الفنانة التشكيلية رشيدة عمارة
الطور الثالث
خيط نيتشه
عمر الغدامسي
أقتطف هذه الفقرة من الكسندر اليوت:
كل شيء قد بني حول لا شيء، كالكهف، ولذا يسمع المرء الصمت وقد يرى الفراغ. وهذان ينسابان الى دخيلة الإنسان. والإنسان ينساب اليهما. في داخل الصمت يسمع اللامسموع، وفي الفراغ يرى اللامرئي. ومن هنا جاءت رسوم الكهوف.
لا أستشهد بهذا المقتطف لمجرد أنّ أعمال رشيدة عمارة ـ في جزء منها على الأقل ـ تعيدنا بتكوينات شخوصها وبألوانها الى جداريات كهوف تاسيلي وأكاكوس. بل ولأنّ تلك الأخاديد والخطوط المحفورة، والتي تتلاقى وتتقاطع مجردة أو مشخصة ملوّنة أو في عري البياض، هي الموسيقى القادمة من لحظة البدء ومن تلك البراري، عندما كان الانسان الأول منجذبا بإزميله البدائي الى صخرة تحييه ويحييها صوتا وشكلا في آن اللحظة.. في لحظة الصمت بين حركة ازميل وآخر. كان ذلك الإنسان يسمع اللامسموع الكامن في داخله، ليراه متجليا على صخرته، كفراغ يرى فيه اللامرئي.
تحمل الفلسفة التاوية هذا المعنى ايضا والذي تترجمه رشيدة عمارة بصريا في اعمالها حيث يحيل عندها اللامرئي الى المرئي ويكون فيه المرئي امتدادا للامرئي.
الغياب صوت التجلي.. التجلي جسد الغياب.
يمتلك الفن هذه الخاصية الروحية وهو يعرف كيف يرتوي ويتجدد من لا وظيفته.
يتجدد الفن من قدرته على اللعب ومن غياب الضوابط المدرجة في أكاديميات معلبة ومحفوظة بعناية. وهذا ما تقوله لنا رشيدة عمارة في اعمال معرضها وذلك عندما جعلت من الامكانيات التقنية المتاحة لها في الحفر. مطية وليس حاجزا للبحث والمغامرة. فكان أن روّضت الحدود التقنية الصارمة في مجال الحفر وخبراتها ضمنه، لتبدو أكثر توافقا مع ذروة اللحظة وزخمها، ذلك أن العملية الابداعية لدى هذه الفنانة، تبدو أكثر انجذابا لفن الرسم الحركي، وللحظة التجلي امام بياض الحامل بشحناته وانفعالاته وانفلاتاته.
عندما نشاهد أعمال رشيدة عمارة في هذا المعرض، فعلينا أن نتذكر اعمال معارضها الأولى، لأن ذلك وحده سيجعلنا نتساءل عن الكيفية التي يعايش بها الفنان شخوصه ان وجدت.
الروائي يفعل ذلك وفق تطور الاحداث وكم من روائي تمردت عليه شخوصه. أما في الفن سواء كان رسما أو حفرا فإنّ الأمر مختلف تماما، فالشخصية لا تخضع للمعايشة بل للتنزيل، بوصفها شكل وتلوين. لنتذكر مثلا لوحات فرانسيس بايكون أو ايغون شيلي. عكس الرواية فإنّ الرسم أو الحفر يبرز حالات تعبيرية أو شعورية مكتفية بذاتها لكن لو نظرنا الى مسار رشيدة عمارة منذ اعمالها الأولى والى غاية ما تقترحه علينا في هذا المعرض، لاكتشفنا انها تعالج شخصياتها وفق بناء تصاعدي. انها تلك الشخصيات والتي تجلت في لوحاتها الأولى بأشكالها وتكويناتها الموحية بالخفّة والتكثيف والاختزال، نراها تحضر في جانب من اعمال هذا المعرض وقد تمددت على خيط ممتد، يضاهيها خفّة واختزالا، رشاقة وبساطة وكأنه امتداد لهم وهم امتداد له. لكن ذلك الخيط نراه معلقا في الفراغ وكأنه يطل على الهاوية ولعله بذلك يشير الى انسانية تلك الكائنات المعلقة عليه. انه خيط نيتشه: حيث ليس الإنسان الا خيط منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق، فهو الخيط المشدود فوق الهاوية.
في لوحات اخرى تبدو تلك الكائنات والتي لا تحتمل خفتها وقد غدت مثقلة بأجسادها. وما بدا تفاصيل شديدة الاختزال في اشكالها غدى ملامح مشوهة، قاسية ومتعبة اننا في أتون الهاوية والسقوط.
ونحن نذكر تلك الشخوص المعلقة وما آلت اليه، علينا أن نتوقف عند تلك الكائنات الوسطية ـ ان صح التعبير ـ والتي تبدو رغم غرائبيتها اكثر تناسبا مع الجسد البشري، اكثر دنيوية وشهوانية، أكثر تصميما وجاذبية.. انها كائنات ما قبل السقوط في الهوة.
