أمسية نقدية لخالد خضير بمناسبة صدور كتابه
(هاشم حنون ... تحولات الواقعة الشيئية) بعنوان:
الصورة في الشعر والرسم..
(هاشم حنون ... تحولات الواقعة الشيئية)
ان النصين: اللغوي والبصري هما حقلان مختلفان في وسائل التعبير وفي المقاربات النقدية، إلا ان لهما مشتركا عاما هو ثنائية الصورة بنمطيها: الصورة الشعرية بصفتها استعارة بصرية والصورة البصرية باعتبارها واقعة مجاز واستعارة بلاغية، وهي علاقة تتمحور بين طرفين هما: الصورة البصرية طرفا، والمجاز الشعري طرفا آخر باعتبارهما طرفي القضية، أو شكلي تمظهرهما، بين الصورة (بمعنى العلامة البصرية) وبين الصورة في اللغة المنطوقة، من خلال تعاكس مرآوي بين طرفي هذه الثنائية، وهذه الآلية كرس فرانكلين ر. روجرز مؤلف كتاب (الشعر والرسم ( والكاتب العراقي شاكر لعيبي بعده اهتمامهم لها باعتبارها الآلية الأكثر فاعلية لدراسة (الصورة البصرية) و (الصورة الشعرية) من خلال عملية التشاكل الصوري بين مشخصات الواقع مع بعضها، وهي عملية تتضمن شيئا مما كان يفهم به بعض البلاغيين العرب للمجاز و(الصورة البصرية) بأنه "فكرة (المشابهة) بين دالين"، و"إقامة مماثلة بين أمرين أو أكثر اشتراكها في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود"، وهي قد لا تختلف كثيرا عن فهم الصورة البصرية بأنها امتزاج بين (حقلين صوريين).
1
رؤية فرانكلين ر. روجرزفي كتابه (الشعر والرسم)
1. هنالك تقسيم نال قبولا متزايدا منذ أيام لسنغ وهو ان:
الفن انطباعات بصرية بينما ينطوي الأدب على تتابعات حكائية
الاستعارة ظاهرة بصرية مكانية
2. منطقة التخوم هي الصورة:
الشعرية (الأدب) ----- الصورة ------البصرية (الفـــــن)
3. الصلة بين الرسم والشعر في ادبيات مبدعي كلا الفنين:
· هناك كتاب لهوراس عنوانه (الشعر هو التصوير)
· "الرسم هو الشعر، وهو دائما يكتب على شكل قصيدة ذات قافية تشكيلية، وهو لا يكتب بالنثر ابدا" (بيكاسو)
· "ان قوانين الشعر هي قوانين الرسم ذاتها" (انطون كابيل)
· "الرسم شعر صامت والشعر رسم ناطق" (سيموندز)
· "الرسم شعر يرى ولا يسمع، والشعر رسم يسمع ولا يرى" (ليوناردو دافنشي)
· "ينبغي للكاتب ان يكتب بعينيه والرسام ان يرسم بأذنيه"
· "على الشاعر ان يكون قادرا على التفكير بالصور" (سبندر)
· "ان الحدة البصرية هي جوهر الشعر" (روبرت غريفز)
4. رؤية فرانكلين ر. روجرز:
· لاحظ ر. روجرز في كتابه (الشعر والرسم، بغداد، 1990) "ان تكوين الصورة الفنية هو اندماج صورتين لتكوين تركيبة" (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 97) وهو ما يسمى بـ(الادراك الحسي التحولي) و(الاندماج الصوري) بحثا عن (الصور الشبيهة بالمادة الجوهرية) (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 86)
· ولاحظ ايضا ان رسوم الكهوف هي مزاوجة (تشاكل صوري) بين نتوءات الكهف وصورة حيوان البيزون (= صورة الذهن)، وهو ما يعرف بتقنية المتعرجات menders وتقنية الاشارات العشوائية التي كان يطبقها الرسام ماكس ارنست في تقنية المفروكات frottage ، والطبيب الالماني روشاخ في بقعته الشهيرة، وسلفادور دالي وحتى دافنشي الذي نصح بها في كتاباته كعلاج اجفاف المخيلة، وقد رفعت حركة الرسم الحدثي tachisme او action painting .
· "ان (حقل المتعرجات) يؤسس الشروط اللازمة من اجل ايجاد الاشكال ثم تطويرها بضربات اضافية يسيطر عليها بصورة اكثر تعمدا" (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 34) حيث "تندمج المرحلة التحولية على نحو يكون غير واع، في المرحلة الماسخة للشكل وذلك هو النصف الأول من مقولة جورج براك (الحواس تمسخ الشكل والعقل يصوغه)..." (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 37)
· "ان جزئيات الشكل حين تجرد من الشيء المستوعب، لابد الان ان تجتمع ثانية مع عناصر اخرى من صورة الذاكرة من اجل تكوين الصورة الفنية" (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 37).
· لقد اكد باشلار بانه "اذا لم يحدث أي تغيير في الصور، او اتحاد غير متوقع في الصور، فليس هنا أي تخييل، وليس هناك اية عملية تخييلية"
· اذن فان "صورة الذاكرة عند الفنان هي العامل الحاسم في تحول الشيء المستوعب الى صورة فنية: ان مسخ الشكل وصياغته، وتغيير الصور واتحادها غير المتوقع يتحقق عن طريق ذاكرة الصورة" (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 38)
· وقد افترضنا انه ليس شرطا ان تتطابق علامات الذهن مع علامات الواقع بل قد تتطابق مع علامات الفن وهو ما اسميته (قانو مالرو)، فالفنان يمتلك داخل نفسه ايضاحا للشيئ عميقا في نفسه، وهو ما يسميه بيكاسو "فكرة الشيء التي تركت بصمة لا تمحى" بعد ان تكون قد ترسخت في ذهن الرسام هاشم حنون بشكل (بنى هيكلية متجهة) او (بنى شكلية طوبولوجية) او ما يسميها الخبير بالفن الاسلامي الكسندر بابادوبولو (بالهيكل الرياضي) وأسماها الناقد شاكر حسن آل سعيد تلك البنية الخفية (المدرك الشكلي) فتتكون "الصورة الفنية ... من صورة مركبة ناتجة من اندماج عناصر الشكل القابلة للتحول في الصورة المستوعبة بعناصر الشكل القابلة للتحويل في صورة الذاكرة... "، حيث "ان الشكلي (او النمطي) للبيئة المستوعبة تندمج مع العناصر الجوهرية للعالم الداخلي، عالم الكينونة" (اوكونور).
2
رؤية شاكر لعيبي في كتابه (بلاغة اللغة الايقونية...الصورة بوصفها بلاغة)
منذ عنوان كتابه كان المؤلف (يداور) بين (طرفي) الصورة، بين الصورة البصرية كطرف، والمجاز الشعري طرفا آخر لاعتبارهما طرفي القضية، أو شكلي تمظهرهما؟ بين الصورة (بمعنى العلامة البصرية) وبين الصورة في اللغة المنطوقة، فهو يؤسس عنوانه على ثنائي الصورة (البصرية) مقابل اللغة المنطوقة، فيبين عنوان كتابه على تعاكس مرآوي بين طرفي هذه الثنائية، تقديماً وتأخيراً بين طرفيها، (مداورة) ودونما تصريح "بلاغة اللغة الأيقونية... الصورة بوصفها بلاغة" وبذلك فهو يدلل منذ العنوان بأنه: أولاً، يقف ضمن الاتجاه السيميولوجي الذي يعتبر السيميولوجيا جزءا من اللسانيات حينما يؤكد منذ السطر الأول في الكتاب على ذلك "ما زالت اللغة المنطوقة على ما يبدو ضرورة في قراءة اللغة البصرية" ، إلا أنه لا يكتفي بذلك فهو، ومنذ الصفحة الثانية (في النص)، المرقمة (6) بالتسلسل العام للكتاب يكتشف مقاصده بإيجاد آلية مرحّلة من اللغة إلى حقل الصورة البصرية، تلك الآلية التي هي الاستعارة او المجاز والتي تتضمن معنى (الانحراف)، وبذلك فهو يستعيد ذات الآلية الني كرس لها مؤلفا كتاب (الشعر والرسم) اهتمامهما لها باعتبارها الآلية الأكثر فاعلية لدراسة (الصورة الشعرية)، وهي وجود حقلي استعارة يتشاكلان صوريا لانتاج الصورة، وبذلك فإننا نتقل إلى مستوى أعمق من قضية استنطاق العلاقات بذاتها، او استنطاقها بمعونة اللغة المنطوقة. ويبدو المؤلف وكأنه قد شعر بالخوف من ان يوجس القراء في أنفسهم ريبة فيؤكد "عندما يتعلق الأمر بالبلاغة الصورية، لا يتعلق الأمر، بحال من الأحوال، بعمل تلفيقي، ولا باستجلاب قسري لمصطلحات حقل إلى حقل مختلف، ولا بتقويل البصري ما تقوله البلاغات اللفظية" والسبب برأي المؤلف يتعلق "بامتلاك البصري، بطبعه أصلاً، بلاغة تأويليه ومجازات تتماس مع المجازات اللفظية المعهودة" ويماثل المؤلف بين المجاز اللغوي والصورة البصرية هنا في قوله "ان المجازات اللفظية هي ( انحراف متعمد) للغة عن استخدامها القاموسي... والصورة image بطبعها تتضمن شيئاً يمكن ان يوصف بالمجازي طالما ان فيها موضوعاً غائباً فعلياً لكنه حاضر دلالياً: لوجود الغائب" لذلك فهو يستنتج ان "المهم في الصورة ليس ما يحضر فيها ولكن ما يغيب" ونحن ربما تختلف معه في إعطاء الأهمية (لما يغيب) من الصورة، فأن ذلك سيؤدي إلى نقل الصورة من اعتبارها (واقعة شيئية) من خلال عناصرها الشيئية إلى معاملتها باعتبارها موضوعاً سردياً وفي ذلك تخسر الصورة جزءا من وجودها الشيئي.
يعيب شاكر لعيبي على بعض البلاغيين العرب لتبسيطهم للمجاز بأنه "فكرة (المشابهة) بين دالين"، الا ان فكرة التشاكل الصوري بين (حقلين صوريين) لا تختلف كثيراً عن محاولة تصنيف المجازات الايقونية التي أجراها المؤلف والتي اعتبر فيها دروس البلاغة "تقدم بضعة مفهومات مفيدة عن مفهوم التشبيه" وكانت تلك المفهومات لا تعدو ان تكون ذاتها التي اعتبرها تبسيطاً للقضية وهي " إقامة مماثلة بين أمرين أو أكثر قصد اشتراكها في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود" بينما يؤكد في الوقت ذاته أن "في اللغة الأيقونية نجد تماثلات بين أمرين مرئيين بسبب اشتراكهما في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود" بينما يؤكد في الوقت ذاته ان "في اللغة الايقونية نجد تماثلات بين أمرين مرئيين بسبب اشتراكهما في صفة أو أكثر" وبذلك سنعود إلى المربع الأول وهو ان (التشاكل الصوري) عند مؤلفي كتاب (الشعر والرسم) والى غيرها من المفهومات التي تدرس الصورة الشعرية من خلال الصورة البصرية وهي ذاتها التي نجدها هنا حيث يحاول شاكر لعيبي ان يدرس الصورة البصرية من خلال مجاز الصورة الشعرية، أي استخدام المفهومات ذاتها، وبذلك تتحقق ذات البنية الدورانية والمرآوية جيئة وذهاباً بين ان تكون أولاهما أصلاً للثانية، وثانيهما، في الوقت ذاته، أصلاً للأولى، وفي كلتا الحالتين نجد سبباً قوياً لهما يربط الشعر بالرسم من خلال نقطة الالتقاء هي الصورة بنمطيها البصري والشعري.
يستند المؤلف على ما قاله "الفلاسفة المناطقة المسلمين بأغتراف الشعر والتصوير كليهما من (التشبيه)، والمراد بذلك هو سعي الفنين لمحاكاة الطبيعة وهذه هي فكرة ارسطرطاليسية عن جدارة". ويستشهد المؤلف بقول الفارابي عن العلاقة بين الشعر والصورة البصرية، "ان فعليهما جميعا التشبيه، وغرضهما إيقاع المحاكيات" ويستشهد بأقوال أخرى لابن سينا وابن رشد وأخوان الصفا والجرجاني، وكلها "نصوص تشدد بشكل رئيسي على مشكلة المحاكاة المختصرة إلى مصطلح بلاغي سائد في المجاز العربي وهو التشبيه".
3
الترسيمة المشتركةللصورة
الصورة
الشعرية
البَصَرية
منطقة التشاكل الصوري
حقل صوري 1
حقل صوري 2
"الديك بوق الصباح" شكسبير
منطقة التشاكل الصوري
صورة الجدار
(نتوءات جدارالكهف)
صورة الذاكرة لحيوان البيزون
منطقة التشاكل الصوري
صور الفن المهيمنة في عصر ما
صورة الذاكــــرة
(البنى الشكلية الطوبولوجية الخفية) اسماه الكسندر بابا دوبولو:
الهيكل الرياضي
سمات الاسلوب الشخصي
4
نموذجنا التطبيقي في كتابنا
هاشم حنون ... تحولات الواقعة الشيئية
لقد تابعنا مراحل تحولات تجربة هاشم حنون في الرسم ، وعلى مر سنوات طويلة...
فتحت عنوان متجهات أسطورية، افترضنا وجود (بنى شكلية طوبولوجية) خفية حتى عن وعي الرسامين أنفسهم، يقيمون عليها هندسة لوحاتهم، وحدد واحدا من أهداف الناقد بالوصول إلى (الكمية الممثولة) وهي مرحلة وسطى بين الملموس والمجرد، بين الهندسي (الهندسة) والتجريدي (الرياضيات) حيث لا مناص من الانتقال من الصورة الى الشكل الهندسي ثم منه إلى التجريدي ….حيث تحل محل الصور الأشكال الهندسية المناسبة، ومن ثم العودة ثانية من التجريدي إلى التعبيري عبر الهندسي (أي من الرياضي إلى الأيقوني فالصوري) بواسطة لغة التمثل والتصور والتحليل النقدي. وقد سبق للخبير بالفن الإسلامي الكسندر بابا دوبولو ان أسمى هذه البنى السرية (بالهيكل الرياضي) التي كان يقيم عليها الرسام الإسلامي يحيى بن محمود الواسطي أعماله في الرسم. وأسماها الناقد شاكر حسن آل سعيد تلك البنية الخفية (المدرك الشكلي).
ومنذ مرحلته التعبيرية التي كرسها في معرض مهم اقامه عام 1990 في قاعة الرواق، وكان مكرسا لموضوعة الشهادة؛ كان هاشم حنون يقسم السطح التصويري الى منطقتين طوبوغرافيتين مختلفتين بدرجة قداستهما؛ مما انتج بنيتين هيكليتين متجهتين هما:
1
البنية الهيكلية العمودية (الارتفاعية) وتتألف من منطقتين طوبوغرافيتين يمكن تصورهما وفق معمارية الساعة الرملية بجزئيها: مثلث اسفل هو (مثلث الوجود الدنيوي) رمزا معادلا للوجود الدنيوي، بضمنه الموت كحقيقة دنيوية؛ بينما يمثل المثلث العلوي (مثلث الانبعاث) والخلود السماوي، وهو ما يمثل الموت كحقيقة أخروية، وتمثل نقطة التقائهما، في مركز اللوحة (باب السماء) الذي تخترقه الروح في صعودها الى الأعالي. ويمكن ان يجسد الشكل الناتج نحتيا، كما قلنا، بالساعة الرملية، حيث تترسب بقايا الجسد (التراب) ليتسامى الهواء (الروح) الى الجزء العلوي (السماء).
2
البنية الهيكلية الأفقية التي اسماها القاص محمد خضير (التضحية في وضع أفقي) التي تتضمن عدة بنى فرعية تشكلها دائما كتلة أشخاص (فكرات = أشكال) تتجه وجهة عرضية أفقية من اليمين الى اليسار دائما، وقد نجد جذورها في الفن العراقي الرافديني القديم ضمن مشاهد التقديم الكلاسيكية في الأختام الأسطوانية ،وفق (مستوى ارضي) تكون فيه حركة الشخوص رحلة دنيوية أرضية تجاه خلود ارضي نحو بناء مدينة فاضلة هي حصيلة بناء عمل اجتماعي.
3
كانت بنية الكائن الحجر، وهي مرحلة ثرية نشات من بذور تطور هام كان يجر منجز الفنان نحو (التجريد) مما شكل انتقالة باتجاه تراجع الموضوع الأدبي (النثري) بدرجة محسوسة، وترسيخ تحول البطل شيئا فشيأ الى كائن رمزي دون ملامح شخصية محددة سوى ما يوحي به من ملامح ومن تركيبة ناتجة عن مزج أهم عنصرين من عناصر التكوين هما: التراب والماء، حيث كان كائنه يتخذ شكل شواهد القبور، والحجارة القريبة من الشكل الإنساني، فتمت إعادة عكسية لتحولات الشاهدة، التي هي ناتج عنصري الماء ( وخلقنا من الماء كل شيء حي ـ الآية) و التراب (كلكم لآدم وآدم من تراب ـ الآية) فتتألف الشاهدة من عنصري (الماء + التراب)، ليتشكل منهما الطين الذي تتلبسه الروح، وتقرضه الشمس كائنا يشبه الشاهدة، أصابها الجفاف، فانفصلت عناصرها من جديد بعملية (ميثو ـ كيماوية)، ليتخلف عنها: كائن حجر، يحتل قاع اللوحة، ويرتفع الماء غيمة تسبح في الأعالي.
4
ان أيقونـــــات الفن العراقي الرافديني القديم التي ظهرت في منجز الرسام هاشم حنون هي نتاج تشبـّعه (بجينات) ذلك الفن مما ابقى النسغ الرابط بذلك الفن قويا في كل انتقالات الرسام بين التشخيص والتجريد، فكانت تجربته تتخذ أيقونات نمطية أهمها: أيقونة مناظر التقديم الكلاسيكية حيث الإله الجالس على العرش قبالة رجل يتسلم صولجان الحكم بمفرده او ضمن موكب، وأيقونة البطل المخلـّص نصف الإله كلكامش الباحث عن الخلود، وأيقونة الصعود إلى السماء حيث يرتفع الراعي (آيتانا)، وأيقونة الزقورة، وأيقونة الموكب الذي تشكله حشود من المتعبدين الواقفين مشبوكي اليدين، وأيقونة التميمة التي تسمى شعبيا (الحرز) والتي ستكون الأيقونة الأكثر أهمية في المرحلة التجريدية أواخر الثمانينات من تحولات الفنان فكانت محاولة لتحقيق اكبر اقتراب من المادة التي يشتغل عليها، عبر معالجة تقنية لأحافير اقتطعها من نسيج حائط، من قطعة جنفاص عتيقة متهرئة يلصّقها على سطح اللوحة، وربما من أي سطح صدأ ترك الزمن بصمة مكوثه الطويل عليه، او مقطع عرضي اخضع لمعاينة مجهرية وهو في فهمه للوحة، باعتبارها حقلا (سطحا) مسكونا بالأصباغ والخطوط والأشكال، يخضع لضروب شتى من تجارب الفنان الشكلية والتقنية، اكثر من كونها تكوينا، أي بمعنى آخر، ان تكون اللوحة شيئا اكثر من ان تكون تشبيها لشيء خارجها.
5
(علامات المدن): أن حيوية ما كامنة في منجز هاشم حنون، كرستها محاولته الواعية باصطفاء صور من متعرجات الواقع المرئي يوميا: من آثار، و لقى، وأحافير، وعلامات تُشاكلها صـورٌ مستثارة من ذاكـرة (معرفية) صقلـتها الخبرة، خزنت نماذج لا حصر لها من (كتابات أولى) مستمدة من أيقونات عراقية قديمة وشعبية هي (أيقونة التميمة) حيث تملأ المساحات بعناصر صورية شتى: علامات، وخطوط، ونقاط هي في حقيقتها مختزلات صورية انفصلت عن وجودها اللغوي، أو ربما سبقته وجودا، كما انفصلت احيانا عن سطح اللوحة الذي سكنته والذي يحتمل ان يكون الفنان قد اشتغله بمعزل عن كل الأشكال التي يحتمل ان تستقر فيه.
لقد أقام الفنان أربعة معارض مهمة امتدت منذ عام 1996 في بغداد (قاعة دجلة) 1998 ،وعمان 1999(قاعة الأندى) ومدن ملونة في عمان (قاعة الاندى) عام 2000 ، و فضاءات ملونة في عمان (قاعة الاورفلي) عام 2000 كانت حصيلة توجهه المتزايد مؤخرا نحو محاولة تقديم بناء لامركزي للوحة، مما اعطى منجزه طابعا غير مخطط له، ومناقضا للصرامة والقصدية التي وسمت أعماله التشخيصية طيلة السنوات الماضية؛ فكان يؤسس نظاما علاماتيا ناتجا عن بحث اركولوجي في بقايا الواقع (أثـَر الواقع) (أي نواتجه التي قد تبدو عرضية)، وما خزن الفنان في ذاكرته عن ذلك الواقع من: صور، وعلامات، ومستحثات للرؤية؛ فكانت اللوحة تؤسَّس في (معرض مدن ملونة) على بنية البساط او (المـَدّة) كما تسمى في لهجة الفرات الأوسط في العراق، وهي نوع من البسط تصنع من الصوف وتلون بألوان زاهية متعددة. ويمكن تلمس الامتلاء الواعي والاحتفاء غير المحدود بموجودات الواقع في أعماله الأخيرة.
في معرض (مدن ملونة)، وهو أهم معارضه التي أقامها في عمان كاليري الأندى عام 2001 ، تظهر علامات المدن واكتظاظها بموجوداتها وساكنيها وعابري سبيلها ليعيد بنائها من فتات قرميدها، وآثار جدرانها، طبقة فوق أخرى، بثراء لوني مدهش، واكتظاظ شكلي بكل ما جمعته الذاكرة، ليس من (علامات المدينة) وحدها بل ومخزونات مما رسمه الآخرون عنها، منذ بواكير الفن العراقي المعاصر، وحتى وقتنا الحاضر.
بقي اثر علامات الواقع (عناصر المدينة) جاثما في معرض قاعة دجلة 1996، فاللوحة يملؤها معراج حشود مدينية من سيول عارمة من الرموز والأشياء والشفرات والمتاهات ،فاللوحة تبنى بشكل مسرب لوني يشقها طوليا يملؤه نثار من ألوان واشارات وشخوص ،وما عنّ للذاكرة ان تلقي، حشد مكتظ تكتسحه قوة إعصارية ترفعه من قاع اللوحة الى الأعالي، بينما حفلت أعماله في معرضه (قاعة الأندى) باستقرار وركود وحزن سوداوي، تملأ سطح اللوحة أشباح البشر السوداء، وهي ترقب بعضها بعضا ،وترنو المشاهد بنظرة صمت كئيب؛ فكانت أشكال الواقع تنتصر في بعض أعماله، بينما ترتد لصالح أشكال الذاكرة في أخرى. ولكنها أبدا تعيد أبنيتها ومدنها وفق الخرائط الهيكلية الأولى وكأنها قدر كتبه هاشم حنون على نفسه وظل وفيا له !.
قدم هاشم حنون في معرضه (مدن ترابية) في قاعة حوار عام 1995، معمارا لمــدن متــــاريــــــس اتسمت بالاختزالية التي عاد اليها هاشم حنون بعد سنوات؛ فاستعاد منها ما اعتقده يصلح للمرحلة الحاضرة من رسم!!: المخربشات، وآثار الجدران، والخروق، والحروق، والكتابات الطباعية، وجنفاص المتاريس في جبهات الحروب السابقة وفي شوارع مدينته البصرة التي كانت تملؤها المتاريس، وكأنه بذلك يستعيد أجواء الحرب، والحزن، والخراب، والضياع ذاتها، تلك التي كان يمرّ بها العراق وقتها، والتي يمرّ في أجواء لا تقل عنها قسوة اليوم؛ فطوال سنوات غربته, كان هاشم حنون يحاول تفعيل ذاكرته فكان دائم البحث الأركولوجي لمحتوياتها، وما اختزن فيها من صور, وتماما كما أسس محمد خضير بنى و فضاءات مدينته بصرياثا, يحاول هاشم حنون أن يرتـّق الصورة الغائمة لها ليس بهدف الوصول إلى الكيان الفيزيائي المجرد (= الكيان العضوي) بل بهدف التعشق مع الكيان الروحي لذلك المكان (= المكان المتخيل انه لا يهدف إلى كتابة سيرة للمدينة، بل كتابة سيرته الذاتية في المدينة, فما يهمه درجة مطابقة اجواء المكان لداخليته هو, أي لأحلامه وتخيلاته, كما يقول فاروق يوسف، فلم يعد يتذكر مدينته إلا عبر لازمة معتمة يلفها السخام الذي تخلفه الحرائق، والجثث، والأشجار، وأكياس الرمل التي اخترقتها الشظايا.
لقد نوهنا بوجود بعض التجارب الفرعية التي ظهرت كمراحل سريعة ضمن تجربة هاشم حنون ومنها:
6
المكعبات التي كتب عنها الكاتب هاشم تايه.
7
تجربة المدن السبع التي كتب عنها الكاتب صدام الجميلي.
8
اعدنا المجسمات الخمسة التي شكلت مجموعة اعمال استثنائية عرضها الرسام في موقعه على الانترنت وفي معرضه الاخير (مسلات الطين 2004)، كما اعاد اعماله الاولى الى جذر ميثولوجي مشترك بعيد هو: الحجارة والقداسة اولا، ثم انتهى ذلك التشاكل الصوري الى حرائق المدن التي استوطنت ذاكرته طوال سنوات الحروب التي مرت بها مدينته البصرة، ومر بها شخصيا ثانيا، فامتلأت اللوحة بطبقات حزن كثيف، وأشباح سوداء من البشر، وهي ترقب بعضها بعضا، وترنو المشاهد بنظرة صمت كئيب وبذلك لا يختزل هاشم حنون تاريخ المدن التي وطأتها قدمه فقط ، بل وتاريخ الرسم العراقي و (المديني) منه بشكل خاص!.
يختفي الضوء من مدينته الحجرية هذه، فتختفي الشمس .. ويهيمن الظلام الاسود الفاحم بقوة.. فتكون المشهد في (مسلات الطين 2004) من مهيمنتين: الطابع الحجري حيث الطين الجاف او المفخور، والوجود البشري (حيث: المدن، المسلة، الكتابة، التاريخ، المدونات، آثار الناس والعابرين)، فكانت مزيجا من: المدن الملونة التي عايشها هاشم حنون في صباه، والمدن الحرائق التي افنى شبابه في حرائقها، والمدن الحجر التي انتهى اليها مقيما في عمان الان.
9
لغة الجسد
لقد صنفنا هاشم حنون باعتباره رساما تعبيريا حتى في اشد حالاته غلوا تجريديا، فقد اعتمد هذا الرسام اختزال أشكال المشخصات وليس تأسيس رسم لاشكلي أو غير مشخّص، وبذلك فقد كان يعتمد الجسد الإنساني باعتباره منتجا للدلالة وللتواصل عبر استنطاق أعضاء الجسد ذاته أو امتداداته، فكان هذا الرسام، ومنذ أولى مشاركاته في معارض العاصمة العراقية، قد اتخذ الجسد كلا متكاملا كـ(ـمهيمنة شكلية) يؤسس عليها معمار لوحاته، جاعلا أعماله تلك مشبعة بإيماءات الجسد الإنساني من خلال ما تم التموضع عليه اجتماعيا من دلالات، وذلك يصدق عليه منذ لوحته (الأولى) التي تم اقتناؤها، والتي أطراها جميع من كتبوا عن بدايات هاشم حنون، ونعني بها لوحة الشهيد التي كانت تصور الجسد المسجى الذي تحيط به النسوة الناحبات، فكان يوظف إيماءة ذلك الجسد الإنساني.
كان احترام الجسد الإنساني دالة كبيرة في أعمال هاشم حنون المبكرة باعتبار ذلك الجسد موطنا للقداسة، رغم تعرضه للامتهان عند القتل، وذلك هو السبب القوي الذي جعل الرسام يعود إلى لوحات صلب المسيح ليتخذها هدفا للتناص في رسم أعماله التي تناولت موضوعة الشهادة، والتي كان الجسد الإنساني فيها هدفا تستوطنه الآلام ولكن تتجسد فيه القداسة في نهاية المطاف.
لقد كرس هاشم حنون هذه الهندسة الشكلية واللونية والدلالية طوال عقدين من الزمن، لم يبتعد فيها أحيانا عن تناول الجسد باعتباره المكان الذي تمارس فيه أبشع جرائم البشر ضد أنفسهم إلا ويعود إليه سريعا بفعل الغربة، وأوضاع العراق التي لم تتبدل منذ حرب الخليج الأولى وحتى وقتنا الحاضر، فامتلأت نفسه بالحزن، والغم على بلده الذي احترق، وما زالت حرائقه مستعرة، فكانت عناصر لوحاته الأولى تختفي يوما لتظهر يوما آخر، ولتبلغ أقسى تمظهراتها من خلال تلك البقايا المادية لأجساد العراقيين: لبقاياهم التي لا تعدو أن تكون خرقا أو أشلاء أجساد محترقة، أو بقايا قطع جنفاص المواضع المحترقة التي ملأت المدن وهي تستعد للحظة الحرب، أو بقايا الآثار التي خلفتها الحرب الطويلة التي مرت بها مدينته البصرة، المدينة التي ولد وعاش فيها الرسام سنوات حياته الأولى، المدينة التي طالما اجتاحها الغزاة وموجات الطاعون على مر التاريخ.
10
في تخطيطاته يتخذ الرسام لوحاته الملونة كبنية يقيم عليها تجربة تخطيطاته، فتحت عنوان (التخطيطات التي تملؤها الانقطاعات.. والفجوات اللونية) قلنا انها عائدة الى فعل التفكير (بطريقة ملونة) ، الذي ظل جاثما على الرسام حينما انجز تخطيطاته، فكانت صفحتها ميدانا لاشتغال الفجوة التي يصفها محمد خرماش بأنها "البياضات والفراغات والانقطاعات الموجودة عنوة في النص، والتي تسمح للقارئ بالتدخل بهدف ملئها، ولذلك يسميها إيزر (الفراغ الباني) وهي ما تشمل: الانفكاكات التي تدعو القارئ إلى وصلها، وإمكانية الانتفاء التي تدعو إلى التعصب ضد بعض ما يقدمه النص كحقائق أو مسلمات، وتحفز القارئ على التفكير والبحث عن التلاؤم وإيجاد الوضعية المشتركة... فالمعنى ينبني وفق قوانين تؤسس في غمار القراءة... التي تثير الانتباه إلى الأصل المخفي أوالعناصرالغائبة... وأن القارئ ... يجد فرصته في البياضات أو مواقع اللاتحديد التي يهيؤها النص ويتدخل، كشريك للمؤلف، في تشكيل المعنى. وهذا التدخل يكون بالعمل على سد الثغرات وتكوين الحقل المرجعي وتحويل مواقع اللاتحديد"، وتتحقق جغرافية هذه البياضات في تخطيطات هاشم حنون في الفراغ الناشئ من غياب اللون مما يعني انها مفهوم (بصَََري) بشكل يجعل ملء هذه الفجوات البصَرية (اللونية) هي الفاعلية الأهم التي يهيؤها الرسام هاشم حنون في تخطيطاته، والتي هي اهم فعالية مطلوبة من القارئ في تلقـّي هذه التخطيطات؛ وبذلك تكون هذه الفجوة خرقا، او احداثا لخلخلة في الوئام الطبيعي الذي يلف لوحات هاشم حنون الملونة؛ انه يخلق ذات الفجوة التي يصنعها التي يشتغل عليها رسامون اخرون بطريقة معاكسة؛ فبينما يرسم الاخرون لوحاتهما الزيتية بروح تخطيطية يشكل اللون فيها عنصرا مضافا او فائضا عن الحاجة بدرجة ما؛ يغير هاشم حنون المعادلة فيرسم تخطيطاته بروح اللوحة الزيتية ويكون الخط هو ذلك العنصر المضاف.
ان الفجوة التي يتخذها هاشم حنون استراتيجا ثابتا في بناء تخطيطاته، مفهوم شيئي (متيريالي او ملموس)، وان ملء هذه الفجوات هو فاعلية يقوم بها المتلقي، لذا فهي فاعلية تشمل اللوحة والمتلقي معا، وعلى الاخير ان يستند في ذلك على مخزوناته من الخبرة السابقة.
(هاشم حنون ... تحولات الواقعة الشيئية) بعنوان:
الصورة في الشعر والرسم..
(هاشم حنون ... تحولات الواقعة الشيئية)
ان النصين: اللغوي والبصري هما حقلان مختلفان في وسائل التعبير وفي المقاربات النقدية، إلا ان لهما مشتركا عاما هو ثنائية الصورة بنمطيها: الصورة الشعرية بصفتها استعارة بصرية والصورة البصرية باعتبارها واقعة مجاز واستعارة بلاغية، وهي علاقة تتمحور بين طرفين هما: الصورة البصرية طرفا، والمجاز الشعري طرفا آخر باعتبارهما طرفي القضية، أو شكلي تمظهرهما، بين الصورة (بمعنى العلامة البصرية) وبين الصورة في اللغة المنطوقة، من خلال تعاكس مرآوي بين طرفي هذه الثنائية، وهذه الآلية كرس فرانكلين ر. روجرز مؤلف كتاب (الشعر والرسم ( والكاتب العراقي شاكر لعيبي بعده اهتمامهم لها باعتبارها الآلية الأكثر فاعلية لدراسة (الصورة البصرية) و (الصورة الشعرية) من خلال عملية التشاكل الصوري بين مشخصات الواقع مع بعضها، وهي عملية تتضمن شيئا مما كان يفهم به بعض البلاغيين العرب للمجاز و(الصورة البصرية) بأنه "فكرة (المشابهة) بين دالين"، و"إقامة مماثلة بين أمرين أو أكثر اشتراكها في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود"، وهي قد لا تختلف كثيرا عن فهم الصورة البصرية بأنها امتزاج بين (حقلين صوريين).
1
رؤية فرانكلين ر. روجرزفي كتابه (الشعر والرسم)
1. هنالك تقسيم نال قبولا متزايدا منذ أيام لسنغ وهو ان:
الفن انطباعات بصرية بينما ينطوي الأدب على تتابعات حكائية
الاستعارة ظاهرة بصرية مكانية
2. منطقة التخوم هي الصورة:
الشعرية (الأدب) ----- الصورة ------البصرية (الفـــــن)
3. الصلة بين الرسم والشعر في ادبيات مبدعي كلا الفنين:
· هناك كتاب لهوراس عنوانه (الشعر هو التصوير)
· "الرسم هو الشعر، وهو دائما يكتب على شكل قصيدة ذات قافية تشكيلية، وهو لا يكتب بالنثر ابدا" (بيكاسو)
· "ان قوانين الشعر هي قوانين الرسم ذاتها" (انطون كابيل)
· "الرسم شعر صامت والشعر رسم ناطق" (سيموندز)
· "الرسم شعر يرى ولا يسمع، والشعر رسم يسمع ولا يرى" (ليوناردو دافنشي)
· "ينبغي للكاتب ان يكتب بعينيه والرسام ان يرسم بأذنيه"
· "على الشاعر ان يكون قادرا على التفكير بالصور" (سبندر)
· "ان الحدة البصرية هي جوهر الشعر" (روبرت غريفز)
4. رؤية فرانكلين ر. روجرز:
· لاحظ ر. روجرز في كتابه (الشعر والرسم، بغداد، 1990) "ان تكوين الصورة الفنية هو اندماج صورتين لتكوين تركيبة" (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 97) وهو ما يسمى بـ(الادراك الحسي التحولي) و(الاندماج الصوري) بحثا عن (الصور الشبيهة بالمادة الجوهرية) (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 86)
· ولاحظ ايضا ان رسوم الكهوف هي مزاوجة (تشاكل صوري) بين نتوءات الكهف وصورة حيوان البيزون (= صورة الذهن)، وهو ما يعرف بتقنية المتعرجات menders وتقنية الاشارات العشوائية التي كان يطبقها الرسام ماكس ارنست في تقنية المفروكات frottage ، والطبيب الالماني روشاخ في بقعته الشهيرة، وسلفادور دالي وحتى دافنشي الذي نصح بها في كتاباته كعلاج اجفاف المخيلة، وقد رفعت حركة الرسم الحدثي tachisme او action painting .
· "ان (حقل المتعرجات) يؤسس الشروط اللازمة من اجل ايجاد الاشكال ثم تطويرها بضربات اضافية يسيطر عليها بصورة اكثر تعمدا" (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 34) حيث "تندمج المرحلة التحولية على نحو يكون غير واع، في المرحلة الماسخة للشكل وذلك هو النصف الأول من مقولة جورج براك (الحواس تمسخ الشكل والعقل يصوغه)..." (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 37)
· "ان جزئيات الشكل حين تجرد من الشيء المستوعب، لابد الان ان تجتمع ثانية مع عناصر اخرى من صورة الذاكرة من اجل تكوين الصورة الفنية" (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 37).
· لقد اكد باشلار بانه "اذا لم يحدث أي تغيير في الصور، او اتحاد غير متوقع في الصور، فليس هنا أي تخييل، وليس هناك اية عملية تخييلية"
· اذن فان "صورة الذاكرة عند الفنان هي العامل الحاسم في تحول الشيء المستوعب الى صورة فنية: ان مسخ الشكل وصياغته، وتغيير الصور واتحادها غير المتوقع يتحقق عن طريق ذاكرة الصورة" (فرانكلين ر. روجرز، الشعر والرسم، بغداد، 1990،ص 38)
· وقد افترضنا انه ليس شرطا ان تتطابق علامات الذهن مع علامات الواقع بل قد تتطابق مع علامات الفن وهو ما اسميته (قانو مالرو)، فالفنان يمتلك داخل نفسه ايضاحا للشيئ عميقا في نفسه، وهو ما يسميه بيكاسو "فكرة الشيء التي تركت بصمة لا تمحى" بعد ان تكون قد ترسخت في ذهن الرسام هاشم حنون بشكل (بنى هيكلية متجهة) او (بنى شكلية طوبولوجية) او ما يسميها الخبير بالفن الاسلامي الكسندر بابادوبولو (بالهيكل الرياضي) وأسماها الناقد شاكر حسن آل سعيد تلك البنية الخفية (المدرك الشكلي) فتتكون "الصورة الفنية ... من صورة مركبة ناتجة من اندماج عناصر الشكل القابلة للتحول في الصورة المستوعبة بعناصر الشكل القابلة للتحويل في صورة الذاكرة... "، حيث "ان الشكلي (او النمطي) للبيئة المستوعبة تندمج مع العناصر الجوهرية للعالم الداخلي، عالم الكينونة" (اوكونور).
2
رؤية شاكر لعيبي في كتابه (بلاغة اللغة الايقونية...الصورة بوصفها بلاغة)
منذ عنوان كتابه كان المؤلف (يداور) بين (طرفي) الصورة، بين الصورة البصرية كطرف، والمجاز الشعري طرفا آخر لاعتبارهما طرفي القضية، أو شكلي تمظهرهما؟ بين الصورة (بمعنى العلامة البصرية) وبين الصورة في اللغة المنطوقة، فهو يؤسس عنوانه على ثنائي الصورة (البصرية) مقابل اللغة المنطوقة، فيبين عنوان كتابه على تعاكس مرآوي بين طرفي هذه الثنائية، تقديماً وتأخيراً بين طرفيها، (مداورة) ودونما تصريح "بلاغة اللغة الأيقونية... الصورة بوصفها بلاغة" وبذلك فهو يدلل منذ العنوان بأنه: أولاً، يقف ضمن الاتجاه السيميولوجي الذي يعتبر السيميولوجيا جزءا من اللسانيات حينما يؤكد منذ السطر الأول في الكتاب على ذلك "ما زالت اللغة المنطوقة على ما يبدو ضرورة في قراءة اللغة البصرية" ، إلا أنه لا يكتفي بذلك فهو، ومنذ الصفحة الثانية (في النص)، المرقمة (6) بالتسلسل العام للكتاب يكتشف مقاصده بإيجاد آلية مرحّلة من اللغة إلى حقل الصورة البصرية، تلك الآلية التي هي الاستعارة او المجاز والتي تتضمن معنى (الانحراف)، وبذلك فهو يستعيد ذات الآلية الني كرس لها مؤلفا كتاب (الشعر والرسم) اهتمامهما لها باعتبارها الآلية الأكثر فاعلية لدراسة (الصورة الشعرية)، وهي وجود حقلي استعارة يتشاكلان صوريا لانتاج الصورة، وبذلك فإننا نتقل إلى مستوى أعمق من قضية استنطاق العلاقات بذاتها، او استنطاقها بمعونة اللغة المنطوقة. ويبدو المؤلف وكأنه قد شعر بالخوف من ان يوجس القراء في أنفسهم ريبة فيؤكد "عندما يتعلق الأمر بالبلاغة الصورية، لا يتعلق الأمر، بحال من الأحوال، بعمل تلفيقي، ولا باستجلاب قسري لمصطلحات حقل إلى حقل مختلف، ولا بتقويل البصري ما تقوله البلاغات اللفظية" والسبب برأي المؤلف يتعلق "بامتلاك البصري، بطبعه أصلاً، بلاغة تأويليه ومجازات تتماس مع المجازات اللفظية المعهودة" ويماثل المؤلف بين المجاز اللغوي والصورة البصرية هنا في قوله "ان المجازات اللفظية هي ( انحراف متعمد) للغة عن استخدامها القاموسي... والصورة image بطبعها تتضمن شيئاً يمكن ان يوصف بالمجازي طالما ان فيها موضوعاً غائباً فعلياً لكنه حاضر دلالياً: لوجود الغائب" لذلك فهو يستنتج ان "المهم في الصورة ليس ما يحضر فيها ولكن ما يغيب" ونحن ربما تختلف معه في إعطاء الأهمية (لما يغيب) من الصورة، فأن ذلك سيؤدي إلى نقل الصورة من اعتبارها (واقعة شيئية) من خلال عناصرها الشيئية إلى معاملتها باعتبارها موضوعاً سردياً وفي ذلك تخسر الصورة جزءا من وجودها الشيئي.
يعيب شاكر لعيبي على بعض البلاغيين العرب لتبسيطهم للمجاز بأنه "فكرة (المشابهة) بين دالين"، الا ان فكرة التشاكل الصوري بين (حقلين صوريين) لا تختلف كثيراً عن محاولة تصنيف المجازات الايقونية التي أجراها المؤلف والتي اعتبر فيها دروس البلاغة "تقدم بضعة مفهومات مفيدة عن مفهوم التشبيه" وكانت تلك المفهومات لا تعدو ان تكون ذاتها التي اعتبرها تبسيطاً للقضية وهي " إقامة مماثلة بين أمرين أو أكثر قصد اشتراكها في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود" بينما يؤكد في الوقت ذاته أن "في اللغة الأيقونية نجد تماثلات بين أمرين مرئيين بسبب اشتراكهما في صفة أو أكثر بأداة لغرض مقصود" بينما يؤكد في الوقت ذاته ان "في اللغة الايقونية نجد تماثلات بين أمرين مرئيين بسبب اشتراكهما في صفة أو أكثر" وبذلك سنعود إلى المربع الأول وهو ان (التشاكل الصوري) عند مؤلفي كتاب (الشعر والرسم) والى غيرها من المفهومات التي تدرس الصورة الشعرية من خلال الصورة البصرية وهي ذاتها التي نجدها هنا حيث يحاول شاكر لعيبي ان يدرس الصورة البصرية من خلال مجاز الصورة الشعرية، أي استخدام المفهومات ذاتها، وبذلك تتحقق ذات البنية الدورانية والمرآوية جيئة وذهاباً بين ان تكون أولاهما أصلاً للثانية، وثانيهما، في الوقت ذاته، أصلاً للأولى، وفي كلتا الحالتين نجد سبباً قوياً لهما يربط الشعر بالرسم من خلال نقطة الالتقاء هي الصورة بنمطيها البصري والشعري.
يستند المؤلف على ما قاله "الفلاسفة المناطقة المسلمين بأغتراف الشعر والتصوير كليهما من (التشبيه)، والمراد بذلك هو سعي الفنين لمحاكاة الطبيعة وهذه هي فكرة ارسطرطاليسية عن جدارة". ويستشهد المؤلف بقول الفارابي عن العلاقة بين الشعر والصورة البصرية، "ان فعليهما جميعا التشبيه، وغرضهما إيقاع المحاكيات" ويستشهد بأقوال أخرى لابن سينا وابن رشد وأخوان الصفا والجرجاني، وكلها "نصوص تشدد بشكل رئيسي على مشكلة المحاكاة المختصرة إلى مصطلح بلاغي سائد في المجاز العربي وهو التشبيه".
3
الترسيمة المشتركةللصورة
الصورة
الشعرية
البَصَرية
منطقة التشاكل الصوري
حقل صوري 1
حقل صوري 2
"الديك بوق الصباح" شكسبير
منطقة التشاكل الصوري
صورة الجدار
(نتوءات جدارالكهف)
صورة الذاكرة لحيوان البيزون
منطقة التشاكل الصوري
صور الفن المهيمنة في عصر ما
صورة الذاكــــرة
(البنى الشكلية الطوبولوجية الخفية) اسماه الكسندر بابا دوبولو:
الهيكل الرياضي
سمات الاسلوب الشخصي
4
نموذجنا التطبيقي في كتابنا
هاشم حنون ... تحولات الواقعة الشيئية
لقد تابعنا مراحل تحولات تجربة هاشم حنون في الرسم ، وعلى مر سنوات طويلة...
فتحت عنوان متجهات أسطورية، افترضنا وجود (بنى شكلية طوبولوجية) خفية حتى عن وعي الرسامين أنفسهم، يقيمون عليها هندسة لوحاتهم، وحدد واحدا من أهداف الناقد بالوصول إلى (الكمية الممثولة) وهي مرحلة وسطى بين الملموس والمجرد، بين الهندسي (الهندسة) والتجريدي (الرياضيات) حيث لا مناص من الانتقال من الصورة الى الشكل الهندسي ثم منه إلى التجريدي ….حيث تحل محل الصور الأشكال الهندسية المناسبة، ومن ثم العودة ثانية من التجريدي إلى التعبيري عبر الهندسي (أي من الرياضي إلى الأيقوني فالصوري) بواسطة لغة التمثل والتصور والتحليل النقدي. وقد سبق للخبير بالفن الإسلامي الكسندر بابا دوبولو ان أسمى هذه البنى السرية (بالهيكل الرياضي) التي كان يقيم عليها الرسام الإسلامي يحيى بن محمود الواسطي أعماله في الرسم. وأسماها الناقد شاكر حسن آل سعيد تلك البنية الخفية (المدرك الشكلي).
ومنذ مرحلته التعبيرية التي كرسها في معرض مهم اقامه عام 1990 في قاعة الرواق، وكان مكرسا لموضوعة الشهادة؛ كان هاشم حنون يقسم السطح التصويري الى منطقتين طوبوغرافيتين مختلفتين بدرجة قداستهما؛ مما انتج بنيتين هيكليتين متجهتين هما:
1
البنية الهيكلية العمودية (الارتفاعية) وتتألف من منطقتين طوبوغرافيتين يمكن تصورهما وفق معمارية الساعة الرملية بجزئيها: مثلث اسفل هو (مثلث الوجود الدنيوي) رمزا معادلا للوجود الدنيوي، بضمنه الموت كحقيقة دنيوية؛ بينما يمثل المثلث العلوي (مثلث الانبعاث) والخلود السماوي، وهو ما يمثل الموت كحقيقة أخروية، وتمثل نقطة التقائهما، في مركز اللوحة (باب السماء) الذي تخترقه الروح في صعودها الى الأعالي. ويمكن ان يجسد الشكل الناتج نحتيا، كما قلنا، بالساعة الرملية، حيث تترسب بقايا الجسد (التراب) ليتسامى الهواء (الروح) الى الجزء العلوي (السماء).
2
البنية الهيكلية الأفقية التي اسماها القاص محمد خضير (التضحية في وضع أفقي) التي تتضمن عدة بنى فرعية تشكلها دائما كتلة أشخاص (فكرات = أشكال) تتجه وجهة عرضية أفقية من اليمين الى اليسار دائما، وقد نجد جذورها في الفن العراقي الرافديني القديم ضمن مشاهد التقديم الكلاسيكية في الأختام الأسطوانية ،وفق (مستوى ارضي) تكون فيه حركة الشخوص رحلة دنيوية أرضية تجاه خلود ارضي نحو بناء مدينة فاضلة هي حصيلة بناء عمل اجتماعي.
3
كانت بنية الكائن الحجر، وهي مرحلة ثرية نشات من بذور تطور هام كان يجر منجز الفنان نحو (التجريد) مما شكل انتقالة باتجاه تراجع الموضوع الأدبي (النثري) بدرجة محسوسة، وترسيخ تحول البطل شيئا فشيأ الى كائن رمزي دون ملامح شخصية محددة سوى ما يوحي به من ملامح ومن تركيبة ناتجة عن مزج أهم عنصرين من عناصر التكوين هما: التراب والماء، حيث كان كائنه يتخذ شكل شواهد القبور، والحجارة القريبة من الشكل الإنساني، فتمت إعادة عكسية لتحولات الشاهدة، التي هي ناتج عنصري الماء ( وخلقنا من الماء كل شيء حي ـ الآية) و التراب (كلكم لآدم وآدم من تراب ـ الآية) فتتألف الشاهدة من عنصري (الماء + التراب)، ليتشكل منهما الطين الذي تتلبسه الروح، وتقرضه الشمس كائنا يشبه الشاهدة، أصابها الجفاف، فانفصلت عناصرها من جديد بعملية (ميثو ـ كيماوية)، ليتخلف عنها: كائن حجر، يحتل قاع اللوحة، ويرتفع الماء غيمة تسبح في الأعالي.
4
ان أيقونـــــات الفن العراقي الرافديني القديم التي ظهرت في منجز الرسام هاشم حنون هي نتاج تشبـّعه (بجينات) ذلك الفن مما ابقى النسغ الرابط بذلك الفن قويا في كل انتقالات الرسام بين التشخيص والتجريد، فكانت تجربته تتخذ أيقونات نمطية أهمها: أيقونة مناظر التقديم الكلاسيكية حيث الإله الجالس على العرش قبالة رجل يتسلم صولجان الحكم بمفرده او ضمن موكب، وأيقونة البطل المخلـّص نصف الإله كلكامش الباحث عن الخلود، وأيقونة الصعود إلى السماء حيث يرتفع الراعي (آيتانا)، وأيقونة الزقورة، وأيقونة الموكب الذي تشكله حشود من المتعبدين الواقفين مشبوكي اليدين، وأيقونة التميمة التي تسمى شعبيا (الحرز) والتي ستكون الأيقونة الأكثر أهمية في المرحلة التجريدية أواخر الثمانينات من تحولات الفنان فكانت محاولة لتحقيق اكبر اقتراب من المادة التي يشتغل عليها، عبر معالجة تقنية لأحافير اقتطعها من نسيج حائط، من قطعة جنفاص عتيقة متهرئة يلصّقها على سطح اللوحة، وربما من أي سطح صدأ ترك الزمن بصمة مكوثه الطويل عليه، او مقطع عرضي اخضع لمعاينة مجهرية وهو في فهمه للوحة، باعتبارها حقلا (سطحا) مسكونا بالأصباغ والخطوط والأشكال، يخضع لضروب شتى من تجارب الفنان الشكلية والتقنية، اكثر من كونها تكوينا، أي بمعنى آخر، ان تكون اللوحة شيئا اكثر من ان تكون تشبيها لشيء خارجها.
5
(علامات المدن): أن حيوية ما كامنة في منجز هاشم حنون، كرستها محاولته الواعية باصطفاء صور من متعرجات الواقع المرئي يوميا: من آثار، و لقى، وأحافير، وعلامات تُشاكلها صـورٌ مستثارة من ذاكـرة (معرفية) صقلـتها الخبرة، خزنت نماذج لا حصر لها من (كتابات أولى) مستمدة من أيقونات عراقية قديمة وشعبية هي (أيقونة التميمة) حيث تملأ المساحات بعناصر صورية شتى: علامات، وخطوط، ونقاط هي في حقيقتها مختزلات صورية انفصلت عن وجودها اللغوي، أو ربما سبقته وجودا، كما انفصلت احيانا عن سطح اللوحة الذي سكنته والذي يحتمل ان يكون الفنان قد اشتغله بمعزل عن كل الأشكال التي يحتمل ان تستقر فيه.
لقد أقام الفنان أربعة معارض مهمة امتدت منذ عام 1996 في بغداد (قاعة دجلة) 1998 ،وعمان 1999(قاعة الأندى) ومدن ملونة في عمان (قاعة الاندى) عام 2000 ، و فضاءات ملونة في عمان (قاعة الاورفلي) عام 2000 كانت حصيلة توجهه المتزايد مؤخرا نحو محاولة تقديم بناء لامركزي للوحة، مما اعطى منجزه طابعا غير مخطط له، ومناقضا للصرامة والقصدية التي وسمت أعماله التشخيصية طيلة السنوات الماضية؛ فكان يؤسس نظاما علاماتيا ناتجا عن بحث اركولوجي في بقايا الواقع (أثـَر الواقع) (أي نواتجه التي قد تبدو عرضية)، وما خزن الفنان في ذاكرته عن ذلك الواقع من: صور، وعلامات، ومستحثات للرؤية؛ فكانت اللوحة تؤسَّس في (معرض مدن ملونة) على بنية البساط او (المـَدّة) كما تسمى في لهجة الفرات الأوسط في العراق، وهي نوع من البسط تصنع من الصوف وتلون بألوان زاهية متعددة. ويمكن تلمس الامتلاء الواعي والاحتفاء غير المحدود بموجودات الواقع في أعماله الأخيرة.
في معرض (مدن ملونة)، وهو أهم معارضه التي أقامها في عمان كاليري الأندى عام 2001 ، تظهر علامات المدن واكتظاظها بموجوداتها وساكنيها وعابري سبيلها ليعيد بنائها من فتات قرميدها، وآثار جدرانها، طبقة فوق أخرى، بثراء لوني مدهش، واكتظاظ شكلي بكل ما جمعته الذاكرة، ليس من (علامات المدينة) وحدها بل ومخزونات مما رسمه الآخرون عنها، منذ بواكير الفن العراقي المعاصر، وحتى وقتنا الحاضر.
بقي اثر علامات الواقع (عناصر المدينة) جاثما في معرض قاعة دجلة 1996، فاللوحة يملؤها معراج حشود مدينية من سيول عارمة من الرموز والأشياء والشفرات والمتاهات ،فاللوحة تبنى بشكل مسرب لوني يشقها طوليا يملؤه نثار من ألوان واشارات وشخوص ،وما عنّ للذاكرة ان تلقي، حشد مكتظ تكتسحه قوة إعصارية ترفعه من قاع اللوحة الى الأعالي، بينما حفلت أعماله في معرضه (قاعة الأندى) باستقرار وركود وحزن سوداوي، تملأ سطح اللوحة أشباح البشر السوداء، وهي ترقب بعضها بعضا ،وترنو المشاهد بنظرة صمت كئيب؛ فكانت أشكال الواقع تنتصر في بعض أعماله، بينما ترتد لصالح أشكال الذاكرة في أخرى. ولكنها أبدا تعيد أبنيتها ومدنها وفق الخرائط الهيكلية الأولى وكأنها قدر كتبه هاشم حنون على نفسه وظل وفيا له !.
قدم هاشم حنون في معرضه (مدن ترابية) في قاعة حوار عام 1995، معمارا لمــدن متــــاريــــــس اتسمت بالاختزالية التي عاد اليها هاشم حنون بعد سنوات؛ فاستعاد منها ما اعتقده يصلح للمرحلة الحاضرة من رسم!!: المخربشات، وآثار الجدران، والخروق، والحروق، والكتابات الطباعية، وجنفاص المتاريس في جبهات الحروب السابقة وفي شوارع مدينته البصرة التي كانت تملؤها المتاريس، وكأنه بذلك يستعيد أجواء الحرب، والحزن، والخراب، والضياع ذاتها، تلك التي كان يمرّ بها العراق وقتها، والتي يمرّ في أجواء لا تقل عنها قسوة اليوم؛ فطوال سنوات غربته, كان هاشم حنون يحاول تفعيل ذاكرته فكان دائم البحث الأركولوجي لمحتوياتها، وما اختزن فيها من صور, وتماما كما أسس محمد خضير بنى و فضاءات مدينته بصرياثا, يحاول هاشم حنون أن يرتـّق الصورة الغائمة لها ليس بهدف الوصول إلى الكيان الفيزيائي المجرد (= الكيان العضوي) بل بهدف التعشق مع الكيان الروحي لذلك المكان (= المكان المتخيل انه لا يهدف إلى كتابة سيرة للمدينة، بل كتابة سيرته الذاتية في المدينة, فما يهمه درجة مطابقة اجواء المكان لداخليته هو, أي لأحلامه وتخيلاته, كما يقول فاروق يوسف، فلم يعد يتذكر مدينته إلا عبر لازمة معتمة يلفها السخام الذي تخلفه الحرائق، والجثث، والأشجار، وأكياس الرمل التي اخترقتها الشظايا.
لقد نوهنا بوجود بعض التجارب الفرعية التي ظهرت كمراحل سريعة ضمن تجربة هاشم حنون ومنها:
6
المكعبات التي كتب عنها الكاتب هاشم تايه.
7
تجربة المدن السبع التي كتب عنها الكاتب صدام الجميلي.
8
اعدنا المجسمات الخمسة التي شكلت مجموعة اعمال استثنائية عرضها الرسام في موقعه على الانترنت وفي معرضه الاخير (مسلات الطين 2004)، كما اعاد اعماله الاولى الى جذر ميثولوجي مشترك بعيد هو: الحجارة والقداسة اولا، ثم انتهى ذلك التشاكل الصوري الى حرائق المدن التي استوطنت ذاكرته طوال سنوات الحروب التي مرت بها مدينته البصرة، ومر بها شخصيا ثانيا، فامتلأت اللوحة بطبقات حزن كثيف، وأشباح سوداء من البشر، وهي ترقب بعضها بعضا، وترنو المشاهد بنظرة صمت كئيب وبذلك لا يختزل هاشم حنون تاريخ المدن التي وطأتها قدمه فقط ، بل وتاريخ الرسم العراقي و (المديني) منه بشكل خاص!.
يختفي الضوء من مدينته الحجرية هذه، فتختفي الشمس .. ويهيمن الظلام الاسود الفاحم بقوة.. فتكون المشهد في (مسلات الطين 2004) من مهيمنتين: الطابع الحجري حيث الطين الجاف او المفخور، والوجود البشري (حيث: المدن، المسلة، الكتابة، التاريخ، المدونات، آثار الناس والعابرين)، فكانت مزيجا من: المدن الملونة التي عايشها هاشم حنون في صباه، والمدن الحرائق التي افنى شبابه في حرائقها، والمدن الحجر التي انتهى اليها مقيما في عمان الان.
9
لغة الجسد
لقد صنفنا هاشم حنون باعتباره رساما تعبيريا حتى في اشد حالاته غلوا تجريديا، فقد اعتمد هذا الرسام اختزال أشكال المشخصات وليس تأسيس رسم لاشكلي أو غير مشخّص، وبذلك فقد كان يعتمد الجسد الإنساني باعتباره منتجا للدلالة وللتواصل عبر استنطاق أعضاء الجسد ذاته أو امتداداته، فكان هذا الرسام، ومنذ أولى مشاركاته في معارض العاصمة العراقية، قد اتخذ الجسد كلا متكاملا كـ(ـمهيمنة شكلية) يؤسس عليها معمار لوحاته، جاعلا أعماله تلك مشبعة بإيماءات الجسد الإنساني من خلال ما تم التموضع عليه اجتماعيا من دلالات، وذلك يصدق عليه منذ لوحته (الأولى) التي تم اقتناؤها، والتي أطراها جميع من كتبوا عن بدايات هاشم حنون، ونعني بها لوحة الشهيد التي كانت تصور الجسد المسجى الذي تحيط به النسوة الناحبات، فكان يوظف إيماءة ذلك الجسد الإنساني.
كان احترام الجسد الإنساني دالة كبيرة في أعمال هاشم حنون المبكرة باعتبار ذلك الجسد موطنا للقداسة، رغم تعرضه للامتهان عند القتل، وذلك هو السبب القوي الذي جعل الرسام يعود إلى لوحات صلب المسيح ليتخذها هدفا للتناص في رسم أعماله التي تناولت موضوعة الشهادة، والتي كان الجسد الإنساني فيها هدفا تستوطنه الآلام ولكن تتجسد فيه القداسة في نهاية المطاف.
لقد كرس هاشم حنون هذه الهندسة الشكلية واللونية والدلالية طوال عقدين من الزمن، لم يبتعد فيها أحيانا عن تناول الجسد باعتباره المكان الذي تمارس فيه أبشع جرائم البشر ضد أنفسهم إلا ويعود إليه سريعا بفعل الغربة، وأوضاع العراق التي لم تتبدل منذ حرب الخليج الأولى وحتى وقتنا الحاضر، فامتلأت نفسه بالحزن، والغم على بلده الذي احترق، وما زالت حرائقه مستعرة، فكانت عناصر لوحاته الأولى تختفي يوما لتظهر يوما آخر، ولتبلغ أقسى تمظهراتها من خلال تلك البقايا المادية لأجساد العراقيين: لبقاياهم التي لا تعدو أن تكون خرقا أو أشلاء أجساد محترقة، أو بقايا قطع جنفاص المواضع المحترقة التي ملأت المدن وهي تستعد للحظة الحرب، أو بقايا الآثار التي خلفتها الحرب الطويلة التي مرت بها مدينته البصرة، المدينة التي ولد وعاش فيها الرسام سنوات حياته الأولى، المدينة التي طالما اجتاحها الغزاة وموجات الطاعون على مر التاريخ.
10
في تخطيطاته يتخذ الرسام لوحاته الملونة كبنية يقيم عليها تجربة تخطيطاته، فتحت عنوان (التخطيطات التي تملؤها الانقطاعات.. والفجوات اللونية) قلنا انها عائدة الى فعل التفكير (بطريقة ملونة) ، الذي ظل جاثما على الرسام حينما انجز تخطيطاته، فكانت صفحتها ميدانا لاشتغال الفجوة التي يصفها محمد خرماش بأنها "البياضات والفراغات والانقطاعات الموجودة عنوة في النص، والتي تسمح للقارئ بالتدخل بهدف ملئها، ولذلك يسميها إيزر (الفراغ الباني) وهي ما تشمل: الانفكاكات التي تدعو القارئ إلى وصلها، وإمكانية الانتفاء التي تدعو إلى التعصب ضد بعض ما يقدمه النص كحقائق أو مسلمات، وتحفز القارئ على التفكير والبحث عن التلاؤم وإيجاد الوضعية المشتركة... فالمعنى ينبني وفق قوانين تؤسس في غمار القراءة... التي تثير الانتباه إلى الأصل المخفي أوالعناصرالغائبة... وأن القارئ ... يجد فرصته في البياضات أو مواقع اللاتحديد التي يهيؤها النص ويتدخل، كشريك للمؤلف، في تشكيل المعنى. وهذا التدخل يكون بالعمل على سد الثغرات وتكوين الحقل المرجعي وتحويل مواقع اللاتحديد"، وتتحقق جغرافية هذه البياضات في تخطيطات هاشم حنون في الفراغ الناشئ من غياب اللون مما يعني انها مفهوم (بصَََري) بشكل يجعل ملء هذه الفجوات البصَرية (اللونية) هي الفاعلية الأهم التي يهيؤها الرسام هاشم حنون في تخطيطاته، والتي هي اهم فعالية مطلوبة من القارئ في تلقـّي هذه التخطيطات؛ وبذلك تكون هذه الفجوة خرقا، او احداثا لخلخلة في الوئام الطبيعي الذي يلف لوحات هاشم حنون الملونة؛ انه يخلق ذات الفجوة التي يصنعها التي يشتغل عليها رسامون اخرون بطريقة معاكسة؛ فبينما يرسم الاخرون لوحاتهما الزيتية بروح تخطيطية يشكل اللون فيها عنصرا مضافا او فائضا عن الحاجة بدرجة ما؛ يغير هاشم حنون المعادلة فيرسم تخطيطاته بروح اللوحة الزيتية ويكون الخط هو ذلك العنصر المضاف.
ان الفجوة التي يتخذها هاشم حنون استراتيجا ثابتا في بناء تخطيطاته، مفهوم شيئي (متيريالي او ملموس)، وان ملء هذه الفجوات هو فاعلية يقوم بها المتلقي، لذا فهي فاعلية تشمل اللوحة والمتلقي معا، وعلى الاخير ان يستند في ذلك على مخزوناته من الخبرة السابقة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire