نظام الاشكال في التماثيل الفرعونية
ا.د. زهير صاحب
Sunday, 05 October 2008
تفاعلت عدة قوى ضاغطة يبثها المركز الروحي، الى قولبة هيئة التماثيل الملكية بصفة النظام، ذلك ان نظم العلاقات الشكلية والفكرية التي تميز هذه التماثيل قد
ترتبت طوعا لاكساب صفة التماثيل الملكية صفة النظام المتماثل طيلة تاريخ الحضارة المصرية. فالنشاط الفني ينبع من صميم الحياة ذاتها، باعتباره نشاطا اجتماعيا، تنحصر غايته في الحياة او الواقع نفسه. وهو ذلك الجوهر الذي يتصف بالوعي والارادة قبل كل شيء. ونتيجة استقرار نظم الاشكال في ذهن الجماعة، بفعل استمرار الممارسة والفهم، ان تصبح مثل هذه الاشكال حقيقة اصطلاحية (علامة عرفية) ضمن حدودها الزمانية والامكانية، فنحن نتحدث هنا عن نظام الاشكال الملكية المصرية، بنفس الطريقة التي نتحدث بها عن نظام الشكل الكلاسيكي او نظام الشكل الرومانتيكي. حتى بدت مثل هذه الاشكال الرمزية اشبه بالهرمونية الايقاعية، لتغدو مؤشرا يردده الجميع، باعتباره ترجمة لعواطف مشتركة، لها وظيفة تنظيمية كامنة في نسيج النظم الاجتماعية.
عرضت تماثيل الملوك والالهة المصرية في اجواء ساحرة داخل فضاءات المعابد، وكانت تختل منطقة قدس الاقداس في حيز المعبد المعماري القدسي. باعتبارها رموزا احتفالية، اكتسبت اهميتها بنوعية الفكر، كونها جزءا فاعلا في الممارسات الطقوسية الناشطة في مستوى الوعي الاجتماعي. وكان القصد من هذه الطقوس والممارسات الاجتماعية، هو اثارة العاطفة في وعي الشعب المصري، لتكون عنصرا مؤثرا في حياة المجتمع العملية، فهي بمثابة اذكاء عواطف معينة في الاشخاص، والتي تعتبر ضرورية ونافعة في سياق العمل المعيشي باطره العامة. انها بمثابة فعل سحري، يعيش بفعل عملية تقديسه والخضوع له. وقد اشتمل نظام عرض التماثيل الملكية في حيز المعابد المعادلات الاتية :
1 - التماثيل الفردية : وتكون بشكل تمثال متفرد واحد بهيئة فرعون او اله، ويمثل عادة بوضع الوقوف او الجلوس على عرش.
2 - التماثيل الاسرية الملكية : وتكون في اغلب الاحيان بشكل زوج من التماثيل، يمثلان الملك وزوجته، ويمثلان بوضعية الوقوف في اغلب الاحوال، وتضع الزوجة عادة يدها على كتف زوجها او تلفها حول خصره تعبيرا عن محبتها له. وفي ذلك تدليل رمزي لاستشراق الابدية والتقديس لكل العائلة الملكية. ذلك ان الفن يبدأ من تلك المحاولة، عن طريق استشارة مكنونات تلك الانطباعات والافكار، والتي سبق للفنان ادراكها في ظل تأثير الواقع المحيط به.
3 - مجموعة تماثيل الثالوث الملكية : وتتألف كنظام تركيبي من ثلاثة تماثيل في وضعية الوقوف في اغلب الاحوال، حين يتوسط الفرعون زوج من الالهة بدلالة رموزها الكامنة في تيجان الرؤوس، نوعا من تأكيد الوهية الفرعون، واثبات القناعة في رحلته الابدية الخالدة، بعد ان بسط باحكام حديدي سيطرته على الارض المصرية. فمثل هذه التركيبات في فن النحت المدور، لابد انها ترتبط بمعنى وتعبر عنه بشكل مرادفات تشبيهية، تجسد العلاقة البنائية بين الرغبة المتمثلة بالمدلول والمتحققة في التأليفات الشكلية .
ان اهم ما يميز انظمة الاشكال في التماثيل الفرعونية، هو انها ذات بنائية معمارية، من خلال نظام العلاقة الذي يربطها بالعمارة، ليس فقط لكونها تعرض في المعابد، وانما كونها تدخل في بنية متضايفة مع الابنية المعمارية. حين تثبت التماثيل باحجامها الهائلة امام المعابد المنحوتة في صخور الجبال وكذلك حين تثبت التماثيل الى جوار الاعمدة او الجدران المعمارية. وبفعل هذا النظام من التضايف، اكتسبت بنائية التماثيل نظاما معماريا، ذلك انها قد نحتت بنفس الاسلوب او المنهج الذي يشيد به البناء المعماري، حين يتألف جسم التمثال من صفوف من الاحجار يعلو بعضها ببعضا، فيتحول الاحساس بالتمثال من نظامه النحتي الى نظام اخر هو النظام المعماري دون ان يخسر أي من قيمته الروحية باعتباره رمزا معبودا، أي باعتباره قوة خارقة تستطيع ان تؤثر على الانسان بشكل او باخر، كونه حامل لقوى سرية عظيمة الفاعلية.
وبسبب اتصاف تماثيل الملوك والالهة في مصر القديمة بمثل هذه البنائية المعمارية، فان الاهتمام بتفاصيلها كان يتحدد بالجهة الامامية للتمثال، أي انها كانت تنحت بوضع مواجه للناظر لتنال التكريم والتبجيل. اما الجهة الخلفية للتماثيل فانها كانت تنحت بتسطيح كامل. ومن شأن ذلك ان يضبط ادراك المشاهد ويوجه انتباهه، بحيث يبدو التكوين النحتي واضحا مفهوما موحدا في استيعابه البصري . ذلك ان التكوين في مثل هذه الحالة يرتب عناصر العمل الفني، على نحو من شأنه ان يبرز قيمتها التعبيرية، فهو الذي يضم هذه التعددية في وحدة الكل. ومثل التماثيل الفرعونية في ذلك مثل نظام التماثيل الملكية والدينية في بلاد وادي الرافدين، والتي تنحت بوضع مواجهة ايضا ازاء المتعبدين. على العكس من التماثيل الاغريقية، حيث عرض تمثال الالهة اثينا في البارثنون بعيدا عن الجدران، وبوضع هندسي ودراسة للفضاء، بحيث يستطيع المتعبدون من الدوران حوله، متأملين كمال الهيئة العامة للتمثال.
وبفعل اهتمام النحات، بدراسة تفاصيل الجهة الامامية للتماثيل الملكية في بلاد وادي النيل، ان اتصفت هذه التماثيل كتكوينات فنية، بمبدئي التماثل والتوازن بين جانبي التمثال الايمن والايسر، فلو قمنا خطا وهميا عموديا، يجتاز جبهة التمثال الامامية، من الاعلى الى الاسفل، تكون القيمة نصفين متوازيين ومتناظرين للتمثال، ولعل ذلك يعود ايضا الى قانون استقرار الحركة، بالاضافة الى مبدأ المواجهة في اسلوب نحت التماثيل. ذلك ان الفنان قد تخير من نظام الشكل، مجموعة من العلاقات، محاولا ابرازها بهيئة لها كيانها الخاص والافكار المرتبطة بها بالوسط الحضاري. ورغم واقعية التمثال بهذا الخصوص، فان الخصوصية الابداعية للنحات، تكمن في بعض الاحيان، بالتأويل الذي يجريه النحات على انظمة الاشكال الملكية. فقد عبّر النحات بقصدية عن الحكمة الكائنة في بنائية التماثيل بتكبير حجم الاذنين، وكذلك عبّر عن استقرار الفكرة الملكية وقوتها بالتكبير المبالغ به لحجمي القدمين. واذا كان الفنان في اختياره الواعي للتأويل في تفاصيل الاشكال الملكية، فهي مظاهر مستندة الى عالم الوعي الفكري الاجتماعي، والذي يقرر ما وراء هذه التمثلات من صفات وخصوصيات روحية، تكمن وراء هذه المظاهر، فهي كشفا تنقله اشكالا رمزية، تتعدى التشخيص نحو اللامحدود والنهائي.
وبالفعل نفسه ضخم مايكل انجلو قدمي وكفي (داود) في تمثاله المشهور، كي تطيح قوة الشباب بجوليات المتخفي فوق راس المشاهد.
تتمثل تماثيل الملوك المصريين القدماء بنوع من التجريد، في خصوصية الخطوط الخارجية المحددة لكتل وهيئات التماثيل. ذلك ان خطوطها هندسية الطابع وحادة وصلبة، وتفتقر الى انحناءات وليونة الخطوط الواقعية. واذا افترضنا مرد ذلك الى صلابة الخامات التي نحتت منها التماثيل الملكية، والتي دعت النحات لمثل هذه التجريدات الهندسية. فاننا نضيف لمثل هذا الكشف التقني، تعليلا فكريا يرتبط ببنائية الدلالية الفكرية الكامنة في اعماق هذه التماثيل. ذلك ان الفنان هنا، لا يستقي البهجة من الطبيعة العفوية للاشياء والظواهر، لكنه يسعى الى نوع من التبسيط والتحوير والاختزال، وصولا الى النظام الرمزي في التمثيل، تبعا لافكار ودلالات مرتبطة بالفكر الديني والتقاليد الكهنوتية. وكل ذلك يؤكد الانتقال بالشكل الطبيعي من صورته العرضية الى شكله الجوهري الخالد، والذي يبغي العموم بالرمز، وفي ذلك نوع من التسامي فوق مستوى الواقع لكشف المضمون الباطن للحقيقة، حيث التامل والايحاء، بدلا من محدودية الواقعية.
كانت التماثيل الملكية المصرية القديمة، تنحت بوضعين حركيين رئيسيين، هما وضع الوقوف، ووضع الجلوس على كرسي العرش, وفي وضع الوقوف كان الراس عموديا على الكتفين وثابتا في محله في توازن عام، مع اتجاه خط النظر الى تأمل عميق في عالم الخلود والابدية. اما اليدين فتظهران مبسوطتين بموازاة الجسم باستقرار كامل، في حين تتقدم الساق اليسرى بخطوة قصيرة نحو الامام دون رفع كاحل القدم، وفي ذلك فعل حركي يدلل الى حركة التمثال الرمزية نحو عالم اللانهائية الخالد. فقد تمكن النحات من ابتداع وضع حركي يتفق مع المضمون وروح ذلك العصر الذي ربط فيه الفكر بين المادي والروحي. وقد انتقلت هذه الوضعية الحركية الى النحت الاغريقي بعد ذلك، بفعل الاحتكاك الحضاري، لتعبر في تماثيل (كوروس) الاغريقية عن النشاط والحيوية.
وفي وضع الجلوس، تبسط اليدين على الرجلين بثبات تام، وتثبت القدمين اما الجسم في استقرار تام. وفي حالات خاصة ترتفع احدى اليدين بانحنائه شكلية لتمسك بصولجان المعركة. رمز القوة والسيطرة والسلطة، او تنحني كلا اليدين الى الصدر لتمسك احداهما بالعصا المعقوفة والاخرى بالمنشة، وهي وحدات رمزية فاعلة تعتبر بمثابة العوذ لطرد القوى الشريرة. لقد حافظت تماثيل الفراعنة منذ بداية العهد القديم وحتى اواخر الدولة الحديثة، على طابع السكون والاتزان والهدوء والجلال الالهي. ذلك ان النحات، كان حريصا الى ان يلفت نظر المتأمل الى الاعماق في التماثيل، والتي تحمل القوى الروحية المرتبطة بالتمثال كفكرة. صارفا نظره عن السطح الامامي والمستويات الجانبية الحركية، فالى هذا يُعزى ما في تماثيل الملوك الفراعنة من قوة تأثير، فالمشاهد يكون مأخوذا بالاعماق، غير مشتت الطرف بالعناصر الشكلية الخارجية. لقد استطاع الفنان المرتبط بوسطه الحضاري، ان يمثل ويبث في البشري الجوهري الروحي، وهي السمة الهامة التي تميز مثل هذه الاشكال الرمزية، ذلك ان فكرة الموضوع قد تركت اثرها الذي لا يزول في التعبير الروحي المتجسد بمظهر الوضع الحركي.
ورغم ما عرف عن المصريين القدماء، من معرفة في التشريح البشري، بفعل عمليات التحنيط التي اشتهر بها بين الحضارات العالمية الاصيلة. الا ان دراسة تشريح الجسم البشري كما تتضح في تماثيلهم الملكية، تتميز بالتبسيط والاختزال، فقد اقتنصوا ومضة الصورة الخالدة في الجسم البشري واحالوها الى دلالة شكلية. نوعا من التركيب الخالد في مقامه نحو جلال الاله. نوعا من القصدية الابداعية، التي تميل الى التحول في سمات الاشكال الفنية، من الخصائص الجزئية الى الصفات الكلية، ومن الفردية الى التعميم المطلق. فالعنصر الحاسم هنا، هو ظاهر الشكل الموحي بالموضوع الممثل، والذي يتميز بما هو جوهري وثابت، وهو اكثر سموا مما يمكن ان يوجد في الطبيعة الفردية. فنظام الصورة هنا، بمثابة تركيب رمزي بالصورة المثلى التي يجب ان يبعث بها الملك، حين يتخلد الى الابد مع ابيه الاله (رع). وهكذا يكون العمل النحتي، الوسيط ما بين الظاهرة الحسية الطبيعية بخصائصها المعروفة، وعالم الموجودات الروحية، في تفاعل كبير بين الصورة وجوهرها، وبين الشكل ومضمونه.
وهكذا يمثل التكوين النحتي الملكي وسطا خاصا، من التداخل المتفاعل الحيوي، والمتبادل التأثير بين عناصره. فالشكل وعلاقته بالفضاء المعماري وماهية هذه العلاقة، وما ينتج عن هذا التفاعل من نظم العلاقات، من خصوصية الخطوط التي تحدد الاشكال وتداخلاتها مع الفضاء، وارتباط هذا التفاعل مع تأثير ملامس السطوح، وتأثرها بايقاع الضوء والظل، وهل ساهم الشكل في ابرازه، ام ان قيمته الجمالية قد ساهمت في ابراز وتنمية القيم الجمالية للشكل. وكذلك اللون وامتداداته النسبية، وماله من تأثير في صهر هذه البنية التركيبية لتأكيد خصوصيته من خلالها. انها البنية الكلية او تلك الخصوصية التي لا تدرك قيمتها الجمالية من خلال مجموع اجزائها، بل تجد فاعليتها في نظم العلاقات الجمالية المتفاعلة داخل دائرة التكوين النحتي.
تمظهرت تماثيل الفراعنة، بنوع من نظام الزي الديني، كونها قد مثلت في فعاليات دينية، بالاضافة الى خضوعها الى التقاليد الكهنوتية التي تقرر انظمة الاشكال. فكان غطاء الرأس بسيطا، قوامه قطعة من القماش، وقد احكم ضبطها حول الرأس، فتدلى طرفيها على جانبي الصدر، وقد تميزت خطوطها بنوع من الحدة والهندسية، مكونة مظهرا صلبا لبنائية هذه المنطقة من التمثال. ذلك ان فاعلية الفكر الحضاري قد اولت الشكل نحو مظهر اخر يتفق مع المضامين الفكرية والرؤية التعبيرية للشكل . وفي بعض الاحيان، يكون غطاء الرأس بشكل تاج مخروطي طويل كعلامة معبرة عن جلا الملوكية، وكتأويل رمزي لبسط السيطرة على الارض المصرية. فهذا النوع من الاشكال الملكية، كانت مثقلة بمضامين عقلية، تمتزج بانفعالات الحياة وترتكز عليها. وازاء ما تتطلبه فعاليات التعبد من تصوف روحي، فقد كان لباس الجسم مختصرا، وقوامه بشكل وزرة قصيرة تتألف من ثلاث قطع، وقد لفت حول الخصر بحزام عريض . وقد تمكن النحات المصري بما اوتي به من خبرة كبيرة تستند الى التجريب المتواصل، من دراسة تفاصيل الازياء، مما اكسب بايقاعه انظمة الاشكال جمالية ملحوظة. وبشكل عام فان (غاندية) الزي المرتبطة بتماثيل الفراعنة، متأتية من بنيتها الروحية، حيث تعبر مضامينها عن الجسد الذي يوصل العالم المرئي المعاش، بالعالم اللامرئي، والذي يتجسد بعدد من المفاهيم الرمزية، والتي اريد بها تمثيل معتقدات الانسان بقواه الروحية الاولى.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire