المسافة النفسية بين الانسان والتصميم
ا. د. اياد حسين عبد الله
ليس من المؤكد ان تتطابق تماما الحاجات الانسانية بميولها ورغباتها مع الاشياء التي تثير انفعالاتها، وانما يعتمد هذا التجاوب على نواحي عديدة بين الشكل الموضوعي كقيمة جمالية
وبين الميول والتجربة الجمالية الذاتية فضلا عن الحاجات المادية والروحية للانسان وهذه المتغيرات تجعل المسافة النفسية بين الانسان والتصميم متغيرة ايضا وهذا التغير يؤثر مباشرة على مستوى التجاوب والتقمص .
وان كان المصمم يهدف الى ايجاد حالة من التوحد بين ذات المشاهد وموضوع الانفعال (التصميم) وهو افضل ما يتوصل اليه المصمم المبدع الا ان ذلك احيانا خارج قدرة المصمم على الانجاز بسبب ما يحتكم بالمزاج الفني والجمالي للمتلقي، ولهذا فان كل موضوع انفعالي له مسافة تفسير معينة خاصة به ويصعب تكرارها . كما ينبغي على المصمم ان يدرك ان هناك فصلا واضحا بين قيمتين اساسيتين في التصميم هي الموضوع الذي يتمثل بجوهر فكرة الاداء والوظيفة من ناحية، وجاذبية ذلك التصميم المتعلقة بالشكل، وقيمته الفنية والجمالية وكلا الجانبين طرفين اساسيين في عملية تحديد المسافة النفسية .
وحدد (بوالو) عوامل عديدة تزيد او تقلل من المسافة محاولا تفسير المبادءئ الجمالية والعوامل النفسية التي تتحكم في علاقات التقمص الخاصة بالمتلقي مع العمل الفني واشار الى ان مجموعة هذه العوامل هي مجموعة اسلوبية .
فعلى سبيل المثال في الفن الواقعي (الصورة الفوتوغرافية مثلا) تقل المسافة فيزيد التقمص وتقل المتعة، بينما في الفن عال التجريد (لوحة لموندريان او بولكليه) فان المسافة تزيد ومن ثم يقل التقمص وتزيد المتعة الجمالية، وعموما فان كل الفنون التي تعتمد انماط الاشكال الانسانية كما في الرقص والغناء والمسرح فان المسافة تقل وتزيد حالة التقمص، بينما الصور الفنية التي لا وجود للاشكال الانسانية حضورا واضحا فيها كالعمارة والتصميم الصناعي والطباعي والاقمشة تزيد المسافة مما يؤدي الى قلة التقمص .
وحقيقة الامر ان التعرف على الاشكال الانسانية يميل الى تعزيز علاقة الوحدة والاندماج الذاتي بين الموضوع والمتلقي وان كانت على حساب المتعة الجمالية . ومن جهة ثانية فان هناك العديد من الافراد من ذوي الاهتمامات العلمية ينظرون الى الموضوع الفني على اساس احتياجاتهم واهتماماتهم ويفقدون في ذات الوقت ذلك الاهتمام الخاص بالجانب الفني المميز .
ولما كان فن التصميم يؤدي وظيفة مزدوجة الاولى في القيم الجمالية الشكلية اسوة بالفنون البصرية، فمن الضروري التأكيد على الجانبين معا، الاولى اقلال المسافة النفسية لاجل زيادة عملية التقمص وبالتالي تأكيد القبول الوظيفي والنفعي للتصميم ومن جانب اخر فان ضرورة زيادة المسافة النفسية من شأنها اقلال عملية التقمص وبالتالي زيادة القيمة الجمالية، ولكي لا يتحول العمل التصميمي مجرد سلعة لها اداء او نفع محدد وهنا يتوجب خلق موازنة بين الجانبين حسب اهمية ونوع التصميم لان بعض انواع التصاميم لا تتساوى فيها كفتي الجمال والوظيفة بنفس النسبة وانما احيانا ترجح احدهما على الاخرى رغم اهمية كل منهما في تكوين التصميم وتحقيق هدفه .
والمتلقين اصحاب الاهتمامات العملية بما يعرضه او يقدمه العمل الفني قد يفقدون الانفصال او المسافة اي انهم يصبحون قريبين بدرجة كافية من الموضوع، وعندما ينظرون الى موضوع فني يكون اهتمامهم موجها اساسا الى اهدافهم وحاجاتهم الشخصية، ولذلك فانهم يفقدون المشهد الخاص بالعوامل الفنية المميزة للعمل والتي تعطي له قيمة جمالية وعلى العكس فان المتلقي ذوي الاهتمام الشخصي المحدد والذين يميلون ان يكونوا بعيدين بدرجة كافية، انهم يتمتعون على نحو ضئيل تماما بالشكل او القيمة او الموضوع الخاص بالعمل الفني، ولا يكون اندماجهم الذاتي في العمل الفني قويا بدرجة كافية لانتاج استجابة جمالية . وهنا يتوجب ان نعلم ما هو مقدار المسافة المثالية المطلوبة بين التصميم والمتلقي لكي يتم الاندماج الذاتي بينهما .
والضرورة تقتضي من المصمم ادراك المسافة النفسية المطلوبة من تصميمه وبين المتلقي وفقا لاهداف ذلك التصميم وطبيعة وظيفته وادائه وقيمته .
1- المتعة:
وهو شعور ناتج عن الحالة التي يثيرها نوع من الاندماج ومواصلة التفاعل مع موضوع معين بحيث يؤدي الى اكتشاف او ارتياح او قلق كنتيجة لهذا التفاعل .
ويحصل الانسان على المتعة من خلال النشاطات الخاصة التي تقوم بها الحواس والاداء والاستدلال، فالحواس هي الوسيلة الناقلة لهذه المتعة الى النفس سواء كانت عن طريق البصر او السمع او اللمس او الذوق او الشم، فرؤية فلم سينمائي او لوحة فنية او سماع مؤلفات موسيقية او شم عطور رائعة او تذوق بعض الاطعمة او لمس بعض الاشياء الجميلة او كتابة بحث جيد او حل مسألة صعبة او اثناء تبادل وجهات النظر .
غالبا فان كل نوع من المتعة يقابله نوع من الالم، الالم الجسدي يقابله الراحة والمرارة يقابلها الفرح والحزن يقابله السرور والجوع يقابله الشبع .... الى اخره .
ان البحث عن الاعتدال والتوازن هي الحالة التي يبحث عنها الانسان من خلال المتعة كما ان حالة الزهو والفخر والامان وتحقيق الذات وحب السيطرة كلها حالات يجد الانسان فيها متعة كبيرة وبالتأكيد يختلف مستوى المتعة التي يحتاجها الافراد من شخص الى اخر باختلاف ثقافاتهم ومستوياتهم وحاجاتهم .
وحقيقة الامر ان ما نسميه بالمتعة يتحول غالبا الى حاجات في فن التصميم يسعى الانسان الى اشباعها في اطار من المتعة واللذة . اي ان القيمة النفعية المباشرة هي اول ما يجب ان يتحقق في التصميم لغرض اثارة المتعة .
لهذا يظهر جانب الاستدلال كضرورة حتمية لتحقيق المتعة وهي عملية تفكير التي يتمكن من خلالها استنتاج استدلال معين استنادا الى فكرة التصميم كمقدمات وبينما يمكن ان تحققه هذه الفكرة من نتائج واهداف وفقا لقاعدة الاستدلال .
وهذا يعني ان المقدمات الفنية في شكل التصميم والتي قد تثير المتلقي اذا كانت صادقة في قيمها الجمالية فان الفرد يعتقد بصحة اهداف ونتائج هذا التصميم، اي انه غالبا يربط جودة الشكل بكفاءة المنتوج، وهذا ما يستغله الكثير من المنتجين في عدم تطابق النتائج مع صدق الشكل، وهو ما تثبته طبيعة البرهان والاستخدام النهائي للتصميم بما يجعل الفرد يستشعر بصدق النتائج او يحس بخيبة الامل فضلا عن عدم تحقق المتعة لعدم تطابق النتائج مع المقدمات .
اذاً على المصمم الذي يحرص على ان يحقق تصميمه للاهداف المرجوة، ولا بد ان يدرك ذلك كما يحرص على المنتجون الذي يكسبون ثقة زبائنهم دائما على اقتران صدق الشكل بقيمة النتائج .
*عميد الكلية العلمية للتصميم - مسقط
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire