مقدمة في مفهومية الفنون التشكيلية العراقية .. عصر قبل الكتابة
أ.د. زهير صاحب
Saturday, 01 November 2008
تقـدمـــه: لو إننا أمعنا النظر إلى لفظ (مفهومية) لوجدنا إننا نستعمل هذا اللفظ في الكلام الجاري للإشارة إلى لُباب الشيء، أي إننا نهتم بالعناصر الأساسية
الجوهرية عن الموضوع التي لا غنى له عنها. ونحن هنا، نضع جُل اهتمامنا في توضيح أدق الخصوصيات لفنون هذه الفترة على أرض العراق بخصوص جوانبها الفكرية، والأساليب الفنية التي أنجزت بها، وإبداعات الفنان التقنية وسمات الأشكال التعبيرية، فذلك لأن أعمال الفن، بعد تأطيرها بعاملي الزمان والمكان، ومهما اختلفت ضروبها، تَشهد ارتباطاً كبيراً ببعضها. فالفن بمثابة بلّورة لكل نشاط حضاري، وتركيز لطبيعة الحياة البشرية. وسجل صادق لوجدان الإنسان، ووعيه بصفة عامة.
ولكن وظيفة الفن تَجد لها في بعض الأحيان، صيرورة أعمق من ذلك. إذ إن في طبيعة فنون عصر قبل الكتابة الرمزية، حقائق شاملة معينة، قد يكون لها أكبر معنى، يمكن أن يصلنا عن تلك الفترة الزمنية التي سبقت ظهور الكتابة، فالنشاط الفني جزء لا يتجزأ من إبداعات الإنسان، لبلوغ فهم أعمق للواقع وتطويره. ذلك إن الفن كان وما يزال ذلك الجزء الهام من تاريخ الإنسان وثقافته وتراثه. إن ما تمثله هذه المرحلة من إزدهار في الفنون وتنوع الأساليب التي أبدعت بها. لم تكن إلا تعبيراً أختاره المبدع بعناية للفكر المجرد، فالعمل الفني هنا لا يمكن فصله عن الفكر، إنه تمثيل لصورة التجربة التي بدت واعية بذاتها.
إن في معتقدات الإنسان الأولى، في سعيه لترويض الطبيعة بالشعائر السحرية، عن طريق المحاكاة والتقليد، وإدراكه الخاص بحيوية المادة، واهتمامه بفاعلية التمثيل الفني للظواهر، وملاحظة قوانين الطبيعة، وتواصله الروحي مع كل الظواهر المُتحكمة في مفردات حياته. قد وجدت لها حالة من الوعي والتشكل الجديد في أعمال الفن، واكتسبت معنى وحيوية تعبيرية، وبما يتماشى وطبيعة هذه المرحلة الحضارية الجديدة. فهو عالم من القيم المطلقة والباقية، يعلو على عالم الظواهر المُتبدلة، ويتحرر من جميع تعسفات الحياة. ولعل في كشف الفن هذا، إن بدا وسيطاً، وأصبح وسيلة للارتقاء بحالة الوجود اليشري في زيادة قوته وإثراء حياته.
إن حالة من الوعي في الخصوصيات الفنية التي تتجسد في طبيعة الأعمال الفنية من هذه الفترة. وهي أكثر أشكاله قِدماً وأصالة، والتي نَروم الخوض في توضيحها، بهيئتها العامة. فيها من التنوع وضخامة النتاج، ما يدعونا إلى إيجاد حالة من التركيز على تلك النواحي التي وجدنا إنها تساعد في توضيح تلك المفاهيم التي سننسبها للأعمال الفنية، وفي حالة من التداخل ما بين العام والخاص، فالحضارة هي البوتقة الكبرى التي تصهر فنون الجماعة وطقوسها وشعائرها وأساطيرها وقيمها الجماعية وشتى مظاهر نشاطها. ويمكن تأسيس ركائز هذه المفهومية في بنيتها الفكرية والتقنية والشكلية بثلاثة مفاهيم:
1. طبيعة الصورة الرمزية.
2. سمات الأسلوب الفني.
3. تحولات الأشكال من الواقعية إلى التجريد
1. طبيعة الصور الرمزية:
إن صورة الوعي الفكري الإنساني، التي بلغتها حضارة هذه المرحلة، وذلك بصدد المعتقدات الدينية في شتى ضروبها، هي نقلة نوعية جديدة في تاريخ الحضارة البشرية حققتها الحضارة العراقية لأول مرة في التاريخ الإنساني. فَحالة الوَعي بإدراك الجوانب الحسية للواقع، بالتمييز ما بين النظام الطبيعي للوجود، والنظام ما فوق الطبيعي. كانت تتضمن بالضرورة قوى غيبية لها فاعليتها الحيوية في سير الظواهر الحياتية. وقد وجد الفكر في الأعمال الفنية، وسيلة لتوضيح مثل هذه الصور الذهنية. وهكذا أوجد إنسان العراق عالماً بديلاً عن واقعة الحياتي. فكان اندفاعه لتكوين عالم آخر من القيم والمعتقدات، له صفة الثبات والديمومة. بدلاً من عالم الظواهر الحياتية المُتغير، فاكتسبت للأشياء والظواهر فيه مضامين روحية، بدلاً من خصوصياتها الواقعية المباشرة. فانطباعاته لم تنبثق عن مسرته في الملاحظة المباشرة والحسية للأشياء، بل كان سعيه منصباً في تكوين مضامين ذات مغزى أعمق. فإنه عندما ينجز عملاً فنياً باعتباره عملاً من أعمال الاستعطاف السحري، فإنه يَهرب من الحالة السائدة في وجوده، ويخلق ما هو بالنسبة إليه تعبيراً فكرياً عن حالة من التحقق، لذلك تكون الرسوم والمنحوتات، تمثيل مختزل لأفكار عامة. " فالتضمين في مثل هذه النتاجات الفنية هو فلسفة الحياة برمتها، فكل هذه الرموز غنية بالمعاني. فهي تعبير عن آمال ومخاوف كل الجماعة " (بارو، 1977، ص92).
فتحول العمل الفني التشكيلي شيئا فشيئاً من صورة مماثلة للشيء المواد تصويره، إلى صور معبرة عن ذلك الشيء. فالفنان هنا لا يستقي البهجة من الطبيعة العفوية للأشياء، لكنة يسعى إلى نوع من التحوير والاختزال وصولاً إلى الأسلوب الرمزي في التمثيل، تبعاً لأفكار ومضامين لها علاقة بالفكر الديني. وهو من الضرورات الملحة في حياة الجماعة. إن مثل هذه الرموز وما نُسميه نَحن اليوم بالأشكال التجريدية، لم تكن تمثيلاً لأشياء مادية، بل تعبيراً عن أفكار. ذلك إن شكل الصليب الذي يُزين أحد كتفي منحوتة فخارية بشرية أنثوية من هذه الفترة. لابد أن تكون له قدسية خاصة، واهمية سحرية فعالة (شكل 1) وبفعل نقاء وأصالة الحضارة العراقية، نجد استمرار استخدام هذا الرمز لأهميتهِ السحرية والقدسية حتى الزمن الحاضر (شكل 2).
ولقد أشار جايلد ( Childe ) في وصفة للرسوم الملونة التي تزين الفخاريات من هذه الفترة: " إنه فن رمزي بكل وضوح ومشحون بقوة رمزية عظيمة " (جايلد، 1978، ص204) فقد كان يشار إلى الأشكال برمزية مُقتضبة، ومثل هذه الأشكال التي تبدو في بعض الأحيان هندسية الطابع. (شكل 3) إلا إن ذلك لم يقلل من أهدافها الرمزية ولم يسلبها حيويتها. فلقد كانت المجال الرئيسي لأساليب التعبير الروحية الاجتماعية.
وبدت تلك المشاهد الملونة الجميلة على سطوح الفخاريات، بمفاهيمها الروحية والاجتماعية، ومدلولاتها الفكرية، ذات فاعلية كبيرة في شعائر وطقوس ومعتقدات الإنسان الدينية. إذ إن معظم نماذج الآنية، كانت قد استخدمت في دفن الأموات أو تقديم القرابين في المعابد، أو حين تم حرقها أو تحطيمها في الشعائر والطقوس السحرية. ولقد حافظ الإنسان على بعض نماذجها عند تعرضها للكسر بمحاولات عديدة لإصلاحها، حتى تَتم عَملية تلبية النداء الروحي الذي أوجدت من أجله. فمثل هذه الأعداد الهائلة من المفردات الرمزية، أريد لها أن تمثل أصدق تعبير عن مدركات الإنسان في ولائه للقوى المُقررة لمصيره. وربما كانت وسيلة التوثيق الوحيدة لعالم الأفكار الإنسانية، في الفترة التي سبقت ابتداع الكتابة، وتفصح تحولات الأشكال الواقعية إلى الأشكال التجريدية في رسوم الفخاريات الملونة. والتي تمثل مفردات من مظاهر الطبيعة كأشكال النباتات والحيوانات. إلى أن الفكر يبحث هنا عن شيء كامن خلف الظواهر، وعن دلالات فيها من حيوية الرغبة بمظاهر الخصب والنماء كثيراً من الإلحاح.
وعلى هذا المنوال في انتخاب التمثيل الفني للظواهر، كرموز لمظاهر الحياة والطبيعة، يمكننا أن نُقدم تَفسيراً لتلك المجموعة العظيمة من رؤوس الطيور الحجرية من مستوطن (النمريك). " والتي أكسبت الإبداع الفني لهذه الفترة على أرض الرافدين، تاريخاً أقدم مما تعارفَ عليه مؤرخو الفن، وصولاً إلى الربع الأول من الألف الثامن ق.م ". ( Koziowski, p. 155, fig – 64 - 68 )، فأشكالها الأنيقة، ومظهرها المُفرط في الواقعية (شكل 4) لابد أن يكون تعبيراً عن ضرورة اجتماعية. ولعل المجتمع الزراعي وجد في مقدمها كل ربيع فألاً حسناً، حيث ستأتي بالمطر الغزير المصحوب بالغلة الوفيرة. وربما تمثل نوعاً من الطواطم التي امتلكت صفة التقدير الاجتماعي في زمانها ومكانها.
إن مثل هذا النشاط الناشط لمدارك الإنسان الفكرية، وبفعل تراكم التجربة، وزيادة الخبرة، ومراقبة الظواهر. استطاع الإنسان أن يُجد لنفسه تصورات يدرك من خلالها بيئته الخارجية، وهي أهم المظاهر الخارجية في فهمة للعالم. وهذه المدلولات الرمزية التي اكتسبت معاني طقوسية. كانت قد شهدت عُرفاً جماعياً. فكانت من نتاج التصور الديني للعالم لدى شعب بكاملة. وتلك هي المفهومية الأولى لفنون هذه الفترة وقد باتت مهمتنا الأعظم في استقصاء الماهية الأولى لفنون هذه الفترة. تدور في تلك الجوانب التعبيرية للأعمال الفنية، وتتلخص بتلك المضامين الجماعية الدينية والاجتماعية التي توحي بها. وكينونتها المتضمنة حضوراً غير مرئي بمعانيها الرمزية. ودورها القدسي في انطلاق شرارة التفاعل بين عالم الطبيعة وعالم ما فوق الطبيعة، وترجمتها بل وترسيخها الجوانب الروحية في فكر الفنان والمجتمع.
2. سمات الأسلوب الفني
على الرغم من الدور الهام الذي يَحتله التفوق المهاري، والخبرة التقنية، وتراكم الخبرة والمراس، في خصوصية الشكل الفنية. فإن للسمات الفنية التي تَظهر على الأشكال، علاقة بالنواحي الفكرية، التي تُقرر المظهر الذي تتسم به المفردات المُمثلة من الناحية الشكلية. ويظهر إن طبيعة التفكير، كانت ذات خصوصية، تَتجه أو تَميل إلى تمثل الأشياء في كليتها، وفي أشكالها العامة المُوحية بالمعنى المرتبط بالشكل. ولذلك فهو ليسَ ميالاً إلى تحقيق أدق تفاصيلها الواقعية. بل يرى إن العنصر الحاسم هو ظاهرها، وهو شكلها، وهو ما تراه العين منها، فهنا لا يمكن أن تتصف الأشكال البشرية والحيوانية، عندما تتجسد كأعمال فنية، بكل تفاصيلها الدقيقة الحسية الماثلة للناظر في مجال إدراكه. بل تتركز الرؤية في انتزاع عدد من السمات الأساسية للشكل لتكوين مظهرة العام، في صيرورة من الخلق تَقوم على حالة، إن كل مالَهُ نفس الشكل لَهُ أيضاً نفس الجوهر. ومن هنا يمكن أن نصل إلى نوع من الرمزية الواعية في توظيف مظاهر الأشياء باتجاه مطامح الوعي الجماعي. فلقد كان الفكر يَبحث عن البنية الأساسية للشكل، فوجد في هذه الأشكال رموزاً للحقيقة الروحية. إنه الفن المُتخلص أو المتحرر من الطبيعة، بأشكاله الجوهرية أو الخالصة، أو المتجردة من التفاصيل فمثل. هذه الأشكال، هي مفردات هامة في الدراما الدينية والاجتماعية، والتي تُمثَل دون انقطاع في أعمال الفن، وقد كانت تؤدي دورها في الفهم الاجتماعي بشكل محكم.
والصور الأكثر دقة، في سمات الأشكال البشرية (الفنية)، التي استمرت حتى الفترات التاريخية اللاحقة، والتي وجدنا أصولها الأولى في فنون هذه الفترة. هي ارتباط الشكل الجانبي للوجه مع الشكل الأمامي للصدر، والوضع الجانبي للساقين (شكل 5) ولقد علل (هربرت ريد) ذلك: " في إن الفنان كان يُمثل أكثر الجوانب تعبيراً في كل عنصر من عناصر الشكل ". (ريد، 1986، ص84) بينما يَرى (هاوزر) إن سبب ذلك يعود: " إلى إن الفنان كان يمثل ما يعرفه أو يفهمه عن الأشياء، بدلاً من تمثيله الشكل كما تراه العين مباشرةً ". (هاوزر، 1968، ص423).
إن حالة من الفحص الدقيق لرأي (هربرت ريد) ورأي (هاوزر) حول هذه الظاهرة. يُوحي بشيء من توحد الفكرة بينهما. الأمر الذي يجعلنا نُرجح كلا الرأيين، كحل لمشكلتنا هذه، ولكن بعد دمجها معاً، فأوضاع الأجزاء الأكثر تعبيراً في الجسم البشري، هي أكثر الأشياء ترسخاً في ذهن الفنان. عندما يمثل الشكل اعتماداً على الصورة المُترسخة في الخزين الذهني وكما هي كائنة في الذهن. فهنا يظهر الشكل بها يتفق مع النزوع الذهني للفنان، وبما يُحَمل الشكل أقصى طاقاته تعبيراً. بدلاً من الاعتماد على التمثيل الذي يعتمد التَدقيق البصري المباشر.
واستناداً إلى مثل هذا الرأي، يمكن أن نُرجح تَعليلاً للأسلوب الفني المتبع في رسم أقدم المناظر الطبيعية على أرض الرافدين. فعلى السطح الخارجي لأحد الجرار الفخارية الكبيرة الحجم من هذه الفترة، تم رسم مشهد صيد لعدد من الحيوانات، على ضفتي نهر يَجري بين سلسلتين متوازيتين من التلال (شكل 6). وهنا علينا أن لا نتوقع أن يتم رسم المنظر كما تألفه عين الفنان الرائي، بانطباعاته الحِسية المحاكية للمرئي، بل يتم انتزاع عناصر المشهد بوقعها الخاص في الذهن، وكما آلت إليه في خزينهِ الذهني لحظة الرؤية الأولى. فظهر المشهد بعيداً عن حيويته وحقيقته الطبيعية المرئية. ذلك إن الفنان قد رجع إلى تصورات الذهن، على حساب الأحاسيس الآتية من العالم الخارجي.
إن مظاهر الاختيار الواعي في الحذف والتبسيط والتجريد، في سمات ومواصفات الأشكال الطبيعية، بالإبقاء على الجوهر، التي وجدناها في الخصوصية الثانية لمفهومية الفنون التشكيلية من هذه الفترة. هي مظاهر فنية مستندة إلى عالم الوعي الفكري للجماعة، والذي يُقرر ما وراء هذه التَمثّلات، من صفات روحية تكمن وراء هذه المظاهر، فالعمل الفني لم يكن خوضاً دقيقاً في ملامح وتفاصيل الأشكال المرئية، كما تبرزها أجهزة التصوير المعاصرة، بل ترجمة للمعنى ونقلاً للفهم، واهتماماً بالشكل المُوحي لمظهر هذه الأشياء. والتي شهدت وعياً اجتماعياً عاماً.
3. تحولات الأشكال من الواقعية إلى التجريد:
إن حالة من التفاعل العضوي والديمومة، ما بين مفهومية الفن الرمزية العامة، وسمات الأشكال الفنية التي تَفي الوعي الفكري حاجته التعبيرية. هي حالة من الفاعلية، اكتسبت بها أعمال الفن من هذه الفترة، أدق خصوصياتها. وإن حالة من إدراك هاتين الخاصتين، في حالة من التفاعل مع عامل الزمن. سنصل إلى تلك المفهومية الثالثة. التي تَفقد فيها الأعمال الفنية مظاهرها القريبة من التمثيل الواقعي، بفعل تعاقب السنين والأجيال، وتوالي مراحل تطور الفكر الديني والاجتماعي بكل ضروبه. وارتقاء فهم الإنسان لما يحيط به من مدركات وقوى، لها اليد الطولى في سعادته أو تعاسته.
وَيقودنا البحث والاستقصاء في فنون هذه الفترة التي سبقت ظهور الكتابة في العراق، إلى ملاحظة إن العديد من الأعمال الفنية، المتمثلة بالرسوم التي تزين الآنية الفخارية وفي السمات الفنية للأشكال النحتية. إن المضامين الفكرية، تبدأ بتمثيل المشاهد بجميع عناصرها بالأسلوب الواقعي المحاكي لأشكالها في الطبيعة. إلا إنها تؤول ومع تَقادم الزمن إلى فقدان خصوصيتها الواقعية، بفعل عوامل التحوير والاختزال والتبسيط، مكتسبة أشكالاً، على الرغم من وجود حالة من الارتباط مع نماذجها الأولى بصدد سمات الأشكال الموضوعية، إلا أنها تكون قد دخلت عالم التجريد. وهنا تَستحيل الأشكال إلى مجرد رموز، وهي برغم فقدانها الارتباط بالواقع بصدد مشابهتها الطبيعية، إلا إنها تبقى عظيمة وحية الفعالية في قيمها الروحية الاجتماعية. ولقد أطلق (كوبلر): " على هذه الظاهرة أسم المتتابعة الشكلية التاريخية في خصوصيات الأشكال من النواحي الفنية ". (كوبلر، 1965، ص76) وإن ظاهرة التحوير هذه، والتي تَدخل على الأشكال، قد تكون تدريجية، أو تكتسب طابع التَحوّل السريع، بحيث يَصعب الرَبط بين أصولها الأولى، وأشكالها التجريدية التي آلت إليها.
وعلينا الآن، أن نُغني الموضوع بالأمثلة المُتاحة. فلقد أوضح (ملوان) (Mallowan ): " بأن شكل رأس الثور المعروف بالبوكرانيوم ( Bukranum )، هو عنصر التذكير الهام ضمن قوى الخصب في المفاهيم الفكرية للجماعة، وقد ظهر بشكل واقعي في البداية. (شكل 7)، ثم ابتعدت مواصفاته التشبيهيه عن سلفة الواقعي، نحو الأشكال التجريدية مع مرور الزمن ". ( Goff, p. 121 ).
وأشار (باور): " إلى إن ما يُعرف بمشاهد أشكال النساء الراقصات (شكل 8) التي تُزين سطوح الفخاريات اتسمت بقرب أشكالها من الواقع في البداية، ثم آلت إلى الابتعاد عن أصولها الأولى، بخصوص مواصفات الشكل التشخيصية، إلى أشكال تجريدية ". (بارو، 1977، ص94). كما إن لشكل ما يعرف بالصليب المالطي بشكله التجريدي الشائع الظهور في الأعمال الفنية لهذه الفترة. (شكل 9) أصولاً ذات سمات شكلية واقعية، فقد استحالت أشكال الوعول الراكضة إلى مجرد أشكال مثلثة، وقد أرتبط كل منها برأس من رؤوس المربع الذي شكل نقطة الَمركز في التكوين.
ونظراً لما تمتلكه هذه الخصوصية، من أهمية في مفهومية الفن من هذه الفترة، لذا سنحاول ترجيح بعض المبررات لهذه الظاهرة، والتي تعمل مجتمعة لخلق هذه الخصوصية. ويدور افتراضنا الأول حول تعدد الأشخاص، ممن ينفذون هذه الأعمال، فقد يقود اختلاف المستوى المهاري الفني، واعتماد ظاهرة تقليد الأشكال الفنية الممثلة في الأعمال الفنية، من قبل أشخاص مقلدين آخرين. فقد نجد في ذلك صفة بعض أنواع التحوير التي تدخل على الأشكال كعناصر تصويرية بعدم التزام جانب الدقة الأول. أما الافتراض الثاني، فقد أوضحه (كوبلر) بعبارة: " إن الألفة الزائدة تورث الاستخفاف ". (كوبلر، 1965، ص151). حيث يؤدي التعايش اليومي مع نفس الأشكال، إلى خلق حالة من الكلل، لما من شأنه، أن يدعو إلى البحث عن أشكال جديدة، مع الاحتفاظ بنفس المعنى.
وإضافة لما تقدم، يمكننا أن نرجح أيضاً، حلاً آخر لوجود هذه الظاهرة. وهو إن اهتمام الفنان بالمضامين الاجتماعية المقدسة لهذه الأشكال، قد جعل فكر المبدع مركزاً بصدد المضمون على حساب الشكل، طالما إن صفة القديسة ملازمة للأشكال المصورة رغم التحويرات التي تدخل عليها بسبب نسخها ربما لعشرات المرات. أما الافتراض الأخير الذي نرجحه هنا، فيرتبط بظاهرة تطور الوعي الفكري الديني من الناحية الاجتماعية، مما وَلّدَ ضرورة ملحة لإبداع أشكال تجريدية مطلقة للتعبير عن ظواهر مطلقة، ترتبط بعالم الوهم، وعالم القوى الغيبية، حيث تدعو الحاجة إلى التحرر من النموذج وصولاً إلى البناء الشكلي الرمزي الخالص في مخاطبة القوى العليا، التي يَصعب التكهن بإرادتها. وهي خصوصية لازمت فنون هذه الفترة.
وهكذا يُكتَسب المعتقد الديني للجماعة، معنى أغنى، وقوة تعبيرية أعمق، كانت تفتقر إليها وهي خارج مجال التمثيل الفني. فالفن كان مَظهراً للعقل والتفكير. وهو نداء النفس البشرية التي كانت بكليتها تبحث عن ذاتها، والتي بدأت تستفيق بفعل هذا الحافز الحقيقي نحو تلك الكفاية الأولى. وها نَحنُ ذا نَرى آية إشعاعات ما ورائية، وآية طاقة روحية، وآية أهمية اجتماعية، مشهودة ومتغلغلة في صلب مجموعة النشاطات العليا للجماعة، تَعيَّن على الفن أن يحملها إلى إنسان هذه الفترة. إنه انتصار الحياة الأول، والذي عزف لحنه خالداً على هذا النحو على أرض العراق.
ومع كل ذلك، فإن هناك موضوعاً يَدعو للدهشة بهذا الخصوص. فلقد وصفت فنون هذه الفترة بأنها لن تتَخطى المستوى (الحرفي)، بفعل ما عُهِدَ إليها من حاجات وجوانب غائية اجتماعية. وهنا فإن دراسة مستفيضة للمعتقد الديني والنظم الاجتماعية، ونشاط الإنسان الفكري، والأوجه الحضارية المختلفة الأخرى لهذه المرحلة. ستثبت بأن وجود الخط الفاصل، ما بين اتجاه النفع المطلق، واتجاه الفن المطلق، لا وجود له إلا في مخيلتنا. فالنتاجات الفنية لهذه الفترة هي مزيج من عناصر نَفعية وفنية. ولكن بدرجات متفاوتة، ولا يمكن تصور أي شيء، لا يضم عناصر النفع والفن معاً. وفي الوقت الذي لا ننكر فيه، إن عملية إبداع الأعمال الفنية لهذه الفترة، لم تكن ضرورة جمالية بحتة. إلا إن طبيعة الفكر الحضاري للجماعة لم تَفصل الفن عن الصناعة أو الخبرة بشكل عام. فلقد كان النشاط الفني مُندمجاً في صميم اهتمامات الحياة، وكان نشاطاً فكرياً روحياً، أمتلك ظاهرة القداسة.
وتؤكد الأعمال الفنية النحتية والفخارية والرسوم من هذه الفترة بشكل عام إنها كانت مجردة من وجودها المادي، فهي بذلك عبارة عن رؤى روحية، ورموز دينية، وقوى فاعلة في الوجود الإنساني. ولَعَلَ في ذلك ما يُحرر الإدراك من الأغراض العملية. فهي عبارة عن قوى مثقلة بمضامين عقلية، وهذه المضامين ظواهر حياتية تَمتزج بانفعالات الحياة وترتكز عليها. ذلك إن إنسان هذه الفترة، كان حتى في أدواته، يتطلع إلى إبداع أشياء يَعتبرها جميلة بشكل واضح. وليس من شك في إن هذه الزينة لم تكن غير ضرورية، ذلك لأنه كان للصور تأثيرها ومعناها، وكان لها شيء محدد تَنطلق به.
وإذا أضفنا الجوانب المهارية، والخبرات التقنية، إلى السمات التعبيرية للأعمال الفنية. تَبرز تلك الأهمية العظيمة في قيمتها الفكرية، وسمات وجودها وتوارثها عبر الأجيال. فهي تمثلات الوجود الإنساني، بما يرضي حاجاته التعبيرية. إنه الموقف الإنساني الفكري في سعيه لترويض الطبيعة عن طريق المحاكاة والتقليد، واستعطاف قواها الخفية، بفاعلية التمثيل والحركات الإيقاعية، التي وجدت فيها الجماعة ذاتها الأولى في التاريخ ولعل في ذلك كله أهم عناصر خلودها حتى هذه اللحظة.
اســـتنتاج:
1. إن الفكر العراقي الإبداعي، وهو يؤسس أنظمتهِ الأولى في تاريخ الإنسانية. تمكن من تصنيف الظواهر وإدراك ما بينها من علاقات، فجعل لكل قوة في الوجود (رمزاً)، وعلى هذا النحو تحولت الظواهر إلى رموز ومفاهيم، وهي تكثيف للأفكار بخطاب التشكيل. إنها بمثابة الوسيط، بين الطبيعة في بنائيتها المادية وعالم الميتافيزيقيا، وبجدل حيوي بين فيزيائية الظواهر وجواهرها. فالكوني في بنائية الفكر القبل كتابي، ينتمي إلى واقع وما فوق الواقع. وقد (حَلَّ) الآن عالم الوهم، بمحيط معرفي في وعي الإنسان بتأويل المدركات إلى صور رمزية. فتحولت الأشكال، من صور مماثلة لحيثيات الأشياء إلى دلالات معبرة عنها. ذلك إن مثل هذه الخطابات الرمزية في (جوهرها)، لا تستقي البهجة من الطبيعة (العفوية) للأشياء، لكنها تسعى إلى نوع من التأويل، وبما يضع الرمز في خصوصيةِ اللامحدودة، متعدياً السببية الرابطة بين المرموز به والمرموز إليه. فالمهم هنا نوع من الإزاحة في أنظمة الأشكال كمفاهيم، وبما يجعلها موحية (مشفرة) بدلالات جديدة. فقد كان هدف الفن ليس التقليد، بل الكشف عن الصيغ التي (تساند) الفكر الإنساني (القبكتابي) لامتلاك صلات وثيقة مع عوالمهِ الحاضرة والمعّيبة.
2. قاد الفعل المبدع لآليات عمل الصورة الذهنية للفنان من الفترة القبل كتابية في العراق، إلى تمثيل الفنان لما يعرفه ويدركه عن الأشياء، وما ينبغي إن تكون عليه، بدلاً من أن يحاكي ما يراه، واضعاً بذلك التجربة الحسية تحت سيطرة ومراقبة الذهن، ذلك إن الأشكال في فنون هذه الفترة العظيمة، كانت حقائق صورية. ومن هنا كان التوجه نحو المظاهر التجريدية، والتوقف عند الصور الذهنية غير المادية. والقائمة على التنظيم البنائي المتناغم في الأشكال الهندسية. فالفنانون لم يروا بأعينهم ما في الطبيعة بل بأفكارهم، وهم لم ينسخوا الموضوع كما هو في الواقع بل يؤولونه نحو الجوهر. ذلك إن تشبيهية الصورة، لم تعد تمثل نظام الشكل في فنون الرسم والتصوير، بل عَمِدَ عوضاً عنها، إلى تأويل نظام رياضي، يتسم باستدلالات عن الصورة المُدركة حسياً. وفي ذلك تكمن القدرة بالرقي على جميع الصور الفردية، وشتى أنواع التفاصيل والجزئيات. ومن هنا كان التحول في سمات الأشكال من الخصائص الجزئية، إلى بنائيتها الكلية، ومن الفردية إلى التعميم المطلق.
3. إن الأصل في المنجزات التشكيلية، هو العمل الأول الذي يرى النور بفعل إبداع (الفنان). أما (القوالب) الأخرى والتي تشكل سلسلة تاريخية، تعقب الأصل، فإنها لن تكون بذات الأمانة المطلقة في فعل الاستنساخ. وبفعل الطلب الاجتماعي على الأعمال الفنية التشكيلية من الفترة القبل كتابية في العراق باعتبارها رموز طقوسية، إن جعل الضرورة الفكرية (مرّكزة) على المضمون على حساب الشكل. فتوالدت الأشكال وهي تحمل تنوعاً في الأنساق التشكيلية، مما أكسبها ابتعاداً عن (الأم) في نسخها المتكررة، الأمر الذي ولدَّ تمرحلات بصدد الأسلوب من دقة الواقعية نحو رمزية التجريد. وهي آفاق تبدأ بتأكيدها الوجود الإنساني، بواساطة الإنسان نفسه، وبتأكيد حقه في إيجاد حقيقة أخرى، خارج حدود الطبيعة بل ويتجاوزها اعتماداً على قوانين خلق أخرى.
4. وفعَّل تطور الفكر الديني، ضرورة إبداع أشكال (تجريدية) مطلقة للتعبير عن ظواهر مطلقة، في خطابها التشكيلي (المشفّر) نحو الميتافيزيقي. وذلك بإبداع أشكال بفعل الخيال والتأمل، تستطيع تجاوز منطق الواقع. فالمهم هنا هو تمثيل الأشكال بأسلوب، يفعّل تأويلها بدلالات جديدة، وبوجود مضاف تبثهُ فيها الذات الفردية للفنان المبدع، التي تتأمل وتعقل وتبتكر. وذلك بالاهتمام بداخلية الشيء العميقة، حيث أصبح (الموضوع) محض وسيلة لإبداع علاقات شكلية تجريدية. إنه فعل (الإبداع) الذي أصبحت فيه التجربة واعية بذاتها، بالتحرر من النموذج وصولاً إلى البناء الرمزي الخالص. بالاهتمام (بإبداع) فكرة عقلية تتكفل بتفسير (البلبلة) التي تكمن وراء المظاهر الواقعية السطحية للظواهر الاجتماعية. وفي ذلك أكثر الأفكار (معقولية) في تفسير تحولات الأشكال في هذه الفترة العظيمة من تاريخ الفن التشكيلي العراقي، من الواقعية إلى التجريد.
......................
المصـــــادر:
1-بارو، أندريه. سومر فنونها وحضارتها، ترجمة وتعليق عيسى سلمان وسليم طه، بغداد، 1977.
2-جايلد، جوردن. العصر الحجري الجديد، في الإنسان والحضارة والمجتمع، تأليف هاري شابيرو، ترجمة عبد الكريم محفوظ، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دمشق، 1978.
3-ريد، هربرت. معنى الفن، ترجمة سامي خشبه، مراجعة مصطفى حبيب، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986.
4-كوبلر، جورج. نشأة الفنون الإنسانية، ترجمة عبد الملك الناشف، بيروت، 1965.
5-هاوزر، آرنولد. فلسفة تاريخ الفن، ترجمة رمزي عبده جرجيس، مراجعة د. زكي نجيب محمود، مطبعة جامعة القاهرة، 1968.
6-Goff, L. Symbols of Prehistoric Mesopotamia, Yale Univ. press, 1963.
7-Koziowski, S. Nemrik, Pre Pottery Neolithic Site in Iraq, Edited by Stefan Koziowski, W. U. W, Warzawa, 1990.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire