الحروفية في تجربة التشكيلي علي عمر الرميص
كونية نص التضاد، بين عذوبة اختراق و عذاب احتراق، واحتمالات أحاجي جحا المنفتحة على الأزمنة الثلاث. (هذا الأنين في الناي نار وليس هواء، و كل من ليست لديه هذه النار فليكن هباءً) (كونُك الحقيقي هو الذي تتوجه إليه وليس الذي أنت فيه الآن) (كلنا رماد احتراق لشئٍ ما) (جلال الدين الرومي) *-كونية نص التضاد: لعل الحرف حلم كون،،، لعل الكون حلم حرف،،، هكذا تتجلى هواجس التساؤلات المشروعة في تجربة علي عمر الرميص التشكيلية، وهي تطرق مسار تجريبية حداثية تحقق في متنها البصري الساعي لكونية جمالية ذات متعة أصيلة لا تعتمد بحال على نزوات الرغبة بمحاكاة تقنيات وتجريدية مستعارة، من هنا يحقق نصه التشكيلي تضاد أولي صادم عبر إقحام مجال الإتصال في مشهدية متراوحة، بين تذوق بصري عرفاني للمطلق التجريدي المنبث من تكوين يعتمد منظوراً روحياً، مازال يشكل أهم خصائص التجلي التشكيلي للثقافة العربية والإسلامية، وبين موصلات تقنية متحفزة للكشف عن مفاهيم كونية تحقق دلالتها المتعامقة بمنطقية نسبية خاضعة لمجريات حداثية، ليتجلى سؤال الصدمة المتماهي بالحافز المنبث من مجمل أعمال التجربة التشكيلية،،، هل اجتازت الحداثة على رقعة واقع الهًوية عتبة محاكاة ومواكبة النموذج الأوربي..؟ عبر عصر تتحكم فيه التحولات ما بعد الرأسمالية، ودخول العولمة بصفتها أحد أشكال ما بعد الحداثة.. وهل كان للسمات البيئية والمحلية والرمزية والشعبية ومرشحات الوعي الميثولوجي، الأثر المتوازن مع تحولات الأساليب، ودخول الفن، بعد التصدع المتعاقب للأيديولوجيا، إلى فضاءات ما بعد التقنية؟. يصعب تحديد سمات هذه الحداثة.. وتحولاتها.. في عمق هذا الصراع.. حيث الحداثة ذاتها لم تكتمل.. زد عليه أن تهميش دور الفن له انعكاسه علي المؤسسة الثقافية والمجتمعية، وحتى حالة المغامرة الإبداعية، ففي الحصيلة لم تظهر تيارات أو مبادرات ذات قيمة إلا وفقدت هذا الامتياز، فبعد ان تبلورت جماعات الخمسينات، الرواد وبغداد للفن الحديث والانطباعيين العراقيين والمصريين، ظهرت نزعات متطرفة وجماعية مثلتها جماعة الرؤيا الجديدة.. وجماعة المجددين، والبعد الواحد..، الأمر الذي أرهق التجارب المتناثرة وأنحدر بها إلى هوة التكرار والمحدودية، تجارب محمود صبري في واقعية الكم، بصفتها محاولة إعطاء العلم - الفيزياء - دوره في الرؤية الجمالية، بغض النظر عن مدى نضجها وسوية طرحها.. مع ظهور تجارب فردية لم تجد صدي يناسبها وهي تنأى بنفسها عن مشهدية تأن تحت وطأة الانتقاء والحذف وسط ارتدادات دفعت بالفن إلي السوق الكاسد، تجارب علي العباني حول تقصي اللا مرئي والمخفيات في الطبيعة والفن، وعمر جهان في استلهام إيقاع مكونات الذات المجردة، وعدنان معيتيق في محاولات تعميم الخاص بالانفتاح المتوازي على الذاتي والمغاير.. محلياً على الأقل، إنها تجارب مكثت تخفي نزعتها التجريبية، ضمن مجتمع لم يكن فيه الفن حاضراً بحمولات ثقافية أو تجليات جمالية لحالة إحساس حقيقي بحال هُوية، إلا بصورة محدودة ووظيفية وشكلية من قبل بعض المشتغلين بالثقافة، أو في أحسن الأحوال تكريسها في