معرض رشيدة عمارة برواق كالستي / الفنان الناقد عمر الغدامسي
الشخوص في اطوارها الاولي
الشخوص في طورها الثاني
الطور الثالث
خيط نيتشه
عمر الغدامسي
أقتطف هذه الفقرة من الكسندر اليوت:
كل شيء قد بني حول لا شيء، كالكهف، ولذا يسمع المرء الصمت وقد يرى الفراغ. وهذان ينسابان الى دخيلة الإنسان. والإنسان ينساب اليهما. في داخل الصمت يسمع اللامسموع، وفي الفراغ يرى اللامرئي. ومن هنا جاءت رسوم الكهوف.
لا أستشهد بهذا المقتطف لمجرد أنّ أعمال رشيدة عمارة ـ في جزء منها على الأقل ـ تعيدنا بتكوينات شخوصها وبألوانها الى جداريات كهوف تاسيلي وأكاكوس. بل ولأنّ تلك الأخاديد والخطوط المحفورة، والتي تتلاقى وتتقاطع مجردة أو مشخصة ملوّنة أو في عري البياض، هي الموسيقى القادمة من لحظة البدء ومن تلك البراري، عندما كان الانسان الأول منجذبا بإزميله البدائي الى صخرة تحييه ويحييها صوتا وشكلا في آن اللحظة.. في لحظة الصمت بين حركة ازميل وآخر. كان ذلك الإنسان يسمع اللامسموع الكامن في داخله، ليراه متجليا على صخرته، كفراغ يرى فيه اللامرئي.
تحمل الفلسفة التاوية هذا المعنى ايضا والذي تترجمه رشيدة عمارة بصريا في اعمالها حيث يحيل عندها اللامرئي الى المرئي ويكون فيه المرئي امتدادا للامرئي.
الغياب صوت التجلي.. التجلي جسد الغياب.
يمتلك الفن هذه الخاصية الروحية وهو يعرف كيف يرتوي ويتجدد من لا وظيفته.
يتجدد الفن من قدرته على اللعب ومن غياب الضوابط المدرجة في أكاديميات معلبة ومحفوظة بعناية. وهذا ما تقوله لنا رشيدة عمارة في اعمال معرضها وذلك عندما جعلت من الامكانيات التقنية المتاحة لها في الحفر. مطية وليس حاجزا للبحث والمغامرة. فكان أن روّضت الحدود التقنية الصارمة في مجال الحفر وخبراتها ضمنه، لتبدو أكثر توافقا مع ذروة اللحظة وزخمها، ذلك أن العملية الابداعية لدى هذه الفنانة، تبدو أكثر انجذابا لفن الرسم الحركي، وللحظة التجلي امام بياض الحامل بشحناته وانفعالاته وانفلاتاته.
عندما نشاهد أعمال رشيدة عمارة في هذا المعرض، فعلينا أن نتذكر اعمال معارضها الأولى، لأن ذلك وحده سيجعلنا نتساءل عن الكيفية التي يعايش بها الفنان شخوصه ان وجدت.
الروائي يفعل ذلك وفق تطور الاحداث وكم من روائي تمردت عليه شخوصه. أما في الفن سواء كان رسما أو حفرا فإنّ الأمر مختلف تماما، فالشخصية لا تخضع للمعايشة بل للتنزيل، بوصفها شكل وتلوين. لنتذكر مثلا لوحات فرانسيس بايكون أو ايغون شيلي. عكس الرواية فإنّ الرسم أو الحفر يبرز حالات تعبيرية أو شعورية مكتفية بذاتها لكن لو نظرنا الى مسار رشيدة عمارة منذ اعمالها الأولى والى غاية ما تقترحه علينا في هذا المعرض، لاكتشفنا انها تعالج شخصياتها وفق بناء تصاعدي. انها تلك الشخصيات والتي تجلت في لوحاتها الأولى بأشكالها وتكويناتها الموحية بالخفّة والتكثيف والاختزال، نراها تحضر في جانب من اعمال هذا المعرض وقد تمددت على خيط ممتد، يضاهيها خفّة واختزالا، رشاقة وبساطة وكأنه امتداد لهم وهم امتداد له. لكن ذلك الخيط نراه معلقا في الفراغ وكأنه يطل على الهاوية ولعله بذلك يشير الى انسانية تلك الكائنات المعلقة عليه. انه خيط نيتشه: حيث ليس الإنسان الا خيط منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق، فهو الخيط المشدود فوق الهاوية.
في لوحات اخرى تبدو تلك الكائنات والتي لا تحتمل خفتها وقد غدت مثقلة بأجسادها. وما بدا تفاصيل شديدة الاختزال في اشكالها غدى ملامح مشوهة، قاسية ومتعبة اننا في أتون الهاوية والسقوط.
ونحن نذكر تلك الشخوص المعلقة وما آلت اليه، علينا أن نتوقف عند تلك الكائنات الوسطية ـ ان صح التعبير ـ والتي تبدو رغم غرائبيتها اكثر تناسبا مع الجسد البشري، اكثر دنيوية وشهوانية، أكثر تصميما وجاذبية.. انها كائنات ما قبل السقوط في الهوة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire