الفنان علي النجار
ـــــــــــــــــــــــ
الفنان التشكيلي نبيل تومي
وسيرة الحدث
من تحت وطأة ثقل الحدث خرجت أعمال الفنان التشكيلي (نبيل تومي(2). ولم يكن هذا الحدث سوى اقصاءا لحريته وإبعاده من محيط حياته العراقية. وبما أن أزمنتنا مرهونة بأمكنتنا. ومنها أمكنة أو مكان نشأتنا الأولى. فقد تم إقصاءه بعنف بعد أن مر بتطهير جسده في دهاليز القمع الدكتاتوري للعام(1982). زمن الإقصاء الآني على قصره ما هو إلا بترا لسيرة حياة وتجفيفا لمنابعها المحيطية السوية. وهذا الزمن الزمن العصي على النسيان, هو بالذات زمن رفقة نبيل في كل أعماله التشكيلية التي نفذها بعده. وان لم تكن تكتمل عدته الفنية قبله , فقد تم تنشيطها واكتمالها بعدة تجاوزت منابع قهرها حاضنه الأوربي الجديد, ثم بقي هذا القهر خفاء يرافق ظل فرشاته على مدى مسيرته الفنية
الانتظار
في ظل هكذا هاجس مستفز بفعل المصادرة والإقصاء. وبفعل مصائب تاريخ وطنه الأم الغير منتهية والتي لا يحدها حد و التي طالت حتى المقربين منه. تسللت عناصر تعبيرية حادة مساحة انجازه التشكيلي العام, موازية لحدة وشدة الصخب الخارجي والداخلي وللحد الذي أقصاه عن سكونية بيئة حاضنته الجديدة في الشمال الأوربي(السويدية). بيئة سادرة بلون الشفق القطبي وما دونه, يذوب في ثناياها وينصهر وهج الضوء وحدة موشوره الشرقي(الشرق أوسطي) حد الأنمحاء. وان كانت هذه الانتقالات عبر الأمكنة تخترق بتؤدة, أو تتسرب بتؤدة, موازية لمكونات الفرد الوجدانية والثقافية, وجاهزيته للفرار من تبعات ماضي أيامه الغير سوية( كما هو حال غالبية العراقيين المهاجرين, أو المنفيين, أو اللاجئين). وهذه –اللا- المرافقة لملايين الذوات في عصرنا الحاضر, وليس للعشرات. هي عصب حراك النتاج التشكيلي لنبيل, والتي لم يجد مجالا للفظها أو نبذها مطلقا. ربما لم يسعفه تاريخه الشخصي الماضوي(المستحضر دوما) كما لم يسعفه التاريخ الكارثي العراقي على ذلك.
القسوة أن يتحول الأسود ضوءا والأحمر فضاء وان تفقد الشخوص طراوة ملامحها حد المسخ أحيانا وان تتوسد الأرض وجعها وليس رونق خضرتها.
التعذيبصيغ التعبير هذه تأخذ بتلابيب رسومات نبيل حد تخومها أو انحلالها. رغم صلابة بنائياتها. مثلما سكنته سلوكيات فجاءة التعبير وعفوية الأداء في آن واحد, ولم يكن همه البحث عن جماليات الكائنات بقدر همه نبش عوامل خلل أقدار بعضها, هذا البعض الذي يمت بصلة لا شبحيه لشخصه, وعوامل من هذه هي التي دفعته لتكريس اللوعة الذاتية وفضها خارجا. هل هو مستوحش. متفرد بصيغة الانتكاس. أم هو يحاول صياغة تاريخ غير سوي بأدوات مقاربة. اعتقده الاثنين معا.
هل حقا ان السياسة ملح الأرض. هذا ما نشعر به دوما في زمننا الحاضر. وان يكن ملحا بوارا لأرض الجنوب, وهذا أيضا ما تعلنه كل المؤتمرات المناهضة للعولمة الاقتصادية, مع ذلك فإنها طالت شعوب الأرض كلها من خلال ما أفرزته الكارثة الاقتصادية العولمية الحالية. ومع ذلك فلا يزال الجنوب هو الأكثر هشاشة(ونحن منه). مثلما العديد من أعمال نبيل التي لا تبتعد عن مقاصدها السياسة كونه يجد نفسه وسط هذا الحاضن العالمي السياسي الواسع. لكنه درب نفسه على الابتعاد عن حبائلها المراوغة لصالح التعبير عن الهم الإنساني, بدأ من هم أناسه العراقيين عبورا إلى أقصى الجنوب(2), عبر محاورته لشخوصه المحلية ولأرث أرضهم الجغرافي والتاريخي الذي أنهك وينهك باستمرار. لقد اختلطت صبغته أعماله بنبرة وثائقية لا تخطئها العين في بعض أعماله مأرشفة تداعي أزمنتها, وبات هاجس فظ دلالتها لا ينفصل عن تواريخ
صرخة من الهور
دحرائق لونية مبعثرة خلل معظم رسوماته. ووثاق صورية تغطي بعض من مساحات أعمال أخرى. وان خانته الوثيقة اللونية لهول الحدث فقد استعان بالصورة(تلسيقا) مشهدا يدلنا على مباشرته. وما بين المباشرة التوثيقية وحفريات الأجساد والبيئة والحدث ظلت اللوعة هي القاسم المشترك. وفي خضم كل ذلك لم تفارقه هيئات وسحنات أناسه العراقيين. ولم تغريه كل السحنات الشمالية البراقة بمحاورتها وهو الذي قضى حوالي نصف عمره يجوس خلالها. فهل هو قدر عراقي تلبسه!,
لقد استحضر(نبيل) مقابرنا الجماعية في بعض أعماله التجميعية ووهبها رعبا لشعوب الشمال. وان يكن الشمال غير مدرك لهول الرعب هذا. لكن الصدمة المباشرة تمثل له رعبا. رغم انه لا يود أن تكون أعماله مبعث رعب بقد كونها حافزا للشجب وتثويرا للقيم الإنسانية المثلى. فلا يزال إنسانا ولا نزال أناسا كباقي البشر.
واقعية أعماله لا تحيلنا لسكونية مألوفة الواقع. بل كما هي سمات الأعمال التعبيرية الأوربية في اختزال التفاصيل لحد فطريتها غالبا مع توهج ألوانها, ما دامت تحركها عاطفة تتجاوز مألوفة واقعه المحيطي(رغم التباسه أو شبحيته الفيزيقية). لكنها تبقى تناور مقاصده الفكرية والسياسة بحمولاتها الرمزية أحيانا.
هل ثم قلق يسكن ذاته.
لوبين
هذا ما تنبأنا به رعشة ملونته ونثار عتمتها أو اكتضاض تفاصيلها, حتى في رسوماته لبيئته الجديدة وحاويات زهورها. فليس ثم استراحة نظر وسط اكتضاض التفاصيل وقساوة محفوراته اللونية. هذه الأعمال بالذات تحيلنا لنظائر لها في رسوم بعض الفنانين الشماليين والتي تنبأنا عن مدى انشطار الذات وتوحدها أو وحشتها نتيجة لانحدارها وقساوة مناخ يكرس العزلة والظلمة الشتائية شطرا للروح والجسد( وبدون تصالحهما يفقد السلوك توازنه) في وسط بيئي يكرس الفردانية سلوكا جماعيا. مقارباته التعبيرية هذه تجعلها ضمن حيز منجز العديد من أقرانه التشكيليين السويديين( وهم مع ضمن فناني الشمال الآخرين الذين ساهموا في اكتشاف التعبيرية في الأدب والفن عموما) وتنفي عن نتاجه الحيرة الاستفهامية المرافقة للعديد من التجارب التشكيلية العراقية والعربية المهاجرة. ربما يكون لدراسته الفن في مبتدأ هجرته في السويد أثرا واضح لنتائجه التعبيرية, وربما غير ذلك, لكن يبقى الحكم قاصرا دون الأخذ بالعوامل الاغترابية الأقصائية والمحركات الثقافية.
بعد كل حرائق نبيل المتكررة, يبقى السؤال عالقا؟ هل ثمة أمل في مراودته لفضاء أكثر رقة ولملامح أكثر انبساطا؟ سؤال تبقى أجابته مرهونة بمستقبل نأمل ان يجيب هو على استفهاماته التي رافقت مسيرته الشخصية والإبداعية,
....................................................................................................
1- فنان تشكيلي عراقي سويدي. مقيم في السويد منذ(1984) ودرس الفن فيها.
2 - إفريقيا. من خلال اشتغاله في منظمة الأمم المتحدة للمتوطعين(شؤون منظمات المجتمع المدني) منذ عام 2005.
....................................................................................................
علي النجار