الوعي النخبوي كعلامة عصر، وبعد هجرات كبري لمئات الفنانين ومنهم التشكيلي على عمر الرميص، الذي انفلت بتجربته من حالة غياب الحوار المناسب الذي يُحدث في الفلسفة والأسواق والتقنيات، وهي الحالة التي عبثت في جينات المركب الثقافي الذي أنتج صيرورة مستنسخة للفن كظاهرة لا تقول الذي كان محيط نشأته الطبيعي وامتداد وجوده المجتمعي يتكلمه. من هذا المنظور يمثل الحرف وتفصيلاته في تجربة على الرميص، الأفق الذي يتحرك عبره، معتمدا التضاد كوسيلة خطاب جمالي محمول على نضوج رؤية فلسفية لاستلهام التراث، عبر حشد الوعي بحساسية التقاط عالية لمفهوم الـ(كوني)، إذ هو يعول على آلية الرؤية عند الإنسان كمعطى فيزيولوجي، عندما يضع اللون الأسود بتدريجاته المتفاوتة والمؤكدة في آن معاً على خلفية بيضاء واسعة بكل تدريجات النور، فأنه بذلك ينشأ فارقا حسيا بين سطحين متموضعين بجانب البعض، فالأبيض أو الضوء يسند التفاصيل ويعمل على دفعها إلى الإمام، ما يحقق انبثاقها في خضم تحديات توليفة جمالية وتقنية أشد دقة وأكثر ذاتية، وبالتالي أكثر قرباً من الانفتاح التواصلي بالمتلقي وأكثر نضوحاً بزاد المعارف المجدية من حيث التأثير في الجوهر الإبداعي؛ مما أدى لتضمينها قدرة عضوية أصيلة على ملاحقة موجات الانتباه الكوني للجمال، حتى وفق تقلب مقولاته الشكلية والبنائية. *- الحرف بين عذوبة اختراق وعذاب احتراق: لكي يسيطر علي الرميص على تلك الآلية، يلجأ إلى اختراق بنية الحرف الدلالية ليعيد تهشيمه من الداخل، وبالتالي إزاحة ركام الحرف، إلى مناطق تحقق للحرف انتصابته الرمزية المعفية من حمولات الدلالة اللغوية ومختزلات الصوت والذاكرة، وهو بذلك يحقق للحرف مجالاً عرفاني يمضي فيه على وقع الحركة الانسيابية الصاعدة إلي الأمام بصيغة لا متناهية، ليتجاوز الحرف بذلك حدود الحامل المادي للوحة وبالتالي تجاوز قواعد كتابة الخط الصارمة، انه انفتاح على اللا (زمنكية)، حيث حررت هذه المعالجة الحرف من ارتهانه لقواعد جاذبية المعنى اللغوي، ولتلج به مدارات انعدام الوزن ليبدو حياً في الوعي لذاتيته الملتفة بالحقيقة الوجودية. هكذا لينصهر الحرف محترقاً في رقصة انسيابية تبعث في أنفسنا شعوراً باتساع البراح والإحساس بالمطلق، وهو بهذا يستلهم أسلوبية تشي بعذوبة فهم عميق لمعنى المطلق النوراني التوحيدي، كما هو عند ابن عربي في (الفتوحات المكية) و(التجليات الإلهية)، أو عند المعري في (رسالة الغفران) أو ألكسندر فون في الـ(كونية) أو حتى في الـ(كوميديا) لدانتي، فكلها تتراوح حيث المطلق النوراني يلف الأشياء والمعاني، إنه حيث لا مكان، لا زمان، ولا وزن للأشياء، ليتقدم الإحساس بالجمال في مجال الاتصال والتواصل بالعمل التشكيلي، وهو متعال عن ثنائية اللذة والألم، بل لعلها أسلوبية تستلهم تجليات الاحتراق في حوارية سقراط مع بروتاخوس إذ يقول: (ما أعنيه أن الأشياء ليست جميلة نسبياً في ذاتها مع مع هذه أو تلك الأشياء، بل هي جميلة دائماً لأنها تنصهر معاً في حقيقة متكاملة، هي فوق الطبيعة، ولتبقى الأشياء صورتاً صغيرتاً هنا، لحقيقة متكاملة هناك)، ثمة تفسير سيمولوجي نستعيره من (رولان بارييت) يمكن أن يوضح تقنية الخرق والحرق وإعادة البناء، (إن الفن التشكيلي هو صياغة بلغة مرئية، شأنه في ذلك شأن الكتابة، وهي صياغة للغة منطوقة، والعلاقة بين اللغة والصيغة هي علاقة سيمولوجية دلائلية، فالبيان الإلهي إنما يتوضح عن طريق اللغة والكتابة معاً، ومن هنا كانت لغة القرآن تتطلب كتابة فاضلة الخط المنسوب(أي الخاضع لقواعد الخط الجميل)، وكان على الفنان أن يبالغ في تجويد كتابة القرآن الكريم لكي يرقى إلى مستوى بلاغة القرآن، وكذلك شأن الحرف في التناول التجريدي الفني في الرقش العربي، فهو مرتبط بالمعنى المطلق للحق والوجود، لتبدو أهميته في الدلالة الجمالية التي يقدمها. هكذا هي الصيغ التشكيلية والجمالية في تجربة الرميص، إنها هنا كالصلاة في توليفها، تحقق وظيفتها التواصلية مع المتلقي تحت سقف المشاغبة أحياناً والتمرد أحياناً أخرى، فهي تناوش الروح لتوقد فيها شعوراً بالاستبطان، ليس فقط لأن العمق ينزع نحو اللا متناهي في لوحات هذه التجربة التشكيلية، ولكن أيضاً لأن الحرف لا تتضح له بداية أو نهاية فهو يذوب تحت لطخات الفرشة في مساحة النور كما يذوب الخيط في النسيج، وهو رغم ذلك يبدو متمرداً على الفراغ في بعض الأعمال، تماماً كما في لوحة (إقراء) حيث استخدام ألوان حارة ودافئة؛ الأحمر والبرتقالي وبمساحات صغيرة تشغل المركز عادة وتعمل كقوة جاذبة لبقية التفاصيل، وهو بذلك يحكم قبضته على توزيع التوازن والامتداد والفراغ، ليحقق بروزاً منتفضاً على خلفية التكوين بقدر عالي من التناغم بين خطوط الظل المتعاكس ومساحات النور المتداخلة المهيئة لهذه اللعبة البصرية، فهو بهذا لا يستهدف بألوانه القاتمة عتمة الوعي الظاهر، بل هو هنا يخاطب عتمة مماثلة موازية في حالة الوعي الكلي الغائر (كصيغة ضد من مصطلح اللا وعي الجمعي)، وهو الوعي الذي يقتفي الرميص قياسه ليتماها معه في دراجاته الجمعية، ويستدرجه بغية حمله على الإفصاح عن مكنوناته المكبوتة، ومن ثم دفعه إلى درجات أعلى فالأعلى، هذا التضاد اللوني يقابله تضاد على صعيد الشكل، فالرميص يختار التكوينات الحروفية المتسمة بالحركة، والوقع، ليشير إلى حياتنا المعطلة وسكونية الموت والشعور بالعجز عن اللحاق بإيقاعات بتلك اللحظات الهاربة نحو الأمام والأعلى والأفضل. *-احتمالات أحاجي جحا المنفتحة على الأزمنة الثلاث. (أعمالي هي حركة تفكير تدخل في طياتها الأدبيات العربية والإسلامية واختزالات تاريخ الفن العالمي، وتشترك بالقيم الإسلامية الإنسانية العالية، باتجاه تعايش صحي بين مواطني العالم)، هكذا وفي إطار المتمازج بين الفلسفة العرفانية والرؤية الكونية، كما هو الأمر لدى الحلاج أو النفري، تحدث الرميص عن أعادة تكوين الحرف في اللوحة التشكيلية، باعتباره أساس وقفها البصري الرمزي المجرد في اللوحة، وباعتباره ذلك السر الكامن الذي تبحث مغاليقه عن مفاتيح لها عند المتلقي، فللوصول بالحرف إلى قيمة بذاته، ولألا يؤدي تلك الجمالية التي أحاطت بمناخه الفكري، يجرد الحرف من هذه القيم، كي يعيد للحرف العربي تلك القيم المنسوبة لما قبل البدائية، أو ليعيده لتلك الرموز التي نجدها على اللقى الأثرية أو تلك الإشارات التي تتركها الحضارة على جدرانها ومسلاتها، دون أن تعني شيئا إلاّ كشاهد على وجود تلك الحضارة بواسطة ما يعبر عنها من رموز ودلالات. من هنا،،، كانت معالجة الرميص، إنما تطلق بالحرف كقيمة حضارية متشظية لا تختص بالحضارة العربية رغم كونه أي الحرف العربي دلالة، إلا أن المعالجة ومن خلال تقنية الاختراق والاحتراق أعادة تشكيل الحرف لينتمي إلى الأفق الأوسع في الحضارة الإنسانية الممتدة من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر. هذا يعني أننا أمام تجربة فنية يدخل التاريخ طرفاً أساسياً في رسم مساراتها وقيمتها الجمالية، لتمنح هذه التجريبية حرية واسعة للفنان في صياغة خطابه الجمالي على أساس قيمة التجربة الذاتية للفنان ورؤيته الفكرية وإطارها الجمالي. لا شك أن المنهج الفكري هنا يغاير عن وعي وبشكل كبير، المفاهيم الأوربية التي سادت مع ظهور التجريدية الغربية ومن بعدها التعبيرية كما تجسدت بأعمال بول كلي وكادنسكي منذ قرن من الزمان، والتي كانت تسعى لفصل الفن عن محيطه لتحويله إلى عالم قائم بذاته يعاني من الكثير من التفكك والاغتراب. بهذا المعني يؤكد الرميص في أعماله أن "الهُوية هي مركز الوجود الإنساني، وهي أحد المنابع الجوهرية المنتجة لمنظومة القيم والأخلاق"، وأن أي تجاوز على تنوع الهويات البشرية هو تجاوز لحق الثقافات المتباينة في تسجيل حضورها، بما يحقق نصيب مشاركتها في هذا الكون ، فما زال الفرد لا يعاني بناء على الاختلاف التباين، لكنه على العكس من ذلك، يتناول تلك الاختلافات بانفتاح يحقق تعارف، واكتشاف، وإبداع. بهذا يقدم (جحا) الرميص إستراتيجية مؤثرة للتعامل مع الكثير من الانتماءات، ففي لوحته (أحاجي جحا) تلك الشخصية الحية في التراث والتفكير الميثولوجي أحياناً، هذه الشخصية الخطيرة، والمتراوحة بين العقلانية والحمق في معين من الحكمة الإنسانية، المختزلة ضمن خصوصية جمالية، بـ(فعل) استلهام الهُوية في مضامين احتمالات منفتحة على الأزمنة الثلاث، والتي تتوضح فيما يشبه البيان الثوري ضد التغول ومحاولات حمل العالم على المساهمة في قتل الهُويات و الحضارات والبيئة وكل ما ينبض بالحياة، وليبقى له أن يجري على صورة جحا أن (العالم-الكون) لا يمكن بسهولة تقسيمه إلى "الغرب" و"البقية" أو "المحليون" و"باقي العالم". ولتبقى تجربة علي الرميص أطول عمراً وبعمر الحرف، وليبقى هو رماد احتراق يخترق ذاكرة الزمن على امتداد الوطن، ولسان حاله من مدينة الضباب ينشد: لأنك ذاك،، بعضي وجمعي يمكنك الساعة أن تحلمني،، لأحلم فيك ذاك لأنك أنت،، أنا،، الساكن والمسكون لأنك كلما أغمضت عينيك عني ستشعر بي أغمض عيني عليك وأطلب عونك في سري فأراك تمد يديك،، وقلبي في عينيك ونداء ضميرك،، (سمعتك) يا ولدي،، أقول ،، سمعتك وأنا أنت فأسهر حتى ينبلج الحلم،، فتسمع خطوي في هذا الليل ويدي تقرع بابك،، ذاك لأنك أنت أنا،، ذاك لأنك،، دون سواك الفكرة والمغزى ورنة صوتي،، وتأويل كلامي ذاك لأنك في عين ضميري،، وأنبل ما ارتكبت نفسي من شقاوات العيش ذاك لأنك أنت ،، أنا وأجمل أثامي أنت يا وطني ،، أنت يا وطني،،أنت يا وطني.
كونية نص التضاد، بين عذوبة اختراق و عذاب احتراق، واحتمالات أحاجي جحا المنفتحة على الأزمنة الثلاث. (هذا الأنين في الناي نار وليس هواء، و كل من ليست لديه هذه النار فليكن هباءً) (كونُك الحقيقي هو الذي تتوجه إليه وليس الذي أنت فيه الآن) (كلنا رماد احتراق لشئٍ ما) (جلال الدين الرومي) *-كونية نص التضاد: لعل الحرف حلم كون،،، لعل الكون حلم حرف،،، هكذا تتجلى هواجس التساؤلات المشروعة في تجربة علي عمر الرميص التشكيلية، وهي تطرق مسار تجريبية حداثية تحقق في متنها البصري الساعي لكونية جمالية ذات متعة أصيلة لا تعتمد بحال على نزوات الرغبة بمحاكاة تقنيات وتجريدية مستعارة، من هنا يحقق نصه التشكيلي تضاد أولي صادم عبر إقحام مجال الإتصال في مشهدية متراوحة، بين تذوق بصري عرفاني للمطلق التجريدي المنبث من تكوين يعتمد منظوراً روحياً، مازال يشكل أهم خصائص التجلي التشكيلي للثقافة العربية والإسلامية، وبين موصلات تقنية متحفزة للكشف عن مفاهيم كونية تحقق دلالتها المتعامقة بمنطقية نسبية خاضعة لمجريات حداثية، ليتجلى سؤال الصدمة المتماهي بالحافز المنبث من مجمل أعمال التجربة التشكيلية،،، هل اجتازت الحداثة على رقعة واقع الهًوية عتبة محاكاة ومواكبة النموذج الأوربي..؟ عبر عصر تتحكم فيه التحولات ما بعد الرأسمالية، ودخول العولمة بصفتها أحد أشكال ما بعد الحداثة.. وهل كان للسمات البيئية والمحلية والرمزية والشعبية ومرشحات الوعي الميثولوجي، الأثر المتوازن مع تحولات الأساليب، ودخول الفن، بعد التصدع المتعاقب للأيديولوجيا، إلى فضاءات ما بعد التقنية؟. يصعب تحديد سمات هذه الحداثة.. وتحولاتها.. في عمق هذا الصراع.. حيث الحداثة ذاتها لم تكتمل.. زد عليه أن تهميش دور الفن له انعكاسه علي المؤسسة الثقافية والمجتمعية، وحتى حالة المغامرة الإبداعية، ففي الحصيلة لم تظهر تيارات أو مبادرات ذات قيمة إلا وفقدت هذا الامتياز، فبعد ان تبلورت جماعات الخمسينات، الرواد وبغداد للفن الحديث والانطباعيين العراقيين والمصريين، ظهرت نزعات متطرفة وجماعية مثلتها جماعة الرؤيا الجديدة.. وجماعة المجددين، والبعد الواحد..، الأمر الذي أرهق التجارب المتناثرة وأنحدر بها إلى هوة التكرار والمحدودية، تجارب محمود صبري في واقعية الكم، بصفتها محاولة إعطاء العلم - الفيزياء - دوره في الرؤية الجمالية، بغض النظر عن مدى نضجها وسوية طرحها.. مع ظهور تجارب فردية لم تجد صدي يناسبها وهي تنأى بنفسها عن مشهدية تأن تحت وطأة الانتقاء والحذف وسط ارتدادات دفعت بالفن إلي السوق الكاسد، تجارب علي العباني حول تقصي اللا مرئي والمخفيات في الطبيعة والفن، وعمر جهان في استلهام إيقاع مكونات الذات المجردة، وعدنان معيتيق في محاولات تعميم الخاص بالانفتاح المتوازي على الذاتي والمغاير.. محلياً على الأقل، إنها تجارب مكثت تخفي نزعتها التجريبية، ضمن مجتمع لم يكن فيه الفن حاضراً بحمولات ثقافية أو تجليات جمالية لحالة إحساس حقيقي بحال هُوية، إلا بصورة محدودة ووظيفية وشكلية من قبل بعض المشتغلين بالثقافة، أو في أحسن الأحوال تكريسها في الوعي النخبوي كعلامة عصر، وبعد هجرات كبري لمئات الفنانين ومنهم التشكيلي على عمر الرميص، الذي انفلت بتجربته من حالة غياب الحوار المناسب الذي يُحدث في الفلسفة والأسواق والتقنيات، وهي الحالة التي عبثت في جينات المركب الثقافي الذي أنتج صيرورة مستنسخة للفن كظاهرة لا تقول الذي كان محيط نشأته الطبيعي وامتداد وجوده المجتمعي يتكلمه. من هذا المنظور يمثل الحرف وتفصيلاته في تجربة على الرميص، الأفق الذي يتحرك عبره، معتمدا التضاد كوسيلة خطاب جمالي محمول على نضوج رؤية فلسفية لاستلهام التراث، عبر حشد الوعي بحساسية التقاط عالية لمفهوم الـ(كوني)، إذ هو يعول على آلية الرؤية عند الإنسان كمعطى فيزيولوجي، عندما يضع اللون الأسود بتدريجاته المتفاوتة والمؤكدة في آن معاً على خلفية بيضاء واسعة بكل تدريجات النور، فأنه بذلك ينشأ فارقا حسيا بين سطحين متموضعين بجانب البعض، فالأبيض أو الضوء يسند التفاصيل ويعمل على دفعها إلى الإمام، ما يحقق انبثاقها في خضم تحديات توليفة جمالية وتقنية أشد دقة وأكثر ذاتية، وبالتالي أكثر قرباً من الانفتاح التواصلي بالمتلقي وأكثر نضوحاً بزاد المعارف المجدية من حيث التأثير في الجوهر الإبداعي؛ مما أدى لتضمينها قدرة عضوية أصيلة على ملاحقة موجات الانتباه الكوني للجمال، حتى وفق تقلب مقولاته الشكلية والبنائية. *- الحرف بين عذوبة اختراق وعذاب احتراق: لكي يسيطر علي الرميص على تلك الآلية، يلجأ إلى اختراق بنية الحرف الدلالية ليعيد تهشيمه من الداخل، وبالتالي إزاحة ركام الحرف، إلى مناطق تحقق للحرف انتصابته الرمزية المعفية من حمولات الدلالة اللغوية ومختزلات الصوت والذاكرة، وهو بذلك يحقق للحرف مجالاً عرفاني يمضي فيه على وقع الحركة الانسيابية الصاعدة إلي الأمام بصيغة لا متناهية، ليتجاوز الحرف بذلك حدود الحامل المادي للوحة وبالتالي تجاوز قواعد كتابة الخط الصارمة، انه انفتاح على اللا (زمنكية)، حيث حررت هذه المعالجة الحرف من ارتهانه لقواعد جاذبية المعنى اللغوي، ولتلج به مدارات انعدام الوزن ليبدو حياً في الوعي لذاتيته الملتفة بالحقيقة الوجودية. هكذا لينصهر الحرف محترقاً في رقصة انسيابية تبعث في أنفسنا شعوراً باتساع البراح والإحساس بالمطلق، وهو بهذا يستلهم أسلوبية تشي بعذوبة فهم عميق لمعنى المطلق النوراني التوحيدي، كما هو عند ابن عربي في (الفتوحات المكية) و(التجليات الإلهية)، أو عند المعري في (رسالة الغفران) أو ألكسندر فون في الـ(كونية) أو حتى في الـ(كوميديا) لدانتي، فكلها تتراوح حيث المطلق النوراني يلف الأشياء والمعاني، إنه حيث لا مكان، لا زمان، ولا وزن للأشياء، ليتقدم الإحساس بالجمال في مجال الاتصال والتواصل بالعمل التشكيلي، وهو متعال عن ثنائية اللذة والألم، بل لعلها أسلوبية تستلهم تجليات الاحتراق في حوارية سقراط مع بروتاخوس إذ يقول: (ما أعنيه أن الأشياء ليست جميلة نسبياً في ذاتها مع مع هذه أو تلك الأشياء، بل هي جميلة دائماً لأنها تنصهر معاً في حقيقة متكاملة، هي فوق الطبيعة، ولتبقى الأشياء صورتاً صغيرتاً هنا، لحقيقة متكاملة هناك)، ثمة تفسير سيمولوجي نستعيره من (رولان بارييت) يمكن أن يوضح تقنية الخرق والحرق وإعادة البناء، (إن الفن التشكيلي هو صياغة بلغة مرئية، شأنه في ذلك شأن الكتابة، وهي صياغة للغة منطوقة، والعلاقة بين اللغة والصيغة هي علاقة سيمولوجية دلائلية، فالبيان الإلهي إنما يتوضح عن طريق اللغة والكتابة معاً، ومن هنا كانت لغة القرآن تتطلب كتابة فاضلة الخط المنسوب(أي الخاضع لقواعد الخط الجميل)، وكان على الفنان أن يبالغ في تجويد كتابة القرآن الكريم لكي يرقى إلى مستوى بلاغة القرآن، وكذلك شأن الحرف في التناول التجريدي الفني في الرقش العربي، فهو مرتبط بالمعنى المطلق للحق والوجود، لتبدو أهميته في الدلالة الجمالية التي يقدمها. هكذا هي الصيغ التشكيلية والجمالية في تجربة الرميص، إنها هنا كالصلاة في توليفها، تحقق وظيفتها التواصلية مع المتلقي تحت سقف المشاغبة أحياناً والتمرد أحياناً أخرى، فهي تناوش الروح لتوقد فيها شعوراً بالاستبطان، ليس فقط لأن العمق ينزع نحو اللا متناهي في لوحات هذه التجربة التشكيلية، ولكن أيضاً لأن الحرف لا تتضح له بداية أو نهاية فهو يذوب تحت لطخات الفرشة في مساحة النور كما يذوب الخيط في النسيج، وهو رغم ذلك يبدو متمرداً على الفراغ في بعض الأعمال، تماماً كما في لوحة (إقراء) حيث استخدام ألوان حارة ودافئة؛ الأحمر والبرتقالي وبمساحات صغيرة تشغل المركز عادة وتعمل كقوة جاذبة لبقية التفاصيل، وهو بذلك يحكم قبضته على توزيع التوازن والامتداد والفراغ، ليحقق بروزاً منتفضاً على خلفية التكوين بقدر عالي من التناغم بين خطوط الظل المتعاكس ومساحات النور المتداخلة المهيئة لهذه اللعبة البصرية، فهو بهذا لا يستهدف بألوانه القاتمة عتمة الوعي الظاهر، بل هو هنا يخاطب عتمة مماثلة موازية في حالة الوعي الكلي الغائر (كصيغة ضد من مصطلح اللا وعي الجمعي)، وهو الوعي الذي يقتفي الرميص قياسه ليتماها معه في دراجاته الجمعية، ويستدرجه بغية حمله على الإفصاح عن مكنوناته المكبوتة، ومن ثم دفعه إلى درجات أعلى فالأعلى، هذا التضاد اللوني يقابله تضاد على صعيد الشكل، فالرميص يختار التكوينات الحروفية المتسمة بالحركة، والوقع، ليشير إلى حياتنا المعطلة وسكونية الموت والشعور بالعجز عن اللحاق بإيقاعات بتلك اللحظات الهاربة نحو الأمام والأعلى والأفضل. *-احتمالات أحاجي جحا المنفتحة على الأزمنة الثلاث. (أعمالي هي حركة تفكير تدخل في طياتها الأدبيات العربية والإسلامية واختزالات تاريخ الفن العالمي، وتشترك بالقيم الإسلامية الإنسانية العالية، باتجاه تعايش صحي بين مواطني العالم)، هكذا وفي إطار المتمازج بين الفلسفة العرفانية والرؤية الكونية، كما هو الأمر لدى الحلاج أو النفري، تحدث الرميص عن أعادة تكوين الحرف في اللوحة التشكيلية، باعتباره أساس وقفها البصري الرمزي المجرد في اللوحة، وباعتباره ذلك السر الكامن الذي تبحث مغاليقه عن مفاتيح لها عند المتلقي، فللوصول بالحرف إلى قيمة بذاته، ولألا يؤدي تلك الجمالية التي أحاطت بمناخه الفكري، يجرد الحرف من هذه القيم، كي يعيد للحرف العربي تلك القيم المنسوبة لما قبل البدائية، أو ليعيده لتلك الرموز التي نجدها على اللقى الأثرية أو تلك الإشارات التي تتركها الحضارة على جدرانها ومسلاتها، دون أن تعني شيئا إلاّ كشاهد على وجود تلك الحضارة بواسطة ما يعبر عنها من رموز ودلالات. من هنا،،، كانت معالجة الرميص، إنما تطلق بالحرف كقيمة حضارية متشظية لا تختص بالحضارة العربية رغم كونه أي الحرف العربي دلالة، إلا أن المعالجة ومن خلال تقنية الاختراق والاحتراق أعادة تشكيل الحرف لينتمي إلى الأفق الأوسع في الحضارة الإنسانية الممتدة من الماضي إلى المستقبل مروراً بالحاضر. هذا يعني أننا أمام تجربة فنية يدخل التاريخ طرفاً أساسياً في رسم مساراتها وقيمتها الجمالية، لتمنح هذه التجريبية حرية واسعة للفنان في صياغة خطابه الجمالي على أساس قيمة التجربة الذاتية للفنان ورؤيته الفكرية وإطارها الجمالي. لا شك أن المنهج الفكري هنا يغاير عن وعي وبشكل كبير، المفاهيم الأوربية التي سادت مع ظهور التجريدية الغربية ومن بعدها التعبيرية كما تجسدت بأعمال بول كلي وكادنسكي منذ قرن من الزمان، والتي كانت تسعى لفصل الفن عن محيطه لتحويله إلى عالم قائم بذاته يعاني من الكثير من التفكك والاغتراب. بهذا المعني يؤكد الرميص في أعماله أن "الهُوية هي مركز الوجود الإنساني، وهي أحد المنابع الجوهرية المنتجة لمنظومة القيم والأخلاق"، وأن أي تجاوز على تنوع الهويات البشرية هو تجاوز لحق الثقافات المتباينة في تسجيل حضورها، بما يحقق نصيب مشاركتها في هذا الكون ، فما زال الفرد لا يعاني بناء على الاختلاف التباين، لكنه على العكس من ذلك، يتناول تلك الاختلافات بانفتاح يحقق تعارف، واكتشاف، وإبداع. بهذا يقدم (جحا) الرميص إستراتيجية مؤثرة للتعامل مع الكثير من الانتماءات، ففي لوحته (أحاجي جحا) تلك الشخصية الحية في التراث والتفكير الميثولوجي أحياناً، هذه الشخصية الخطيرة، والمتراوحة بين العقلانية والحمق في معين من الحكمة الإنسانية، المختزلة ضمن خصوصية جمالية، بـ(فعل) استلهام الهُوية في مضامين احتمالات منفتحة على الأزمنة الثلاث، والتي تتوضح فيما يشبه البيان الثوري ضد التغول ومحاولات حمل العالم على المساهمة في قتل الهُويات و الحضارات والبيئة وكل ما ينبض بالحياة، وليبقى له أن يجري على صورة جحا أن (العالم-الكون) لا يمكن بسهولة تقسيمه إلى "الغرب" و"البقية" أو "المحليون" و"باقي العالم". ولتبقى تجربة علي الرميص أطول عمراً وبعمر الحرف، وليبقى هو رماد احتراق يخترق ذاكرة الزمن على امتداد الوطن، ولسان حاله من مدينة الضباب ينشد: لأنك ذاك،، بعضي وجمعي يمكنك الساعة أن تحلمني،، لأحلم فيك ذاك لأنك أنت،، أنا،، الساكن والمسكون لأنك كلما أغمضت عينيك عني ستشعر بي أغمض عيني عليك وأطلب عونك في سري فأراك تمد يديك،، وقلبي في عينيك ونداء ضميرك،، (سمعتك) يا ولدي،، أقول ،، سمعتك وأنا أنت فأسهر حتى ينبلج الحلم،، فتسمع خطوي في هذا الليل ويدي تقرع بابك،، ذاك لأنك أنت أنا،، ذاك لأنك،، دون سواك الفكرة والمغزى ورنة صوتي،، وتأويل كلامي ذاك لأنك في عين ضميري،، وأنبل ما ارتكبت نفسي من شقاوات العيش ذاك لأنك أنت ،، أنا وأجمل أثامي أنت يا وطني ،، أنت يا وطني،،أنت يا وطني.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire