ثنائية الرمز وحضور اللاّوعي
بقلم: عزيز التميمي /عن مجلة تمارين
الذاكرة هي خدوش الحناّء المتجذرة في خشبة البابأبواب بالحناّء: ثنائية الرمز وحضور اللاّوعي
ذاكرة الحناء في لوحات علي عباس بداية اكتشاف يبدأ من حافة الرمش ولا ينتهي عند ملامح المجهول المتشكل وراء الأبواب.
بقلم: عزيز التميمي
لذاكرة الحنّاء في لوحات علي عباس، نكهة الماء والتراب، نكهة الحنين إلى الدروب المندسة في رحم المدينة الكبيرة، لذاكرة الحناّء هالة من لون وهذيان، وأنين يتنامى من وراء عتمة الجدار الأخرس، وبقايا حلم يتسرّب مثل هسيس ليحيل الأبواب معابد بقامات مزينة بالتوابل والأمنيات، من هواجس الحلم تنسج بيئة اللوحة، اللوحة التي تحكي كل شيء، وتغامر في طرق أبواب اللاوعي بحثاً عن شفرة أولى يمكن أن تكون الاستفزاز في سفر التكوين، من لحظة مشتتة تلم أصابع الفنان أهاب فكرة قصية، من لحظة مستنكرة، تكون الومضة الأولى، وتكون احتفالية اللون والأفق والتدوين، أصابع ترتجف في لحظة خوف، في لحظة تمرد، فتكون البصمات مقابر للحزن والعاطفة، وتسيل الأمنيات التي تمثل الحلم المقهور أو المؤجل، تسيل لتلفظ انطفاءها فوق الجسد المخدر تارة والمغيّب تارة أخرى.
ذاكرة الحناء وذاكرة الأبواب، بداية اكتشاف يبدأ من حافة الرمش ولاينتهي عند ملامح المجهول المتشكل وراء الأبواب، ونهاية هاجس تسقطه لحظة عبث الأصابع بأديم الورق، وهي المحاولة الجريئة في إعادة القراءة، القراءة التي تتناول الرمز وبعده الآخر، الرمز وإيحاءه ضمن تواصل مستمر مع انسياب الفكرة الكليّة التي جسدتها مخيلة الفنان علي عباس في بانوراما شائكة في تنويعاتها الدلالية والنفسية من خلال استخدامه للألوان الزيتية وأرضيات الورق والقماش والكرتون.
فالذاكرة هنا هي اللون، هي خدوش الحناّء المتجذرة في خشبة الباب، وهي العين المطبقة أبداً على حلم يتشكل باستمرار ليلم طيف سمكة سابحة في خضم دمع كثيف، هي الظلال التي تلوذ بالرأس المثخن بالصور وهي الظلال التي توازي ضربة الفرشاة، هي الضريح المتسربل بخضرة تطير مثل عصفور جريح، الذاكرة هنا تلم أشياء كثيرة، البعد الزمني الحاضر للحكاية، والجذر البعيد للاكتشاف، الزمن المنقسم على نفسه، في مرايا المخيلة، وهي أيضاً إحداثيات المكان، المكان المحكوم بتضاريس اللوحة، والمكان الخارج من سطوة الآن، الترتيلة الخافتة في ليلة ختان، والصمت المجروح بالزفرات في لحظة قنوت، الذاكرة هنا هي الأنين والصخب، وهي التداعيات التي نسجت فكرة الأمل في مساحات اللون المشرق.
اللوحة في عالم تحكيه الأبواب تقتبس من التراث كل رموزها وكل تداعياتها، وفي لحظة تكون المخيلة فرسٌ جموح في فيافي خصبة اسمها الذاكرة، تلك التي يتم الإعلان عنها، بأنها ذاكرة حية ومستهدفة في آن، ذاكرة غنية ومترفة بالتأثيث، موغلة في زمنها وعميقة في تأثيرها، فيها الأصالة مثل الوعي والوعي هو الحضور، فيها اللون هو الحلم والحلم هو المحكي على خشبات الأبواب، وعلى مساحة اللوحة التي يدور فيها الوجه حول فتحة الباب في دورة استكشافية تفصح عن استفهامية شرسة، استفهامية تؤدي إلى تقاطعات في الأمكنة والأزمنة، فتارة يحضر الزمن قبل الحلم والمكان قبل المخيلة وتارة أخرى يأتي الزمن مع شآبيب الحلم المحبط، وكل ما تحكيه اللوحة يؤكد البعد الآخر للمعاناة، الحلم الخارج من رحم القيعان، حالة الإشراق البازغة من عتمة البعيد، الصيرورة التي دفعت بالفنان إلى ممارسة التذاذه في اللاوعي، وما يفصح ذلك من انزياح تجاه منطقة لا يرغب دائماً الفنان العمل ضمن أجواءها، فالعمل في اللاوعي يفقد متعة العمل في الوعي، ويدع الفكرة تتأرجح بين الإفصاح والغموض وربما يدفع بالمنتج إلى تأدية مهام غير مخطط لها، هذا من ناحية أما من الناحية الثانية فالعمل في اللاّوعي يمثل هروب لا رغبة، وبالتالي يفصح عن حالة الواقع التي لا تسمح للفنان بالتصريح، وربما يكشف عن طوق يضغط ويحيل رؤية الفنان إلى رؤية مشلولة حينما يفكر في ممارسة تخطيطاته في منطقة الوعي.
لذلك وجد الفنان نفسه يعمل لا إرادياً في بيئة اللاوعي، وكارتداد طبيعي كان العمق الأرثي هو الحقل الذي يستطيع فيه الفنان طرح أسئلته وكل شكوكه عن الواقع الذي اختزنته ذاكرته صور من الحلم المقموع ومشاهد من الشخصية المتآكلة بفعل مقومات الضغط والاستبداد، ولأن المخزون الارثي مخزون غني برموزه وأساطيره التي أسستها حضارة عريقة امتدت لآلاف السنين، حضر الرمز بأبعاده المترادفة، أي الرمز والرمز الآخر، مستفيداً من حالة العفوية التي تم تسجيلها بذاكرة حادة، وتقصي دقيق لوقائع اليومي والعادي، فنجد رمز الشفّة يحضر معه رمز القلب في ثنائية تواصلية ربما لم تكن مقصودة، فالشفة من حيث هي جزء من جهاز النطق والإفصاح تمثل زمنياً الآن، أي اللحظة التي تسجل ما تم استشفافه في البعد الآخر للزمن ألا وهو القلب الذي يمثل مركز تجسد الإحساس والشعور، وعملية الإيصالية تتوج بمقولة شعبية مفادها الذي في القلب تحكيه الشفاة كتعبير عن حالة من العفوية والصدق، أما من حيث البعد الدلالي للشفّة فحركة النطق تعني إطلاق حلم يتصل بمحيط الباب الذي يرسم نفس الانطباع كحالة للانفراج، وهكذا نجد أن رمز الشفّة يتصل ببقية الرموز الأخرى من خلال عدة أبعاد منها نفسية ومنها اجتماعية، ويتكرر ذلك في رمز الهلال المرتبط بذاكرة الفرح والعيد والوصول حيث يتصل دلالياً برمز المشحوف أو "البلم "المعروف في بيئة الأهوار كواسطة للتنقل والوصول إلى الجرف الآخر، وتُظهر اللوحة وضعية المشحوف موازية لاستلقاء الرأس، أي تماماً كما هي الطبيعة الأفقية للرسو، ثم يأتي رمز العين ليستحيل سمكة في خضم أمواج تحاول أن تكون في منطقة ممكنة للوضوح، ومع تناسق التواصلية بين الرموز يحاول الفنان أن يخلق تناغماً لونياً يدعم مفهوم الرمز والرمز الآخر، فصورة الباب وقوسه العلوي بالذات يحاول أن يصل بها إلى القبة التي تعرِّف نفسها في بيئة دينية ملتزمة، ثم يمتد بإيصال الرمز من حيث هو بعد نفسي لحالة الانفراج والأمل إلى منطقة مشرقة في مساحة اللوحة، وبدت هذه المنطقة تظهر بشكل عنيد ترافق صورة الباب، وحتى لا ينسى الإمتدادات الأخرى نجد أن خشبات الباب تستحيل في نهاياتها إلى شموع وأصابع تزرع الأمل أو الأمنية بصمات مشحونة بالعاطفة، ويرتبط رمز الشمعة بالنبتة واللون الأصفر باللون الأخضر واللون الأسود، أي يتشكل الضياء في ثلاث حالات من التصيير أو التحول فاللون الأصفر كضوء طبيعي والأخضر تكريس لذاكرة الضريح المقدسة والأسود لحالة الكبت والانطفاء، ويبتعد دائماً الرمادي الداكن كتعبير لانتصار حالة الأمل في تقاسيم الحلم، حالة الأمل المتمثلة بالنقاء والوضوح اللوني وتميز ذلك باستخدام اللون الأزرق بدقة ليؤكد حالة الحلم والتفاؤل.
وحينما نقرأ اللوحة كتتويج لحضور المكان، نجد أن الرأس بكل مفرداته يمثل الواقع الحقيقي، الواقع المنفتح مسرحاً لتكوينات الحلم، وتظهر الرموز بناءً على إرادة آنية فتتحرك الأصابع لترسم حد ابتداء وتتوزع الشموع والأوراق الخضر والهلال والشفّه ضمن بعد مكاني يرتبط زمنياً بالآن، ويمتد هذا المكان حتى الباب في حدود المرئي، الباب والجدار والهالة اللونية التي تظهر كإشراقة تفاؤلية للحلم الآني، أما الباب بصفحته المرئية فيشكل إيحاءً للانفراج ضمن مسرح الواقع المرئي، والبعد الآخر للمكان فهو المجهول المتخيل في المنطقة التي تلي الباب، فاللوحة تفصح عن ذاكرة تبدأ من البعد المخفي أو المتخيل أو لنقل من خلفية اللوحة المعتمة، ثم تقترب كحالة وضوح شيئاً فشيئاً من مركز اللوحة بشكل هالة مضيئة، وهذا يؤكد ولادة الحلم في فضاء الذاكرة بملامحه اللاواعية ثم التحول رويداً إلى الوضوح في منطقة الوعي.
ونستطيع أن نقول ان اللوحة في ذاكرة علي عباس تناولت كل ما تستطيع احتواءه من رموز ارتبطت بالذاكرة الشعبية الموغلة في تاريخها، وتجسد ذلك بحركة الألوان التي بدت جريئة في تحديد خصوصيتها ومحليتها، والاقتراب من خطوط جواد سليم وفائق حسن ضمن وعي مسبق وقراءة حذرة لتداعيات الرمز واللون عند كليهما.
إذن فالذاكرة المثقوبة هي كل ما بقي من هذا الإنسان، من حلمه المستفحل دوماً في تدوين طقوس ألمه، وبالتالي فالقراءة المفتوحة للوحة تدفعك لتكوين انطباع ساخر بأنها صرخة مدويّة نشبت في قيعان الحلم ما لبثت أن تجلّت ألواناً تؤدي إلى رموز وأساطير ترتبط ضمن بنية مكانية وزمانية متزنة في علاقاتها الدلالية والإيحائية، وشكّلت حالة من الاندهاش المرتبط بالعفوية، العفوية الصادقة في صياغة عالم نقي متميز ومؤثر.
وعودة أخيرة للرمز والرمز الآخر وحتى يكون الطرح أميناً في تقديم اللوحة وثيقة حية لذاكرة الحناّء وذاكرة الأبواب ندون هذه التقابلية التي طرحتها القراءة التأملية للوحة فنجد:
الشفّة …….القلب
الهلال …… المشحوف (زورق الاهوار الصغير)
العين …..السمكة
الباب المقوس …..القبة
الباب …… المنطقة المشرقة
الشمعة …….النبتة
اللون الأخضر …… الضريح
الخشبة …..الشمعة
الأنف …… الباب
البساط …… قوس قزح
الهالة اللونية الوردية …… الفرح
الصدأ ….البعد الرابع
وهكذا تكشف مساحة المسطح الصوري للوحة مجموعة علائق وارتباطات نفسية وحسية تختزنها الذاكرة التي طالتها مسامير التدمير والتمزيق، فكان الحلم يتشبث دون أن ينهزم
* أبواب بالحناّء: "مجموعة لوحات زيتية" للفنان التشكيلي العراقي علي عباس
علي عباس مواليد 1964\الناصرية
خريج اكاديمية الفنون الجميله قسم الرسم بغداد 1992
عضو نقابة الفنانيين التشكيليين
عضو جمعية المصوريين العراقيين
عضو جمعية الفنانيين التشكيليين الاستراليين
المعارض الشخصية
المعرض الاول قاعة ازاميل بغداد1998
المعرض الثاني قاعة زمان بيروت2000
المعرض الثالث بيروت2002
المعرض الرابع 2003بيروت
اغلب المشاركات الجماعيه داخل العراق وخارجه
حصل على جوائز تقديريه في بيروت واستراليا
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire