متحف الشارقة
التشكيل العربي ووهم العالمية
حينما يستحوذ مفهوم العالمية على شخصية العديد من الفنانين التشكيليين العرب للحد الذي يوهموا أنفسهم بأن عملهم اندرج ضمن قائمة الأعمال التشكيلية العالمية وباتوا يحسبون أنفسهم فنانين عالميين بحق ويبشروا بذلك إن لم يبشر به بعض من محترفي النقد التشكيلي العربي ويدخلوهم في متاهة لا يعرفون حتى ولوجها فكيف بالخروج منها معافيين. الوهم متاح للكل والمتاهة مفتوحة للكل وبقدر إمكانية كل منهم من الضياع في دهاليزها. لقد باتت هذه الأمنية هاجسا يسكنهم وحافزا علنيا وخفيا لحيازتها وكأنها وصفة سحرية تضيف لنتاجهم قدرة اعجازية يتجاوزوا بها محليتهم أو واقع حال قيمة أعمالهم الفعلية. ودائما ما تثار المقاربات أو المقارنات بنتاج فنان أو أسلوبا فنيا أوربيا ما. وكأن العمل الفني يستمد مشروعيته بالنسبة لهؤلاء الفنانين من هذه المقارنات. وهذا التصور تعج به أيضا كتابات يفرض بها أن تكون نقدية. وان تكن معظمها حوارية استعراضية. مراوغة الخطاب النقدي التشكيلي عموما المحكوم وبشكل خاص بالإشادة بالظواهر التشكيلية لزمننا وتبادل المصالح. جعل من ظاهرة ادعاء العالمية واقعة استعراضية تحجب حقيقة واقعها الفعلي الحاضر بالنسبة للمتلقي.
ليس الأمر مقتصرا على الفنانين العرب داخل بلدانهم. بل الوهم طال حتى العديد من الفنانين العرب القاطنين دول العالم الأخرى. إذ لا تعني العالمية عرض أعمال أي منهم في قاعات العرض الأوربية الأهلية أو المؤسساتية أو العديد من متاحف مدنها سواء الصغيرة منها أو الكبيرة, وما أكثر هذه المتاحف وتنوع عروضها الفنية وأنشطتها الثقافية ومجالاتها الأخرى. فالكثير من هذه العروض يتم التخطيط لها من خلال وازع ثقافي أو سياسي أو اجتماعي أو تقني ولمختلف الاختصاصات و ضمن سياسة مبرمجة سلفا من قبل المؤسسة الحاضنة أو الداعمة وبما يساعد على تأكيد أهدافها الخاصة. والسؤال المهم هو هل باستطاعة أي من هؤلاء الفنانين( رغم حصيلة عروضهم وأنشطتهم المرافقة) أن يعرضوا أعمالهم في متاحف معينة تضفي عليهم الصفة العالمية من خلال عروض أو اقتناءات موثقة خاصة بهذه المؤسسات صاحبة القرار أو بوصاية رعاتها أو عرابيها.
العالمية في التشكيل وكما هي معروفة تحوز سماتها البارزة أو(ماركتها, علامتها الفارقة))من خلال مؤسسات مهيمنة تمتلك القرار بيدها وتبقيه في مجال ضيق يوفر حماية لمصالح الندرة هذه ويبقيها على مبعدة من النتاج التشكيلي بمفهومه العولمي العام. تتوفر هذه المؤسسات على الكادر الإداري المتحفي الحرفي والنقدي ألتقييمي وعلى النفوذ السياسي والثقافي وشبكة قاعة عروض رسمية وأهلية مرتبطة بها, وعلى شبكة رعاة وممولين وأصحاب نفوذ ومروجين ومزايدين من مختلف بلدان العالم. وهناك صعوبة قصوى من قبل الفنانين للوصول لأصحاب القرار لهذه المؤسسة أو المؤسسات الدولية التي تناوبت عليها مدن أوربية وأمريكية لفترات متعاقبة مثل باريس وبرلين ونيويورك, والأخيرة هي صاحبة القرار في وقتنا الحالي. ويتم من خلال ذلك إنفاق مبالغ طائلة سواء من قبل الفنان أو المؤسسة التي تسوق نتاجه. شروط تبقى بمنأى عن غالبية فناني العالم وحتى المجيدين منهم, فكيف بفنانينا العرب, وهم مثال لفنانين آخرين من بلدان شتى.
هل بإمكاننا تقييم الاستنساخ كما هو الأصل. هنا تكمن العلة الأولى, فأفضل نتاجنا التشكيلي يرتبط بوشائج مع بعض من النتاج العالمي إن لم يكن في بعضه استنساخا, بمفهوم استنساخ التجربة, فهو يرنوا لملاحقته, لا النأي عنه أو محاذاته بتجارب موازية بكفاءتها لحصيلته المتجددة دوما. ليس الأمر إيهاما في زمن توفر على الشروط الأبتكارية(العالمية) وبسعة مذهلة توازي المبتكرات الثقافية والعلمية الأخرى. سرعة الحراك الأبتكاري هذا يضعنا دوما على مسافة من اللحاق به. ما دمنا لم نحوز على شروط بناء مؤسساتنا اقتصاديا وعلميا وثقافيا, وشروط بناء إنساننا بما يحقق له حيازة كاملة لحقوقه الإنسانية كاملة وغير منقوصة. الاعتراف بواقع الحال فضيلة, ويشكل الخطوة الأولى لتجاوزه. وعلينا النظر لواقع حالنا التشكيلي وتشخيص علله. واقع لا يختلف عن الكثير من تفاصيل ثقافية مجتمعية أخرى. وان لم نوفر الحراك المجتمعي لصالح مستجدات التشكيل فسوف نبقى نلف وندور ضمن حيز نخبوي(مع تحفظي على مصطلح النخبة في هذا المجال) في الوقت الذي تتسع فيه الرقعة المجتمعية الثقافية التشكيلية في أوربا وبلدان مقاربة أخرى وعبر مبتكرات تشكيلية هي الأخرى مجتمعية معاصرة. البحث عن مصادر هذه المبتكرات أولا ومن ثمة دراسة عوامل محركاتها الاجتماعية الثقافية ربما يعطي دفعا للحركة التشكيلية العربية. وبعيدا عن ادعاءات أخرى, علينا الاستفادة من معطيات الدروس الثقافية التشكيلية البارزة والبناء من جديد بموازاة هذه المعطيات مع توفر الدعم المؤسساتي القادر على هضم نتائج هذه الدروس ومساهمته في تشكيل اللبنة الأولى لصرح التشكيل العربي(العالمي) المرتجى والمؤجل حاليا. وعلى الرغم من استحداث بعض العروض التشكيلية العالمية في بعض البلدان العربية وتحت مسميات العروض البينالية. إلا أن النتاج العربي المشارك لا يزال غريبا عن مجمل النتاج الغربي المعروض في هذه البينالات رغم العولمة الجغرافية. واعتقد أن العلة تكمن كما نوهت في نأي التشكيل العربي بشكل عام عن المناطق الإبداعية العالمية ومحركاتها الثقافية العامة(إن لم ننقل الخاصة) و ضعف ثقافة المتلقي العربي التشكيلية كذلك ضعف البرامج الثقافية المجتمعية المصاحبة لهكذا عروض. ولضعف مساسها بواقع حاله. ولنا (مثلا) ايجابيا في بعض من النتاج التشكيلي الإيراني وبعض منه محلي ومغترب(ولو بحدود ضيقة), ونتاجات أخرى من الشرق الأقصى وكشفها لعلل اجتماعية بكفاءة وسائلها التشكيلية الإعلامية التي أضيفت للمنجز العالمي.
مؤسسات الندرة حينما تضفي على نتاج فنان تشكيلي ما صبغة العالمية تعتمد فيما تعتمده من شروط على سيرته الشخصية أولا. والسيرة يجب أن تكون مميزة( نوعية عروضه, مشاريعه. أمكنة العروض التي تعترف بها هي و نوع النشاط وقيمته الفنية. تأثير أعماله ونشاطه في الوسط التشكيلي العالمي, ابتكاراته وإمكانيتها الريادية. إمكانية تسويقها على مجال واسع). إضافة لعوامل سياسية وربما أثنية أخرى. فالوضع السياسي البراكماتي غالبا ما يلعب دوره في اتخاذ القرارات في مراكز اتخاذ القرار الثقافي. مع ذلك فثمة أعمال تشكيلية فرضت واقعها ضمن رقعة التشكيل العالمي لحيازتها شروط الابتكار الريادي. مع ذلك فإنها تبقى بمنأى عن ولوج الندرة العالمية بدون توفر شروط تسويقها من خلال هذه المؤسسة العرابة للتشكيل العالمي.
عروض متحف( كوكنهام) النييوركي أسبغت صفة العالمية على الفنانين المشاركين فيها مثلما أضفتها العديد من عروض( متحف بومبيدو) الباريسي أو (متحف الفن الحديث البرليني) وحتى(التيت مودرن) اللندني. ولم تقتصر عروض هذه المتاحف المهمة على الفنانين الأوربيين والأمريكيين. بل تعدتهم إلى اليابانيين والصينيين والإيرانيين وغيرهم. و شروط قبولهم مرهونة دوما بقابلية نفاذ هذه الأعمال عبر مجال الذائقة الأوربية وتعديها إلى آفاق ابعد. ونحن في انتظار المعجزة العربية. وليس في الأمر من إعجاز بقدر القدرة على الاجتهاد لأجتراحها عبر الفهم لشروط اجتياز المعوقات الفاصلة عن بلوغ العالمية من خلال الفهم الكامل والكامن في المحلية الثقافية والبيئية وتصعيد فعلها المولد وصولا لخطاب عالمي. مع حراك مؤسساتي مواز لفعل الدعم التشكيلي من قبل بعض المتنفذين العرب(1).
لنبدأ من الاعتراف بقيمة العمل التشكيلي للفنان العربي الحقيقية وحسب استيفاءه لشروط زمنه المعاصر والذي نوده أن لا يلغي بعض من سمات محليته, وخاصة والتشكيل في زمننا تعدى مألوفة إجراءات وسائله العملية كرسم ونحت إلى استغلال كل ما يخطر على البال من المواد المضافة وتنوع التكنيك الأدائي, االأدائيادائي ولمساحة المحلية حيز واسع ضمن هذا التصور. من ثمة لنتساءل عن وفرة المتاحف وقاعات العروض من ندرتها وما توفره للمتلقي العربي من ندوات تعريفية وتقييميه بموازاة عروضها لتوفر الخلفية الثقافية التنافذية لجمهورها. ولتؤسس القاعدة العريضة المطلوبة. ولنبدأ من أرشفة العمل الفني وضمان حقوقه محليا وعالميا ومن خلال إقرارنا لحقوق العمل الفني قانونيا وكما هو معمول به في بلدان العالم المتقدمة في هذا المجال. ومن منطلق حرصنا على الإرث التشكيلي, ولنا في تجربة ضياع غالبية الإرث التشكيلي العراقي الحديث. تجربة الاستهانة بالفنان ونتاجه سوف تبقينا على مبعدة من الاشتراك مع النخبة من فناني العالم إن لم تقصينا بشكل كامل عن بؤرة الضوء وإشعاعه الحضاري. الاهتمام بتحقيق هذه الشروط أو المستلزمات هو أهم من البحث أو الادعاء بالعالمية لمجرد الإعلاء من قيمة عمل الفنان وهي بالأساس قيمة متواضعة. ليس بالادعاء والتباهي نحقق تفوقنا الحضاري والفن التشكيلي مع بقية الفنون الأخرى يشكل عصب الثقافة الحساس لعصرنا الصوري. وإطلاق الصورة وهي الأقرب عبر مسالكها السائلة هو الأفضل والأسرع لاختراق أدمغتنا بحمولاتها الواقعية أو الغرائبية. وفهم شروط ولوج عوالمها يشكل جزءا من عالميتنا أو عولمتنا الثقافية. والعولمة بشكل عام ومع اتساع مداها غالبا ما تبقى بمنأى عن العولمة أو العالمية المصغرة التي تبقى في زمننا صاحبة القرار الثقافي التشكيلي القابض على عصب حراكها والمحرك لمجالاتها الحساسة. هذه البؤرة المصغرة تشكل المقياس المتعارف عليه من قبل صناع قراراتها التشكيلية والتي تحدد من تؤهله لاجتياز شروطها والانطلاق بفضاءاتها. فيا ترى كم من الفنانين التشكيليين العرب يحوزون أو هم حازوا على شروطها وبات لهم حق في إطلاق صفة العالمية على نتاجهم بعيدا عن ضوضاء الأدعات الغير منطقية.
إن كانت لدينا اعتراضات على شروط العالمية التي أقرتها وانتهجتها تصرفا هذه المؤسسات التي يطلق عليها بالعالمية. فهل باستطاعتنا خلق عالمية موازية لنفوذها الثقافي والتسويقي. وان لم يكن في إمكاننا ذلك, لعدم توفر الكادر النوعي التشكيلي والمقدرة التسويقية ذات الخطوط العالمية الفاعلة. والأرضية السوسيولوجية الصالحة لاستنبات هذه البذرة الثقافية بوسائلها وسبلها الأدائية المتعددة. فليس أفضل لنا من أن نساير الركب التشكيلي العالمي بتوفير كل هذه المستلزمات وضمان إدامتها وتفاعلها ومجتمعاتنا. وكل بذرة إن توفرت لها شروط الإنبات السليمة سوف يجزل عطائها.
يبقى أمر مهم وقريب الصلة بموضوعنا وهو واقع حال أهم عروض التشكيل العربي الدورية أو ما اصطلح عليه بالبينالي(معرض السنتين) وعلى سبيل المثال بينالي القاهرة, وبينالي الشارقة(وخاصة الأخير). المفارقة في هذين العرضين هي في إعلاء شأن منجز المشاركين الغير عرب(بادعاء عالميتهم) وتقزيم النتاج العربي لحده الأدنى رغم أن النشاط أصلا عربيا وعالميا. بالتأكيد هناك إجابات جاهزة وبعضها منطقي. لكن بالمقابل أيضا هناك العديد من النتاجات التشكيلية العربية سواء المقيمة منها أو المهاجرة, تملك مشروعية عرضها بمصاحبة النتاجات المنتقاة لهذه العروض المعولمة(والعولمة والعالمية في التشكيل على ما عليه من إشكال). أما تكريس رنين اسم المشارك وغرابة نطقه, رغم انتفاء هذه الغرابة أحيانا من خلال إشاعتها سمعيا وصوريا بالوسائل الأتصالاتية . وتكريس الفعل المستورد بالرغم عن كفائتة أو موائمته أحيانا(رغم توفره على شروط عرض مشتقة أصلا من بيئته الخاصة’مع بعض التحفظ ) وإقصاء ألفة أسمائنا وتحميلنا أكثر مما حملنا به الآخرين. فان الأمر يرجعنا مرة أخرى إلى إشكالية غربة هجراتنا التشكيلية العربية بتضاعيف صعوبة فعل الاعتراف من قبل الآخر. أخيرا هل لكل هذا الأنفاق على هذه العروض بتكلفتها الباهظة من مردود ايجابي على التشكيليين والتشكيل العربي وهو هنا حاضن. أليس بالإمكان موازنة الأمرين بما يعطي الفرصة لكلا المنجزين أن يتجاورا و يتحاورا من منطلق إيفاء شروط التعبير الذاتي لكل منهما وبموازاة فتح قنوات اتصالاتية حوارية تعزز التعدد فعلا أدائيا عالميا. والعمل على مراعاة مساواة شروط ولوج هكذا فعاليات بما يعزز سمعة النتاج التشكيلي العربي المساهم والمساعد على نفاذ تجاربه المحلية وردم بعض الشيء هوة التلقي المحلي من اجل زيادة مساحته المشاعة اجتماعيا. فبدون هذه المساحة سوف تبقى هذه العروض نخبوية تحاور مساهميها من التشكيليين أنفسهم والندرة النادرة من الداعمين والمتلقين الآخرين. وان كان الأنفاق له مردود عالي للمؤسسات العالمية التي اشرنا إليها في بداية كتابتنا هذه, فما هو مردود هذه البينالات أو ما هو أفق التأسيس المتشعب من مؤسساتها لإمكانية ولوج التشكيل العربي لعالمية موازية, ليس في الأمر من إعجاز بقدر من درس الشروط الإنمائية الثقافية التشكيلية الكفوءة والمتوازنة وبمساعدة اتصالاتية باتت ضرورية لتجسير الهوة. وبدون البدء في الأعداد لذلك سوف يبقى حالنا كما هو يراوح ضمن حدود هامش التجربة التشكيلية العالمية المعاصرة ونبقى ضائعين وسط دهاليزها المتشعبة.
....................................................................................................................................................
(1)ـ في قائمة تضم أفضل رعاة الفن في العالم يحتل حاكم إمارة خليجية عربية المرتبة العاشرة. وهي مرتبة متقدمة جدا وذلك لتمكنه من إحضار نتاجات فنية أثرية من متحف اللوفر الفرنسي وكوكنهايم الأمريكي للعرض في بلده. وهي مهمة تتطلب الكثير من النفوذ والدعم اللوجستي والمالي لهاتين المؤسستين(وهما بحاجة لهما). وفي موازاة هذه الخطوة الحضارية نطمح إلى أن يكون الدعم أيضا موازيا لمجهود بناء المنجز التشكيلي العربي وبإنفاق مواز وبسبل متقدمة ومن شخصيات ومؤسسات عربية متمكنة ماديا وواعية لأهمية مبادراتها في رفع مستوى الفن التشكيلي لمستويات متقدمة تؤهله ليساير المنجز التشكيلي العالمي بالشكل الفعلي وليس الافتراضي الأدعائي.
..................................................................................................................................................
علي النجارـ 09ـ02 ـ 16
التشكيل العربي ووهم العالمية
حينما يستحوذ مفهوم العالمية على شخصية العديد من الفنانين التشكيليين العرب للحد الذي يوهموا أنفسهم بأن عملهم اندرج ضمن قائمة الأعمال التشكيلية العالمية وباتوا يحسبون أنفسهم فنانين عالميين بحق ويبشروا بذلك إن لم يبشر به بعض من محترفي النقد التشكيلي العربي ويدخلوهم في متاهة لا يعرفون حتى ولوجها فكيف بالخروج منها معافيين. الوهم متاح للكل والمتاهة مفتوحة للكل وبقدر إمكانية كل منهم من الضياع في دهاليزها. لقد باتت هذه الأمنية هاجسا يسكنهم وحافزا علنيا وخفيا لحيازتها وكأنها وصفة سحرية تضيف لنتاجهم قدرة اعجازية يتجاوزوا بها محليتهم أو واقع حال قيمة أعمالهم الفعلية. ودائما ما تثار المقاربات أو المقارنات بنتاج فنان أو أسلوبا فنيا أوربيا ما. وكأن العمل الفني يستمد مشروعيته بالنسبة لهؤلاء الفنانين من هذه المقارنات. وهذا التصور تعج به أيضا كتابات يفرض بها أن تكون نقدية. وان تكن معظمها حوارية استعراضية. مراوغة الخطاب النقدي التشكيلي عموما المحكوم وبشكل خاص بالإشادة بالظواهر التشكيلية لزمننا وتبادل المصالح. جعل من ظاهرة ادعاء العالمية واقعة استعراضية تحجب حقيقة واقعها الفعلي الحاضر بالنسبة للمتلقي.
ليس الأمر مقتصرا على الفنانين العرب داخل بلدانهم. بل الوهم طال حتى العديد من الفنانين العرب القاطنين دول العالم الأخرى. إذ لا تعني العالمية عرض أعمال أي منهم في قاعات العرض الأوربية الأهلية أو المؤسساتية أو العديد من متاحف مدنها سواء الصغيرة منها أو الكبيرة, وما أكثر هذه المتاحف وتنوع عروضها الفنية وأنشطتها الثقافية ومجالاتها الأخرى. فالكثير من هذه العروض يتم التخطيط لها من خلال وازع ثقافي أو سياسي أو اجتماعي أو تقني ولمختلف الاختصاصات و ضمن سياسة مبرمجة سلفا من قبل المؤسسة الحاضنة أو الداعمة وبما يساعد على تأكيد أهدافها الخاصة. والسؤال المهم هو هل باستطاعة أي من هؤلاء الفنانين( رغم حصيلة عروضهم وأنشطتهم المرافقة) أن يعرضوا أعمالهم في متاحف معينة تضفي عليهم الصفة العالمية من خلال عروض أو اقتناءات موثقة خاصة بهذه المؤسسات صاحبة القرار أو بوصاية رعاتها أو عرابيها.
العالمية في التشكيل وكما هي معروفة تحوز سماتها البارزة أو(ماركتها, علامتها الفارقة))من خلال مؤسسات مهيمنة تمتلك القرار بيدها وتبقيه في مجال ضيق يوفر حماية لمصالح الندرة هذه ويبقيها على مبعدة من النتاج التشكيلي بمفهومه العولمي العام. تتوفر هذه المؤسسات على الكادر الإداري المتحفي الحرفي والنقدي ألتقييمي وعلى النفوذ السياسي والثقافي وشبكة قاعة عروض رسمية وأهلية مرتبطة بها, وعلى شبكة رعاة وممولين وأصحاب نفوذ ومروجين ومزايدين من مختلف بلدان العالم. وهناك صعوبة قصوى من قبل الفنانين للوصول لأصحاب القرار لهذه المؤسسة أو المؤسسات الدولية التي تناوبت عليها مدن أوربية وأمريكية لفترات متعاقبة مثل باريس وبرلين ونيويورك, والأخيرة هي صاحبة القرار في وقتنا الحالي. ويتم من خلال ذلك إنفاق مبالغ طائلة سواء من قبل الفنان أو المؤسسة التي تسوق نتاجه. شروط تبقى بمنأى عن غالبية فناني العالم وحتى المجيدين منهم, فكيف بفنانينا العرب, وهم مثال لفنانين آخرين من بلدان شتى.
هل بإمكاننا تقييم الاستنساخ كما هو الأصل. هنا تكمن العلة الأولى, فأفضل نتاجنا التشكيلي يرتبط بوشائج مع بعض من النتاج العالمي إن لم يكن في بعضه استنساخا, بمفهوم استنساخ التجربة, فهو يرنوا لملاحقته, لا النأي عنه أو محاذاته بتجارب موازية بكفاءتها لحصيلته المتجددة دوما. ليس الأمر إيهاما في زمن توفر على الشروط الأبتكارية(العالمية) وبسعة مذهلة توازي المبتكرات الثقافية والعلمية الأخرى. سرعة الحراك الأبتكاري هذا يضعنا دوما على مسافة من اللحاق به. ما دمنا لم نحوز على شروط بناء مؤسساتنا اقتصاديا وعلميا وثقافيا, وشروط بناء إنساننا بما يحقق له حيازة كاملة لحقوقه الإنسانية كاملة وغير منقوصة. الاعتراف بواقع الحال فضيلة, ويشكل الخطوة الأولى لتجاوزه. وعلينا النظر لواقع حالنا التشكيلي وتشخيص علله. واقع لا يختلف عن الكثير من تفاصيل ثقافية مجتمعية أخرى. وان لم نوفر الحراك المجتمعي لصالح مستجدات التشكيل فسوف نبقى نلف وندور ضمن حيز نخبوي(مع تحفظي على مصطلح النخبة في هذا المجال) في الوقت الذي تتسع فيه الرقعة المجتمعية الثقافية التشكيلية في أوربا وبلدان مقاربة أخرى وعبر مبتكرات تشكيلية هي الأخرى مجتمعية معاصرة. البحث عن مصادر هذه المبتكرات أولا ومن ثمة دراسة عوامل محركاتها الاجتماعية الثقافية ربما يعطي دفعا للحركة التشكيلية العربية. وبعيدا عن ادعاءات أخرى, علينا الاستفادة من معطيات الدروس الثقافية التشكيلية البارزة والبناء من جديد بموازاة هذه المعطيات مع توفر الدعم المؤسساتي القادر على هضم نتائج هذه الدروس ومساهمته في تشكيل اللبنة الأولى لصرح التشكيل العربي(العالمي) المرتجى والمؤجل حاليا. وعلى الرغم من استحداث بعض العروض التشكيلية العالمية في بعض البلدان العربية وتحت مسميات العروض البينالية. إلا أن النتاج العربي المشارك لا يزال غريبا عن مجمل النتاج الغربي المعروض في هذه البينالات رغم العولمة الجغرافية. واعتقد أن العلة تكمن كما نوهت في نأي التشكيل العربي بشكل عام عن المناطق الإبداعية العالمية ومحركاتها الثقافية العامة(إن لم ننقل الخاصة) و ضعف ثقافة المتلقي العربي التشكيلية كذلك ضعف البرامج الثقافية المجتمعية المصاحبة لهكذا عروض. ولضعف مساسها بواقع حاله. ولنا (مثلا) ايجابيا في بعض من النتاج التشكيلي الإيراني وبعض منه محلي ومغترب(ولو بحدود ضيقة), ونتاجات أخرى من الشرق الأقصى وكشفها لعلل اجتماعية بكفاءة وسائلها التشكيلية الإعلامية التي أضيفت للمنجز العالمي.
مؤسسات الندرة حينما تضفي على نتاج فنان تشكيلي ما صبغة العالمية تعتمد فيما تعتمده من شروط على سيرته الشخصية أولا. والسيرة يجب أن تكون مميزة( نوعية عروضه, مشاريعه. أمكنة العروض التي تعترف بها هي و نوع النشاط وقيمته الفنية. تأثير أعماله ونشاطه في الوسط التشكيلي العالمي, ابتكاراته وإمكانيتها الريادية. إمكانية تسويقها على مجال واسع). إضافة لعوامل سياسية وربما أثنية أخرى. فالوضع السياسي البراكماتي غالبا ما يلعب دوره في اتخاذ القرارات في مراكز اتخاذ القرار الثقافي. مع ذلك فثمة أعمال تشكيلية فرضت واقعها ضمن رقعة التشكيل العالمي لحيازتها شروط الابتكار الريادي. مع ذلك فإنها تبقى بمنأى عن ولوج الندرة العالمية بدون توفر شروط تسويقها من خلال هذه المؤسسة العرابة للتشكيل العالمي.
عروض متحف( كوكنهام) النييوركي أسبغت صفة العالمية على الفنانين المشاركين فيها مثلما أضفتها العديد من عروض( متحف بومبيدو) الباريسي أو (متحف الفن الحديث البرليني) وحتى(التيت مودرن) اللندني. ولم تقتصر عروض هذه المتاحف المهمة على الفنانين الأوربيين والأمريكيين. بل تعدتهم إلى اليابانيين والصينيين والإيرانيين وغيرهم. و شروط قبولهم مرهونة دوما بقابلية نفاذ هذه الأعمال عبر مجال الذائقة الأوربية وتعديها إلى آفاق ابعد. ونحن في انتظار المعجزة العربية. وليس في الأمر من إعجاز بقدر القدرة على الاجتهاد لأجتراحها عبر الفهم لشروط اجتياز المعوقات الفاصلة عن بلوغ العالمية من خلال الفهم الكامل والكامن في المحلية الثقافية والبيئية وتصعيد فعلها المولد وصولا لخطاب عالمي. مع حراك مؤسساتي مواز لفعل الدعم التشكيلي من قبل بعض المتنفذين العرب(1).
لنبدأ من الاعتراف بقيمة العمل التشكيلي للفنان العربي الحقيقية وحسب استيفاءه لشروط زمنه المعاصر والذي نوده أن لا يلغي بعض من سمات محليته, وخاصة والتشكيل في زمننا تعدى مألوفة إجراءات وسائله العملية كرسم ونحت إلى استغلال كل ما يخطر على البال من المواد المضافة وتنوع التكنيك الأدائي, االأدائيادائي ولمساحة المحلية حيز واسع ضمن هذا التصور. من ثمة لنتساءل عن وفرة المتاحف وقاعات العروض من ندرتها وما توفره للمتلقي العربي من ندوات تعريفية وتقييميه بموازاة عروضها لتوفر الخلفية الثقافية التنافذية لجمهورها. ولتؤسس القاعدة العريضة المطلوبة. ولنبدأ من أرشفة العمل الفني وضمان حقوقه محليا وعالميا ومن خلال إقرارنا لحقوق العمل الفني قانونيا وكما هو معمول به في بلدان العالم المتقدمة في هذا المجال. ومن منطلق حرصنا على الإرث التشكيلي, ولنا في تجربة ضياع غالبية الإرث التشكيلي العراقي الحديث. تجربة الاستهانة بالفنان ونتاجه سوف تبقينا على مبعدة من الاشتراك مع النخبة من فناني العالم إن لم تقصينا بشكل كامل عن بؤرة الضوء وإشعاعه الحضاري. الاهتمام بتحقيق هذه الشروط أو المستلزمات هو أهم من البحث أو الادعاء بالعالمية لمجرد الإعلاء من قيمة عمل الفنان وهي بالأساس قيمة متواضعة. ليس بالادعاء والتباهي نحقق تفوقنا الحضاري والفن التشكيلي مع بقية الفنون الأخرى يشكل عصب الثقافة الحساس لعصرنا الصوري. وإطلاق الصورة وهي الأقرب عبر مسالكها السائلة هو الأفضل والأسرع لاختراق أدمغتنا بحمولاتها الواقعية أو الغرائبية. وفهم شروط ولوج عوالمها يشكل جزءا من عالميتنا أو عولمتنا الثقافية. والعولمة بشكل عام ومع اتساع مداها غالبا ما تبقى بمنأى عن العولمة أو العالمية المصغرة التي تبقى في زمننا صاحبة القرار الثقافي التشكيلي القابض على عصب حراكها والمحرك لمجالاتها الحساسة. هذه البؤرة المصغرة تشكل المقياس المتعارف عليه من قبل صناع قراراتها التشكيلية والتي تحدد من تؤهله لاجتياز شروطها والانطلاق بفضاءاتها. فيا ترى كم من الفنانين التشكيليين العرب يحوزون أو هم حازوا على شروطها وبات لهم حق في إطلاق صفة العالمية على نتاجهم بعيدا عن ضوضاء الأدعات الغير منطقية.
إن كانت لدينا اعتراضات على شروط العالمية التي أقرتها وانتهجتها تصرفا هذه المؤسسات التي يطلق عليها بالعالمية. فهل باستطاعتنا خلق عالمية موازية لنفوذها الثقافي والتسويقي. وان لم يكن في إمكاننا ذلك, لعدم توفر الكادر النوعي التشكيلي والمقدرة التسويقية ذات الخطوط العالمية الفاعلة. والأرضية السوسيولوجية الصالحة لاستنبات هذه البذرة الثقافية بوسائلها وسبلها الأدائية المتعددة. فليس أفضل لنا من أن نساير الركب التشكيلي العالمي بتوفير كل هذه المستلزمات وضمان إدامتها وتفاعلها ومجتمعاتنا. وكل بذرة إن توفرت لها شروط الإنبات السليمة سوف يجزل عطائها.
يبقى أمر مهم وقريب الصلة بموضوعنا وهو واقع حال أهم عروض التشكيل العربي الدورية أو ما اصطلح عليه بالبينالي(معرض السنتين) وعلى سبيل المثال بينالي القاهرة, وبينالي الشارقة(وخاصة الأخير). المفارقة في هذين العرضين هي في إعلاء شأن منجز المشاركين الغير عرب(بادعاء عالميتهم) وتقزيم النتاج العربي لحده الأدنى رغم أن النشاط أصلا عربيا وعالميا. بالتأكيد هناك إجابات جاهزة وبعضها منطقي. لكن بالمقابل أيضا هناك العديد من النتاجات التشكيلية العربية سواء المقيمة منها أو المهاجرة, تملك مشروعية عرضها بمصاحبة النتاجات المنتقاة لهذه العروض المعولمة(والعولمة والعالمية في التشكيل على ما عليه من إشكال). أما تكريس رنين اسم المشارك وغرابة نطقه, رغم انتفاء هذه الغرابة أحيانا من خلال إشاعتها سمعيا وصوريا بالوسائل الأتصالاتية . وتكريس الفعل المستورد بالرغم عن كفائتة أو موائمته أحيانا(رغم توفره على شروط عرض مشتقة أصلا من بيئته الخاصة’مع بعض التحفظ ) وإقصاء ألفة أسمائنا وتحميلنا أكثر مما حملنا به الآخرين. فان الأمر يرجعنا مرة أخرى إلى إشكالية غربة هجراتنا التشكيلية العربية بتضاعيف صعوبة فعل الاعتراف من قبل الآخر. أخيرا هل لكل هذا الأنفاق على هذه العروض بتكلفتها الباهظة من مردود ايجابي على التشكيليين والتشكيل العربي وهو هنا حاضن. أليس بالإمكان موازنة الأمرين بما يعطي الفرصة لكلا المنجزين أن يتجاورا و يتحاورا من منطلق إيفاء شروط التعبير الذاتي لكل منهما وبموازاة فتح قنوات اتصالاتية حوارية تعزز التعدد فعلا أدائيا عالميا. والعمل على مراعاة مساواة شروط ولوج هكذا فعاليات بما يعزز سمعة النتاج التشكيلي العربي المساهم والمساعد على نفاذ تجاربه المحلية وردم بعض الشيء هوة التلقي المحلي من اجل زيادة مساحته المشاعة اجتماعيا. فبدون هذه المساحة سوف تبقى هذه العروض نخبوية تحاور مساهميها من التشكيليين أنفسهم والندرة النادرة من الداعمين والمتلقين الآخرين. وان كان الأنفاق له مردود عالي للمؤسسات العالمية التي اشرنا إليها في بداية كتابتنا هذه, فما هو مردود هذه البينالات أو ما هو أفق التأسيس المتشعب من مؤسساتها لإمكانية ولوج التشكيل العربي لعالمية موازية, ليس في الأمر من إعجاز بقدر من درس الشروط الإنمائية الثقافية التشكيلية الكفوءة والمتوازنة وبمساعدة اتصالاتية باتت ضرورية لتجسير الهوة. وبدون البدء في الأعداد لذلك سوف يبقى حالنا كما هو يراوح ضمن حدود هامش التجربة التشكيلية العالمية المعاصرة ونبقى ضائعين وسط دهاليزها المتشعبة.
....................................................................................................................................................
(1)ـ في قائمة تضم أفضل رعاة الفن في العالم يحتل حاكم إمارة خليجية عربية المرتبة العاشرة. وهي مرتبة متقدمة جدا وذلك لتمكنه من إحضار نتاجات فنية أثرية من متحف اللوفر الفرنسي وكوكنهايم الأمريكي للعرض في بلده. وهي مهمة تتطلب الكثير من النفوذ والدعم اللوجستي والمالي لهاتين المؤسستين(وهما بحاجة لهما). وفي موازاة هذه الخطوة الحضارية نطمح إلى أن يكون الدعم أيضا موازيا لمجهود بناء المنجز التشكيلي العربي وبإنفاق مواز وبسبل متقدمة ومن شخصيات ومؤسسات عربية متمكنة ماديا وواعية لأهمية مبادراتها في رفع مستوى الفن التشكيلي لمستويات متقدمة تؤهله ليساير المنجز التشكيلي العالمي بالشكل الفعلي وليس الافتراضي الأدعائي.
..................................................................................................................................................
علي النجارـ 09ـ02 ـ 16
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire