي تصور خطاطا منكبا على عمله في قمة واحدة من منائر بغداد عندما كانت المدينة تدكها حوافر خيول الجيش المغولي الغازي عام1258م ماهي الا تصويرا حقيقيا لياقوت المستعصمي الذي لم يأبه عنف المغول وتخريبهم فلم يستطع تأجيل تمرينه اليومي فوجد مكانه الامين في اعلى المنارة لاكمال تمرين المراس. ولم يكن ذلك في واقع الامر الا شهادة تأريخية و دليلا ملموسا على إنضباط المستعصمي المهني وإلتزامه بفنه واحترامه لما يتطلب هذا الفن من تكريس كامل للعقل والقلب والضمير.
لقد تحققت إنجازات عظيمة في الخط في اجزاء مهمة اخرى من العالم العربي والاسلامي لابد من ذكر اهمها. فإبان عهد المماليك في القاهرة (1250-1517) كان القائمون على السلطة ممن اهتم برعاية الاداب والفنون الإسلامية بدرجة عالية من الحماسة، الامر الذي ادى الى نبوغ خطاطين مصريين متميزين مثل محمد بن عبد الواحد، محمد المحسني، وإبراهيم بن الخبّاز الذين تركوا وراءهم روائع خالدة في الخط والزخرفة، وبخاصة في مجال زخرفة وتذهيب القرآن، ومن هنا فلابد من القول بأن إلتزام المماليك وحماسهم في رعاية الفنون اولا، وإنضباط العثمانيين ومتابعاتهم فيما بعد ثانيا كانا من الاسباب الجوهرية التي ادت الى خلق وترسيخ ثقافة خط متميزة وتراث صلد من القواعد التقليدية في الخط والزخرفة لا زالت حَيَّةً في القاهرة حتى اليوم.
أما في بلاد فارس، فقد تطورت ثلاثة أنواع مميزة من الخطوط وهي: خط "التعليق" بروعته المدهشة وإنسيابيته الشعرية، وهو المستمد من خط عربي كان معروفاً على نطاق ضيق يدعى (فيراموز). يرى صفدي (1992) ان خط التعليق يدين بكثير من تطوره الى الخطاط البارز تاجي سلماني الإصفهاني الذي ذاع صيته في بواكير القرن التاسع. كما يعتقد ان الخطاط الشهير الاخر عبد الحي الأستربادي هو الذي شذب التعليق وهذبه وبسطه وجعله في متناول الجمهور العام. أما النوع الثاني من الخطوط التي نشأت وتطورت في بلاد فارس فهو خط "النستعليق" الذي هو عبارة عن توليفة متناسقة من خَطَّي النسخ والتعليق. وبالرغم من ان النستعليق ينسب في البداية الى مير علي سلطان التبريزي (توفى 1416)، فإن الخطاط الذي تولى مهمات صْقلِه وإتمامِه هو مير عماد الحسني (المتوفى عام 1625م). وكان هذا النوع من الخط سائداً ومنتشرا في عموم البلاد الفارسية الى الدرجة التي إستمر وترسخ فيها ليُصبحَ الخط الوطني في ايران حتى يومنا الحالي. واضافة الى النستعليق فإن خط "الشكستة" هو النوع الثاني من الخطوط التي تعتبر فارسية حصرا والتي لم تجد لها اي تطبيق او انتشار في بلاد العرب. والشكسته عبارة عن نوع محلي تطور بشكل رئيس على يد الخطاط درويش عبد المجيد الطالقاني. ولابد من ذكر عمليات التطوير ألاخرى للخطوط العربية التي جرت في مناطق الشرق الأخرى مثل خط "الحيراتي" في أفغانستان، و"البهاري" و "زلف العروس" في الهند، و"الصيني" في الصين.
لقد مر الخط بفترة ذهبية ثانية من تأريخ ازدهاره بعد الفترة الذهبية العباسية. وهذه هي الفترة العثمانية. فقد سطع نجم الخط وتصاعد مرة اخرى في سماء الدولة الإسلامية في عهد العثمانيين، وعلى وجه الخصوص أثناء أكثر حقباتها إستقراراً (1500-1923). فعلى مدى أكثر من أربعة قرون، بلغ الخط ذروة إكتمالِه على يد خطاطين مُقتدرين افذاذ مثلوا طابورا طويلاً من أساتذة أسطنبول المتميزين الذين لم يتوقفوا عند حد تهذيب الخطوط المعروفة والإرتقاء بخصائصها نحو الذروة، بل إبتكروا أنواعاً متميزة جديدة مثل "الديواني" و"الجلي ديواني" و"الطُغراء" و"السياقات". يعتلي قمة هذا الطابور الإستثنائي من الخطاطين كل من شيخ حمد الله الاعمصي (1429-1520)، الحافظ عثمان (1642-1698)، مصطفى راقم (1758-1826)، سامي أفندي (1838-1912)، شوقي أفندي (1829-1887) و محمد الياسري (توفى 1798). أما آخر ثلاثة عمالقة من الخطاطين الاتراك فكانوا مصطفى حليم (توفى 1964)، نجم الدين أوكياي (توفى 1976) وحامد أيتك الآمدي (توفى 1982). وبإعتبار هذه الكوكبة من عباقرة الفن الاسلامي وبفضل ألمعيتهم وتفانيهم لم يكن للخط الباهر الذي نعرفه اليوم أن يبلغ هذا القدر من الإنجاز. وفي الختام، يمكن القول انه ليس ثمة شك في ان جوهر القواعد التقليدية في الخط العربي الإسلامي تُنسب بشكل أساس الى مدرستين مؤثرتين الى حد بعيد: مدرسة بغداد القديمة (900-1300)، والمدرسة العثمانية اللاحقة (1500-1900). ولهذا، فمن نافل القول ان يُشار الى ان الخط العربي الإسلامي كان قد وُلِدَ وترعرع في بغداد ونضج وإزدهر في أسطنبول.
--------------
(*)"فصل من كتاب قيد النشر"
د. مصدق الحبيب
د. مصدق الحبيب
18/08/2008
قراءات: 1339
"فلابد هنا من قولة الحق والانصاف، بأن ما سيخلده التأريخ الانساني من التراث العربي في نهاية المطاف هو ثلاثاً: القرآن اولاً، والشعر العمودي ثانياً، والخط العربي متضمناً الزخرفة والعمارة ثالثاً. ذلك إن الخط العربي ماهو الا هندسة الروح العربية الملهَمة بلغة الحب والايمان والخلود"
AbdelKebir Khatibi, The Splendor of Islamic Calligraphy (2001)
بالرغم من الاعتقاد الشائع حول الارتباط الوثيق بين نشأة الكتابة العربية وبزوغ فجر الاسلام إلا ان تأريخ الصيغة المكتوبة للغة العربية يعود في واقع الامر الى عصور ما قبل الإسلام، حيث تجذرت التركيبات اللغوية واستمدت أشكال حروفها الأبجدية بفضل ارتباطها مع اللغات النبطية الآرامية التي كانت سائدة في المنطقة وقتذاك. على ان تطور الهياكل التشكيلية والصيغ الهندسية للحروف الابجدية العربية كان قد تفجر بنجاح مضطرد مع نزول القرآن وشيوع تعاليم الدين الاسلامي منذ نهايات القرن السادس الميلادي فصاعداً. فمع إنتشار رسالة القرآن، تطوّرت الوظيفة الرئيسية للكتابة العربية من تسجيل الامور اليومية الاعتيادية الصغيرة الى توثيق وتبجيل وحفظ الوحي الجديد. ولم يكن يمر زمن طويل حتى أصبح النَسّاخون، والخطّاطون لاحقاً، مُلتزِمين مهنيا واخلاقيا وروحيا بتجميل وتزويق وموازنة كتاباتهم من اجل تقديمها على أمثل وجه بهيّ يليق بقدسية كلام الله ويجسد قيمته السماوية واهميته الدنيوية. ومن هنا كان على الخط أن يتحوّل الى حرفةٍ تَحْكُمُها قواعد محددة وتربط محترفيها بإلتزام اخلاقي ديني مقدس جدير بمن يؤتمن ان يقدم كلام الله لعامة الناس. وبذلك فقد كان من الطبيعي ان يتظافر الابداع الفني في تطوير اصول الخط واشكاله مع العلم والادب والفلسفة والاخلاق والروحانية. ومن هذا المفصل لم يكن مُفاجِئاً ان يشيع قول العرب وتوصيفها للخط العربي بأنه " هندسة الروح التي تنساب عبر اليد".
طِوال المراحل الأولى من تطور الكتابة، ووصولاً الى الصيغة النهائية للحروف وطريقة نطقها، كان الامر قد تَطَلَّبَ إجراءَ تعديلات وتنقيحات لا حصر لها من قبل اللغويين الاوائل مثل أبو الأسود الدؤلي (توفى عام 688)، والخليل بن احمد الفراهيدي (توفى786) اللذين كانت اسهاماتهما في إبتكار نظام النقاط والحركات حاسمة في ترسيخ مسار اللغة الصحيح. وبسبب من كثرة الاسهامات الفردية والجماعية واختلاف مصادرها على امتداد قرون عديدة، اصبح من المتعذر ان يستدِّل المتتبع على مسارٍ خَطّي واحد لإقتفاء أثر تطوّر كتابة الحروف العربية منذ البداية ولحد الان. فمع إنتشار رقعة الإسلام شرقاً وغرباً، تطوّر العديد من إشتقاقات وأساليب كتابة الحروف وعلى إمتداد مساحات جغرافية واسعة، الامر الذي ادى الى ان تصبح اللغة شكلا ومضمونا عبارة عن إنعكاساتٍ لثقافاتٍ ومجتمعاتٍ متباينة ومتعددة. إلا ان فيما يخص موضوع شكل الحروف وتحول الكتابة الى خط ، تشيرالمصادر التأريخية الى ان الحروف التي تم إستخدامها في أول نسخة مخطوطة من القرآن كانت بخط اولي يدعى "الجزم". وقد تشرف بنسخ تلك النسخة الاولى من المصحف زيد بن ثابت، وذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان (644-656). على ان خط الجزم الاول كان مختلفا باختلاف المناطق التي تطور فيها. فهناك الجزم (الحيري) و(الأنباري) في العراق، و(المَكّي) و(المديني) في الجزيرة العربية. وبالإضافة الى الجزم، تم تطوير العديد من أشكال الكتابة في جميع الأماكن الأخرى لتمثل انواعا اخرى من الخطوط التي كان بعضها شعبيا وشائعاً فإستمر ليتطوّر الى صياغاتٍ أخرى مثل (المائل) الذي تطور كثيرا في العراق ليصبح بعدئذ (الكوفي)، فيما اندثر البعض الآخرالأقل شيوعاً مثل (المُكوَّر) و(المَبسوط) و(المشق)، التي تلاشت جميعا بَعدَ حِين.
ومع تطوّر دولة الإسلام وإتساعها، وشيوع الوظائف الادارية وحاجاتها من المهمات الكتابية، تم تطوير مجموعات جديدة أخرى من الخطوط التي أخذت تُلَبّي مُتطلبات الوظائف المدنية المتصاعدة من اجل مواجهة الطلب المتزايد على المراسلات الإدارية والتجارية. وفي مجال نبوغ الخطاطين الاوائل في هذا المجال، يمكن الاشارة ، بموجب ماجاء في صفدي (1992) الى إثنين من ألمع الخطاطين الأمويين في دمشق لإسهاماتِهما التاريخية في تطوير الكتابة الاعتيادية الى خط. أولهم هو قطبة المحرر الذي يُنسب إليه تطوير صيغة الخطوط الاولى المكتوبة بشكل متصل، مثل (الطومار)، (والجليل)، (والنصف)، (والثلث)، (والثلثين). كما نُسبت إليه الكتابة الرائعة بخط الجليل المنقوشة على محراب مسجد النبي في المدينة المنورة. أما الخطاط الثاني فهو خالد بن الهيّاج، الذي كان يشغل منصب النسّاخ الرسمي الاول للخليفة الوليد بن عبد الملك (705-715). وهنا تجدر الاشارة الى اعمال الخط الرائعة التي سجلت قبل ذلك على جدران مسجد قبة الصخرة في القدس الذي شيده الخليفة عبد الملك بن مروان عام 690 كأول انجاز عملاق في حقل العمارة الاسلامية. كما يُنسب للهياج اكمال نُسَخٍ كبيرة من القرآن بخطوط الطومار والجليل.
وتجدر الاشارة ايضا الى ان هذه الخطوط الاولية المبكرة كانت قد نسبت الى حجم القصبة التي تكتب بها. على ان خط الطومار كان يصلح لان يكون أساس القياس، حيث ان إرتفاع مدة الحرف تساوي ما قَدْرُهُ أربعٌ وعشرون شعرةً مرصوفة من ذَيْلِ حِصان، فيما تُشير خطوط (النصف) و(الثلث) و(الثلثين) الى نصف وثلث وثلثي هذا القدر تِباعاً. وهنا يرى صفدي (1992) ان نظرية عربية منافسة تضع تفسيرا اخرا في هذا المجال فتشير الى (النصف) و(الثلث) و(الثلثين) كنسبةِ مَدّات الحروف الى إنحناءاتها في تلك الأنواع من الخطوط.
في منتصف القرن السابع الميلادي تحول مد الاهتمام بالخط العربي وتطوره بشكل متميز الى العراق، وخاصة في مدينة الكوفة التي كانت قد تأسست عام (640) كمستودعٍ لحامية عسكرية. الا ان اتساع وتطور الثكنة العسكرية سرعان ما أدى الى تحوّل المدينة الى مركز دينيٍ وثقافي وفر المتلزمات المدنية واجتذب كل من يتعامل مع العلوم والاداب والفنون ليأسسوا نشاطاتهم المتنوعة في بيئة صحية فيها الكثير من الحوافز ومستلزمات الانتاج الثقافي. وليس من الغريب في مثل ذلك المناخ ان يتوافد النساخون والخطاطون واساتذة الادب والفن للعمل والاستقرار في الكوفة. ومن هناك ازدهر الخط العربي ودخل مرحلة اخرى جديدة تمخّضت عن ولادة خط جديد يدعى "الكوفي كتطوير لخط "المائل" السابق ذكره. يتميّز هذا النوع الجديد من الخطوط بتكوينه الهندسي الصارم الذي غالباً ما يكون مُشْتَمِلاً على زخارفَ تزيينية، ومقرونا بالمرونة الواسعة التي سمحت له ان يتناغم مع مشتقات ومتغايرات كثيرة مثل "المضفور"، "المزهور"، "المورَّق"، "المعقود"، "المُخمَّل"، "المُربَّع" وانواع عديدة أخرى. ولما يتميز به الخط الكوفي من دقة في القياس ومثال في التناسب فانه كان نتيجة طبيعية لنشوء ونموَّ جيلٍ جديد متمكن في استيعاب العلوم وضليع في دراسة وهضم الحساب والهندسة، مما كان يعتبر صفة واضحة ميزت ازدهار الكوفة العلمي والثقافي. على ان الخط الكوفي الاصلي ذاع صيته واتسع سراعا ليشمل مناطق قريبة وبعيدة ضمن الامبراطورية الاسلامية التي كانت تتسع جغرافيا هي الاخرى. ومن هنا يأتي تفسير مسميات الخط الكوفي تبعا لمناطق تطوره. فهناك على سبيل المثال "الكوفي المشرقي" الذي يرجع الى انماط متنوّعة طوِّرت في بغداد، و"الكوفي المغربي" الذي يشير بصفة عامة الى تنويعة من الخطوط الكوفية الاصل التي طُوِّرت في القيروان في أقصى غرب المنطقة العربية حيث إكتسب بعدئذ شعبيةً واسعة في عموم شمال غرب أفريقيا والأندلس، وبخاصة في عهدي دولة الاغلبيين (800-909) والفاطميين (910-1171). وكان الخط الكوفي قد بلغ ذروة تطوره في نهاية القرن الثامن لكنه واصلَ هيمنته على حرفة نَسخ القرآن حتى بدأت الخطوط المتصلة الاخرى الأكثر مرونة وانسيابا والاقل التزاما بالتناسبات الرياضية تحل مَحلَّهُ بالتدريج.
مع حلول القرن الحادي عشر، إستمرت مجموعة من الخطوط المتصلة الأولى في هيمنتها على نسخ القرآن وكتابة النصوص الدينية والمدنية. الا ان خط "الثلث" ، من بين الانواع الاخرى، تقدم بشكل ملحوظ ليكون على رأس قائمة متكونة من ستة أشكال من الخطوط، أُطلِق عليها "الأقلام الستة"، في إشارة الى أكثر الأشكال شيوعاً في ذلك الوقت، وهذه الخطوط هي الثُلث، النَسْخ، المُحَقَّق، الريحاني، الرِّقاع، والتوقيع. وبالرغم من ان خطوط الثلث والمحقق والريحاني كانت تستخدم في نسخ القرآن، إلا ان خط النسخ إكتسب شعبية فذّة وهيمن على حرفة كتابة المصاحف مؤثرا بشكل بليغ في صناع الكلمة وقرائها، الامر الذي استمر الى يومنا هذا حيث يشكل النسخ القاعدة الاساسية للحروف الطباعية والنماذج الالكترونية للكتابة العربية. أما عملية تطوير خطي الرقاع والتوقيع الذين يرتبطان بالثلث على نحو لصيق، فتُنسب لإبن الخازن المتوفى عام 1124.
في الفترة التي امتدت لخمسة قرون لاحقة، وفي ظل حكم سلالة العباسيين (750-1258)، أصبحت بغداد عاصمة الدولة الإسلامية، وأطلق عليها إسم "مدينة السلام" لِما كانت تتمتع به من إستقرار وازدهار وتطورهائل أهلَّها لتُصْبِحَ مركزاً ثقافياً رئيساً في العالم، حيث كانت الفنون والعلوم تُنْعِمان بأكثر عصورهِما إنتاجاً وتألقاً. وفي هذه الحقبة المتمتعة بالانتعاش الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي والمتوهجة بالنور الثقافي، كان لابد من ان يعاد تثويرُ الخط العربي ليكون حقلاً دراسياً دقيقا ومتخصصا يدرس في كتاتيب بغداد الشهيرة على ايدي عمالقة الخط الاوائل وطلابهم المتفوقين. لقد استوعب هذه المرحلة من تطور الخط وبجدارة عالية مهمات إدخال القواعد الهندسية والجمالية لتقييس الكتابة وإيجاد المعاير الفنية الكفيلة بضبط الخطوط لغويا وتشكيليا، والإرتقاء بنوعية الخط الى ما كان يُطلق عليه آنذاك "الخط المنسوب"، نسبة الى فترة الاقلاع عن الارتجال العشوائي والاجتهاد التلقائي والى ماكان يتطلبه هذا الفن من تناسبات هندسية محسوبة في اطار نظرية جمالية عربية اسلامية جديدة.
وفي هذا الصدد لابد من ذكر ان تلك الفترة الذهبية كانت قد شهدت نبوغ ثلاثة من الخطاطين العراقيين الذين يشير لهم مؤرخو الفن الاسلامي بـ "العمالقةً الثلاثة" الذين تميزوا تأريخيا بمهمات تطوير وتهذيب فن الخط العربي واستنباط قواعده وتقنين اصوله، والذين يُعْتَبَرون، في جميع المقاييس، الأعمدة الثلاثة التي بُنِيَ عليها تاريخ الخط العربي الإسلامي. اولئك المبدعون هُم: أبو علي محمد بن مقلة (توفى عام 940 م)، أبوالحسن علي بن هلال بن البواب (توفى عام 1024م) وياقوت المستعصمي (توفى 1298 م). وتتفق معظم المصادر العالمية، وبضمنها المصادر العربية والإسلامية على ان ابن مُقلة هو الذي إبتكر طريقة التقييس التناسبي في الخط التي تعتمد على استخدام النقاط كوحدة قياس لضبط اطوال الامتدادات العمودية والافقية وعمق احواض الانحناءات في الحروف. وتتفق المصادر المختلفة على ان كل من ابن البواب والمستعصمي اضطلعا بطريقتهما الشخصية وبزمن مختلف على إكمال قواعد ابن مقلة وتعديلها وتهذيبها بالتقنيات التجديدية والممارسة. واستنادا لما جاء في كتاب درمان (1998)، فان ياقوت المستعصمي هو الذي يقف وراء فكرة قطع مقدمة قصبة الخط بزاوية بدلاً من قطعها على نحو مستقيم، وهو ابتكار حاسم وتجديد ملحوظ أضفى على الخط تميّزاً جماليا لافتاً، ومنحه انسيابية وعذوبة اضافية.
يؤكد صفدي (1992) بأن اللوحة المنمنمة الشهيرة التي تصور خطاطا منكبا على عمله في قمة واحدة من منائر بغداد عندما كانت المدينة تدكها حوافر خيول الجيش المغولي الغازي عام1258م ماهي الا تصويرا حقيقيا لياقوت المستعصمي الذي لم يأبه عنف المغول وتخريبهم فلم يستطع تأجيل تمرينه اليومي فوجد مكانه الامين في اعلى المنارة لاكمال تمرين المراس. ولم يكن ذلك في واقع الامر الا شهادة تأريخية و دليلا ملموسا على إنضباط المستعصمي المهني وإلتزامه بفنه واحترامه لما يتطلب هذا الفن من تكريس كامل للعقل والقلب والضمير.
لقد تحققت إنجازات عظيمة في الخط في اجزاء مهمة اخرى من العالم العربي والاسلامي لابد من ذكر اهمها. فإبان عهد المماليك في القاهرة (1250-1517) كان القائمون على السلطة ممن اهتم برعاية الاداب والفنون الإسلامية بدرجة عالية من الحماسة، الامر الذي ادى الى نبوغ خطاطين مصريين متميزين مثل محمد بن عبد الواحد، محمد المحسني، وإبراهيم بن الخبّاز الذين تركوا وراءهم روائع خالدة في الخط والزخرفة، وبخاصة في مجال زخرفة وتذهيب القرآن، ومن هنا فلابد من القول بأن إلتزام المماليك وحماسهم في رعاية الفنون اولا، وإنضباط العثمانيين ومتابعاتهم فيما بعد ثانيا كانا من الاسباب الجوهرية التي ادت الى خلق وترسيخ ثقافة خط متميزة وتراث صلد من القواعد التقليدية في الخط والزخرفة لا زالت حَيَّةً في القاهرة حتى اليوم.
أما في بلاد فارس، فقد تطورت ثلاثة أنواع مميزة من الخطوط وهي: خط "التعليق" بروعته المدهشة وإنسيابيته الشعرية، وهو المستمد من خط عربي كان معروفاً على نطاق ضيق يدعى (فيراموز). يرى صفدي (1992) ان خط التعليق يدين بكثير من تطوره الى الخطاط البارز تاجي سلماني الإصفهاني الذي ذاع صيته في بواكير القرن التاسع. كما يعتقد ان الخطاط الشهير الاخر عبد الحي الأستربادي هو الذي شذب التعليق وهذبه وبسطه وجعله في متناول الجمهور العام. أما النوع الثاني من الخطوط التي نشأت وتطورت في بلاد فارس فهو خط "النستعليق" الذي هو عبارة عن توليفة متناسقة من خَطَّي النسخ والتعليق. وبالرغم من ان النستعليق ينسب في البداية الى مير علي سلطان التبريزي (توفى 1416)، فإن الخطاط الذي تولى مهمات صْقلِه وإتمامِه هو مير عماد الحسني (المتوفى عام 1625م). وكان هذا النوع من الخط سائداً ومنتشرا في عموم البلاد الفارسية الى الدرجة التي إستمر وترسخ فيها ليُصبحَ الخط الوطني في ايران حتى يومنا الحالي. واضافة الى النستعليق فإن خط "الشكستة" هو النوع الثاني من الخطوط التي تعتبر فارسية حصرا والتي لم تجد لها اي تطبيق او انتشار في بلاد العرب. والشكسته عبارة عن نوع محلي تطور بشكل رئيس على يد الخطاط درويش عبد المجيد الطالقاني. ولابد من ذكر عمليات التطوير ألاخرى للخطوط العربية التي جرت في مناطق الشرق الأخرى مثل خط "الحيراتي" في أفغانستان، و"البهاري" و "زلف العروس" في الهند، و"الصيني" في الصين.
لقد مر الخط بفترة ذهبية ثانية من تأريخ ازدهاره بعد الفترة الذهبية العباسية. وهذه هي الفترة العثمانية. فقد سطع نجم الخط وتصاعد مرة اخرى في سماء الدولة الإسلامية في عهد العثمانيين، وعلى وجه الخصوص أثناء أكثر حقباتها إستقراراً (1500-1923). فعلى مدى أكثر من أربعة قرون، بلغ الخط ذروة إكتمالِه على يد خطاطين مُقتدرين افذاذ مثلوا طابورا طويلاً من أساتذة أسطنبول المتميزين الذين لم يتوقفوا عند حد تهذيب الخطوط المعروفة والإرتقاء بخصائصها نحو الذروة، بل إبتكروا أنواعاً متميزة جديدة مثل "الديواني" و"الجلي ديواني" و"الطُغراء" و"السياقات". يعتلي قمة هذا الطابور الإستثنائي من الخطاطين كل من شيخ حمد الله الاعمصي (1429-1520)، الحافظ عثمان (1642-1698)، مصطفى راقم (1758-1826)، سامي أفندي (1838-1912)، شوقي أفندي (1829-1887) و محمد الياسري (توفى 1798). أما آخر ثلاثة عمالقة من الخطاطين الاتراك فكانوا مصطفى حليم (توفى 1964)، نجم الدين أوكياي (توفى 1976) وحامد أيتك الآمدي (توفى 1982). وبإعتبار هذه الكوكبة من عباقرة الفن الاسلامي وبفضل ألمعيتهم وتفانيهم لم يكن للخط الباهر الذي نعرفه اليوم أن يبلغ هذا القدر من الإنجاز. وفي الختام، يمكن القول انه ليس ثمة شك في ان جوهر القواعد التقليدية في الخط العربي الإسلامي تُنسب بشكل أساس الى مدرستين مؤثرتين الى حد بعيد: مدرسة بغداد القديمة (900-1300)، والمدرسة العثمانية اللاحقة (1500-1900). ولهذا، فمن نافل القول ان يُشار الى ان الخط العربي الإسلامي كان قد وُلِدَ وترعرع في بغداد ونضج وإزدهر في أسطنبول.
--------------
(*)"فصل من كتاب قيد النشر"
د. مصدق الحبيب
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire