الرسام احمد نصيف المشخّصات واقعة شيئية / خالد خضير الصالحي
خالد خضير الصالحي
يبدو الرسام العراقي احمد نصيف، الذي قدمته مجلة تاتو في احد أعدادها، مهموما بمنح قناعاته وجودا ملموسا، لأنه يطمح أن يحوّل تلك القناعات، التي تبدو أحيانا ذات طبيعة سردية، إلى واقعة شيئية، فكان، في محاولته إعطاء واحد من معارضه الأخيرة في الرسم عنوان concrete يهدف الى الإفصاح عن إيمان قد يكون غير واع، ولكنه بتقديرنا إيمان لا حدود له بأن (الواقعة الشيئية) هي جوهر الرسم، وهو أمر قد يناقض تفوهاته اللفظية التي يبديها في أحاديثه اليومية مع المعنيين بالرسم أو في تصريحاته للصحافة، فهو أمام اللوحة لا يقدر إلا أن يظهر حقيقته الداخلية، ومواقفه التي لا تؤدلجها اللغة، فهو، كما يكشف ذلك الناقد التشكيلي سعد القصاب، مهموم بموضعة ما نفترضه من قناعات في وجود شيئيّ من خلال "فضاء لوني متقشف، قليل التضاد، بمعالجة غير متكلفة، تتصف بالاختزال والتبسيط" مما يجعل العمل الفني عنده "مساحات لونية متجاورة
إن المتلقي الذي وطّن نفسه على البناء التجريدي للمساحات اللونية كآخر تحققات الحداثة في الرسم، يفزعه انبثاق شكل مشخّص يبثه الرسام وسط النسق اللامشخّص، بسابقة قد يعتبرها هذا النمط من المتلقين، خارج النسق المهيمن لجوهر تجربة احمد نصيف، بل وقد نتجرأ بالقول أنها قد تكون آتية من خارج قناعات الرسام الواعية؛ فكان احمد نصيف، ومن خلال مساحات لونية مخالفة لأرضية اللوحة يقوم ببث أشكال مشخصة لا تفارق المساحات اللونية باتجاهها، واختلاف درجتها، وببعض اللمسات، فهي ليست سوى أشباح أرجل وأقدام قد تثبت للمتلقي الغارق في حداثيته بأنه لم يزل هنا عند حدود الواقع، فتلك (الأشكال القاتمة) لا همّ لها إلا أن تفيقه من حلمه التجريدي اللذيذ حينما "تخترق الأفق وتحْضر بوصفها كائنات تعيش وجودها على نحو غامض، بل وتتكفل بالتعريف عن نفسها"، وان كان هذا التعريف يبني تعيناته
"على نحو تجريدي" كما يؤكد سعد القصاب.
يبدو منجز احمد نصيف هنا، وعند هذه النقطة تحديدا، وكأنه قد وصل إلى مفترق طرق بين أن تبقى لوحته مشروعا لتضمين معنى، أو أن تمضي سادرة في طريقها الذي تبدو وكأنها ساعية إليه في النهاية من اجل أن تكون مشروعا جماليا كونكريتيا (ملموسا كواقعة شيئية) وهو ما نؤوّل إليه عنوان تجربته التي قدمها قبل عامين، ونؤكد أننا حتى لو اتفقنا على أن تجربته السابقة قد انبثقت بفعل مؤثرات حياتية مع "الأسلاك الشائكة والجدران المؤلفة من دعامات خرسانية باتت تمنعنا أن نطل على واجهة غاب فيها افقها... في مشهد أصبحت فيه تلك الدعامات بديلا عن مشاهد المدينة، فتحولت معها ذاكرتنا اليومية إلى جردة حساب" إلا أننا نعتقد أنها في ذلك تحاول أن تترسخ لتشكل "وسطا تعبيريا" أدواته المادة في النهاية، المادة بكل تجلياتها من : لون، وملصّقات، وتقنية، ومؤثرات شيئية تشكل جوهر (مدونة) يومية تسجل (ملاحظاتها) البصرية رغم أننا نعترف بأنها معرضة لتتسلل إليها عناصر سردية تتمثل بأشباح الأرجل وهي تنقل، مع خطواتها، عملية التلقي من واقعها الشيئي إلى واقع سرديّ، إلا انه يمكن الاعتراض بسهولة على فكرتنا هذه لصالح هذا الرسام المتفاني، والقول بان تلك الأشباح التي تقطع سطح اللوحة (خطوط المرور في الشارع) خلسة ليست في النهاية إلا مدونة (بصَرية) هي الأخرى وحالها في ذلك حال كل عناصر التجريد في اللوحة، وبالتالي فإنها تخضع لذات قوانين، واليات التلقي التي تخضع لها كل عناصر الواقعة الشيئية، وهو ما يخضع تجربة احمد نصيف لذات الآليات التي تخضع لها أية لوحة لا تحمل قدرا ولو ضئيلا من التشخيص
!...
إن مدونات احمد نصيف هذه قد تحولت بسهولة إلى قراءة جديدة لفن تقنية الخراب الذي كشفت عنه مؤخرا الرسامة الدكتورة هناء مال الله باعتباره جوهر الرؤية الجديدة للفن التشكيلي العراقي في ظل هذا الخراب المنظم الذي تتعرض له الحياة العراقية، واعتباره المرجعية البصرية والمتحفية الجديدة بعد الخراب الذي تعرض له المتحف الوطني العراقي فتشبعت اللوحة بالخراب الدوري للمدن العراقية التي ملأتها : الأنقاض، والنفايات، والإعلانات العشوائية المسعورة!!.. وهو ما ظهر في تجارب العديد من الرسامين العراقيين : كريم رسن وغسان غائب وهناء مال الله وهاشم حنون في معارضهم الأخيرة، وتجارب كتاب عراقيين : محمد خضير وشوقي عبد الأمير وهم يتلمسون طريقهم في التعبير عن الخراب الذي أصاب المدن العراقية (البصرة وبغداد عند هذين الكاتبين)، وهو الآن يكتسح تجارب كبيرة في الرسم العراقي، حيث تتموضع جينات الخراب في مؤثرات تقنية تستبطن الخراب والعنف بخراب وعنف مماثل يتعرض له سطح اللوحة من : شطب، وثقب، وحرق، وخرق، وحك، وقضم لأطرافها، وما إلى ذلك من مؤثرات وتجسدات لأشكال العنف التي بحثها الراحل شاكر حسن آل سعيد في كتاباته وحققها في منجزه الإبداعي، إلا أن احمد نصيف لم يضق ذرعا بعد بالمواد التقليدية فما زال حتى اللحظة يعتقد أنها قادرة على التعبير عما يريد بينما تخلى العديد من الرسامين الآخرين عن المواد التقليدية ومن هؤلاء : هناء مال الله وغسان غائب ومحمد الشمري فالتجأوا بدلا منها إلى مواد يمكن ان تصنف بأنها نصف جاهزة (ردي ميد) لإنتاج اللوحة.... وهو التحول الأهم في الرسم العراقي بعد الاحتلال الأخير الأمريكي
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire