الفنان الناقد والتشكيلي علي النجار
سوسن عبد الهادي: حفريات الغربة
سوسن عبد الهادي: حفريات الغربة
:
بين مدينة مونتريال الكندية ونيويورك من الولايات المتحدة الأمريكية سهول وغابات ومياه بحيرات مضببة, تضاريس منخفضة ومتعرجة, لكنها تبقى ضمن مساحة يابسة محيطية واحدة رغم خط الحدود. وهكذا هي الفوارق مابين رسومات أثير شيوطة والفنانة العراقية الكندية سندس عبد الهادي. فمساحتهم المحيطية واحدة وما اختلف إلا اثأر تضاريسها. فبالوقت الذي يستعيد فيه شيوطة وثائق أزمنته الماضية كما هي من زمن رخي, فان سندس لا تستعيد بقدر ما تنبش هي الأخرى أزمنة, أزمنة تقع على الضد من استذكارات شيوطة. وان استحضر شيوطة بغداد في رسوماته فان سوسن هي الأخرى تستحضر من بغداد أمكنة أخرى تقترحها ذاكرة معاصرة, ومابين ذاكرة ثقافية وأخرى تطل علينا بغداد كما عرفناها وكما اندرست خطوط أو حظوظ معرفتنا بها. مثلما شب شيوطة عن طوق عبث الحروب الشيطانية, فان سوسن لا تزال مسكونة ضمن دوامات هذا العبث الجنوني مادام لا يزال ماثلا ومثيرا حساسيات اختلطت فيها علامات الأنوثة السرية وعلانية الفاجعة المضادة.
هي التي ولدت خارج العراق ابتكرت قوانين أزمنتها المغتربة الحديثة لكنها ليست كقوانين ما بعد الحروب العراقية ولا قوانين هذه الحروب ولا ما بعدها, قوانينها هي قانون واحد يستمد شرعيته من مسارات أوتاره المستقيمة(آلة التخت الموسيقي العراقية الرئيسية) المدوزنة على أنغام الفرح لا الفجيعة رغم أن الفجيعة هي التي تستنطقها. هكذا هي في محاولتها جمع الأضداد عبورا على أزمنة اغترابها وعثراته. هي التي فقدت بوصلة جغرافيا أزمنتها منذ الصغر تحاول استعادة بعض مساراتها عبر أزمنة أخرى فقدت هي الأخرى بوصلتها. أليس من اهتمامات ما بعد الحداثة بعثرة الخبر لحد فقدان مدلولاته وعرضها كما هي على سعة فضاءاتها, مثلما تستل سوسن حوادثها البغدادية من ركام بعثرتها ألامعقولة وتلصقها مع ما تبقى لها من خزين صندوق طفولتها السمعية والبصرية في محاولة منها لأبصارنا بصوت هذا الخزين الوجداني كأثر يعلو على صوت الرصاص الملوث بدمائنا. رسمها المعنون(زهور حسين) بملونته التعبيرية الفائقة. يستنجد بموروث هذه المغنية التي تركت أثرا لزمن عراقي جميل قبل أن ترحل مبكرة بحادثة مأساوية قبل عدة عقود. سوسن تستعين بمقاطع الأغنية الاستنجادية لهذه المغنية الأثر تلصيقا وسط حاضن بيئي مغرق بملونة وجدانية رغم كمائن الغدر البشري. لقد جمعت في هذا الرسم مهارة الاشتغال على المادة والفكرة وغير بعيد عن معالجات الجيل التشكيلي الجديد, رغم التباس هذه الصنعة على العديد من تشكيليينا التقليدين للحد الذي دفع بعضهم للانتقاص من المقدرة المهنية للفنانة بادعاءات السذاجة والبدائية. والسذاجة او البدائية(بمفهومهما التقليدي) هي من ضمن المعالجات التشكيلية الجديدة التي تنسحب من كرافيت الجدار حتى قماش اللوحة المرسومة بمواد سائلة لغرض استباحة المعلن و المسكوت عنه. وان كانت خصائص هذا الرسم والرسوم الأخرى لسوسن تثير إشكالات الصنعة, فعلينا تجاوز ذلك رغبة لعدم إزعاج الصناع الكبار, والنظر لما تطرحه هذه الرسوم من أفكار(ومعظمها رسوم أفكار, أو لنقل رسوما سياسية تعالج الحالة العراقية كما تراها العين العراقية الملتاعة). فهل حققت الفنانة غرضها التواصلي الاغترابي.
بعد ان ترسخ ولع الاشتغالات الجمالية في التشكيل العراقي, وباتت هذه الاشتغالات مرهونة بتفاصيل معينة لا تتعدى موشورا لونيا معينا وتفاصيل تشير إلى الأثر المحلي الصوري والخطي وواقعية متهافتة حجبت أطرها الكثير من مساحة الحراك التشكيلي العالمي بتعدد مناطق إبداعاته واختلافاتها الأدائية والذهنية, لقد تحولت هذه الأطر الى ضوابط لمرجعية يستشهد بها لا من اجل التجاوز بل لتكريس تفاصيلها المشهدية والأدائية كمعيار نموذجي وباتت كل تجربة جديدة تتخطى مقارباته من اجل ان تساير أزمنتها المتجددة عرضة للريبة من قبل غالبة التشكيليين ونقادهم. وهذا الأمر ينطبق أيضا على نتاج سوسن الذي يبدو مظهريا كنتاج ساذج لا يمت بصلة للنتاج الواقعي الأكاديمي العراقي. من هنا حدث هذا الالتباس, فنتاج هذه الفنانة لا يخضع أصلا لنفس المعايير النقدية التشكيلية التقليدية كونه يختلف في منطقة اشتغاله عن معايير هذه المنطقة. فالأفكار هي التي أنتجت أعمالها والافتراض هو ميزتها الواضحة. ومابين الفكرة والمنطقة الافتراضية لتنفيذها تحققت مشروعيتها بمشهديتها هذه التي هي قريبة عن مشهدية التجارب التشكيلية الشبابية المعاصرة التي لا تعير أهمية للمقاييس الأكاديمية الموروثة. بل هي تشتغل على البساطة والتلقائية والتلسيق وتجميع المفردات لتقترب بنسب ما من الواقعية الغرائبية التي هي جزء من محيط اغتربت والتسقت أجزاءه. وهكذا هي تفاصيل حراك مجتمعنا العراقي في زمنه الراهن والتي عالجتها صوريا الفنانة.
رسومها هي حكايا في محصلتها النهائية متوحدة ونسيج مشهديتها كواقع صوري عراقي. لقد حاكت هذا النسيج الصوري من مفردات الواقع(الحادثة) والواقع افتراضا وولع شخصي بماضي هو صور من أزمنة الرخاء أو الحلم كما هو النغم حين عبوره من وتر لوتر. لكن وكما هو الواقع الحالي حيث كمم فاه المغني وطمست معالم بقية التخت الموسيقي وقبعت صور أشباحهم تطارد مخيلتها. وان كان الشبح يظهر بعضا من ملامحه الإنسية, فقد اختلطت الملامح والأفعال وباتت سوسن متشبثة بفعل التقصي. وهكذا بدت رسومها تلتصق بأفكار تدعونا لرثاء أو ندب تواريخنا التي صنعنا نحن بعض تفاصيلها وتركنا التفاصيل الأخرى لغيرنا يلهو بها كما يشاء أو كما يشاء العصر الملتبس بمكائده الغير بريئة. لقد أتمت سوسن فعل ملسقاتها من شظايا هي مهيأة أصلا للتشضي. وبات النغم رفيقا لغدر الرصاص. والكمامة أو كيس الرأس بديلا لنضارة الملامح. وبات اغترابها اغترابين.
أعمال أثير شيوطة تشير إلى محاولاته الاحترافية لتقصي الملامح الإنسانية الأليفة لمحيط ألف مسالكه. أما أعمال سوسن عبد الهادي فإنها لا تزال تبحث عن الملامح الضائعة. فهل يعني ذلك أن ثمة ثقافتين تقود ذائقتهما الصورية. اعتقد أن الأمر كذلك. فالتشضي الثقافي هو من إحدى ميزات سماتنا الذهنية والنفسية التي عمقت خطوطها حظوظنا الوطنية. والوطن هو الحاضن الحظ. وهكذا تردت حظوظنا ما بين عهر السياسة الفردية وعهر السياسة الدولية, وتشتت شملنا. وكما تخبرنا السيرة الشخصية للفنانة منذ ولادتها في بلد خليجي حتى سياحتها الاغترابية وصولا لكندا. وان هي تغذت منذ طفولتها على الحنين لنغمات طبقات الصوت اللحني العراقي ومفرداته الوجدانية. فقد خلف هذا الحنين شرخا في مسارات سيرتها الشخصية لن يندمل إلا في حالة استرجاع حاضنها الأمين المفقود. وهي التي سبرت بعض المسالك التي كشفت لها حجم خسارات جنسها(1). إن أثث أثير حاضنه الجديد(نيويورك) بمخلفات أيام عز ارثه العراقي فان سوسن لم يسمح لها زمنها الاغترابي إلا بتأثيث الخراب على أنقاض مخلفات الذات الوجدانية.
..............................................................................................................................
علي النجار
10ـ07ـ29
بين مدينة مونتريال الكندية ونيويورك من الولايات المتحدة الأمريكية سهول وغابات ومياه بحيرات مضببة, تضاريس منخفضة ومتعرجة, لكنها تبقى ضمن مساحة يابسة محيطية واحدة رغم خط الحدود. وهكذا هي الفوارق مابين رسومات أثير شيوطة والفنانة العراقية الكندية سندس عبد الهادي. فمساحتهم المحيطية واحدة وما اختلف إلا اثأر تضاريسها. فبالوقت الذي يستعيد فيه شيوطة وثائق أزمنته الماضية كما هي من زمن رخي, فان سندس لا تستعيد بقدر ما تنبش هي الأخرى أزمنة, أزمنة تقع على الضد من استذكارات شيوطة. وان استحضر شيوطة بغداد في رسوماته فان سوسن هي الأخرى تستحضر من بغداد أمكنة أخرى تقترحها ذاكرة معاصرة, ومابين ذاكرة ثقافية وأخرى تطل علينا بغداد كما عرفناها وكما اندرست خطوط أو حظوظ معرفتنا بها. مثلما شب شيوطة عن طوق عبث الحروب الشيطانية, فان سوسن لا تزال مسكونة ضمن دوامات هذا العبث الجنوني مادام لا يزال ماثلا ومثيرا حساسيات اختلطت فيها علامات الأنوثة السرية وعلانية الفاجعة المضادة.
هي التي ولدت خارج العراق ابتكرت قوانين أزمنتها المغتربة الحديثة لكنها ليست كقوانين ما بعد الحروب العراقية ولا قوانين هذه الحروب ولا ما بعدها, قوانينها هي قانون واحد يستمد شرعيته من مسارات أوتاره المستقيمة(آلة التخت الموسيقي العراقية الرئيسية) المدوزنة على أنغام الفرح لا الفجيعة رغم أن الفجيعة هي التي تستنطقها. هكذا هي في محاولتها جمع الأضداد عبورا على أزمنة اغترابها وعثراته. هي التي فقدت بوصلة جغرافيا أزمنتها منذ الصغر تحاول استعادة بعض مساراتها عبر أزمنة أخرى فقدت هي الأخرى بوصلتها. أليس من اهتمامات ما بعد الحداثة بعثرة الخبر لحد فقدان مدلولاته وعرضها كما هي على سعة فضاءاتها, مثلما تستل سوسن حوادثها البغدادية من ركام بعثرتها ألامعقولة وتلصقها مع ما تبقى لها من خزين صندوق طفولتها السمعية والبصرية في محاولة منها لأبصارنا بصوت هذا الخزين الوجداني كأثر يعلو على صوت الرصاص الملوث بدمائنا. رسمها المعنون(زهور حسين) بملونته التعبيرية الفائقة. يستنجد بموروث هذه المغنية التي تركت أثرا لزمن عراقي جميل قبل أن ترحل مبكرة بحادثة مأساوية قبل عدة عقود. سوسن تستعين بمقاطع الأغنية الاستنجادية لهذه المغنية الأثر تلصيقا وسط حاضن بيئي مغرق بملونة وجدانية رغم كمائن الغدر البشري. لقد جمعت في هذا الرسم مهارة الاشتغال على المادة والفكرة وغير بعيد عن معالجات الجيل التشكيلي الجديد, رغم التباس هذه الصنعة على العديد من تشكيليينا التقليدين للحد الذي دفع بعضهم للانتقاص من المقدرة المهنية للفنانة بادعاءات السذاجة والبدائية. والسذاجة او البدائية(بمفهومهما التقليدي) هي من ضمن المعالجات التشكيلية الجديدة التي تنسحب من كرافيت الجدار حتى قماش اللوحة المرسومة بمواد سائلة لغرض استباحة المعلن و المسكوت عنه. وان كانت خصائص هذا الرسم والرسوم الأخرى لسوسن تثير إشكالات الصنعة, فعلينا تجاوز ذلك رغبة لعدم إزعاج الصناع الكبار, والنظر لما تطرحه هذه الرسوم من أفكار(ومعظمها رسوم أفكار, أو لنقل رسوما سياسية تعالج الحالة العراقية كما تراها العين العراقية الملتاعة). فهل حققت الفنانة غرضها التواصلي الاغترابي.
بعد ان ترسخ ولع الاشتغالات الجمالية في التشكيل العراقي, وباتت هذه الاشتغالات مرهونة بتفاصيل معينة لا تتعدى موشورا لونيا معينا وتفاصيل تشير إلى الأثر المحلي الصوري والخطي وواقعية متهافتة حجبت أطرها الكثير من مساحة الحراك التشكيلي العالمي بتعدد مناطق إبداعاته واختلافاتها الأدائية والذهنية, لقد تحولت هذه الأطر الى ضوابط لمرجعية يستشهد بها لا من اجل التجاوز بل لتكريس تفاصيلها المشهدية والأدائية كمعيار نموذجي وباتت كل تجربة جديدة تتخطى مقارباته من اجل ان تساير أزمنتها المتجددة عرضة للريبة من قبل غالبة التشكيليين ونقادهم. وهذا الأمر ينطبق أيضا على نتاج سوسن الذي يبدو مظهريا كنتاج ساذج لا يمت بصلة للنتاج الواقعي الأكاديمي العراقي. من هنا حدث هذا الالتباس, فنتاج هذه الفنانة لا يخضع أصلا لنفس المعايير النقدية التشكيلية التقليدية كونه يختلف في منطقة اشتغاله عن معايير هذه المنطقة. فالأفكار هي التي أنتجت أعمالها والافتراض هو ميزتها الواضحة. ومابين الفكرة والمنطقة الافتراضية لتنفيذها تحققت مشروعيتها بمشهديتها هذه التي هي قريبة عن مشهدية التجارب التشكيلية الشبابية المعاصرة التي لا تعير أهمية للمقاييس الأكاديمية الموروثة. بل هي تشتغل على البساطة والتلقائية والتلسيق وتجميع المفردات لتقترب بنسب ما من الواقعية الغرائبية التي هي جزء من محيط اغتربت والتسقت أجزاءه. وهكذا هي تفاصيل حراك مجتمعنا العراقي في زمنه الراهن والتي عالجتها صوريا الفنانة.
رسومها هي حكايا في محصلتها النهائية متوحدة ونسيج مشهديتها كواقع صوري عراقي. لقد حاكت هذا النسيج الصوري من مفردات الواقع(الحادثة) والواقع افتراضا وولع شخصي بماضي هو صور من أزمنة الرخاء أو الحلم كما هو النغم حين عبوره من وتر لوتر. لكن وكما هو الواقع الحالي حيث كمم فاه المغني وطمست معالم بقية التخت الموسيقي وقبعت صور أشباحهم تطارد مخيلتها. وان كان الشبح يظهر بعضا من ملامحه الإنسية, فقد اختلطت الملامح والأفعال وباتت سوسن متشبثة بفعل التقصي. وهكذا بدت رسومها تلتصق بأفكار تدعونا لرثاء أو ندب تواريخنا التي صنعنا نحن بعض تفاصيلها وتركنا التفاصيل الأخرى لغيرنا يلهو بها كما يشاء أو كما يشاء العصر الملتبس بمكائده الغير بريئة. لقد أتمت سوسن فعل ملسقاتها من شظايا هي مهيأة أصلا للتشضي. وبات النغم رفيقا لغدر الرصاص. والكمامة أو كيس الرأس بديلا لنضارة الملامح. وبات اغترابها اغترابين.
أعمال أثير شيوطة تشير إلى محاولاته الاحترافية لتقصي الملامح الإنسانية الأليفة لمحيط ألف مسالكه. أما أعمال سوسن عبد الهادي فإنها لا تزال تبحث عن الملامح الضائعة. فهل يعني ذلك أن ثمة ثقافتين تقود ذائقتهما الصورية. اعتقد أن الأمر كذلك. فالتشضي الثقافي هو من إحدى ميزات سماتنا الذهنية والنفسية التي عمقت خطوطها حظوظنا الوطنية. والوطن هو الحاضن الحظ. وهكذا تردت حظوظنا ما بين عهر السياسة الفردية وعهر السياسة الدولية, وتشتت شملنا. وكما تخبرنا السيرة الشخصية للفنانة منذ ولادتها في بلد خليجي حتى سياحتها الاغترابية وصولا لكندا. وان هي تغذت منذ طفولتها على الحنين لنغمات طبقات الصوت اللحني العراقي ومفرداته الوجدانية. فقد خلف هذا الحنين شرخا في مسارات سيرتها الشخصية لن يندمل إلا في حالة استرجاع حاضنها الأمين المفقود. وهي التي سبرت بعض المسالك التي كشفت لها حجم خسارات جنسها(1). إن أثث أثير حاضنه الجديد(نيويورك) بمخلفات أيام عز ارثه العراقي فان سوسن لم يسمح لها زمنها الاغترابي إلا بتأثيث الخراب على أنقاض مخلفات الذات الوجدانية.
..............................................................................................................................
علي النجار
10ـ07ـ29
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire