الحروفية
قراءة جديدة في الخط العربي
قراءة جديدة في الخط العربي
أ. د. إياد الحسيني
استاذ فلسفة التصميم
www.ayadabc.co.cc
ayadabc@live.com
www.ayadabc.co.cc
ayadabc@live.com
مقدمة
منذ بدايات الإنسان الأولى، كان البحث عن وسيلة للتعبير هدفاً حقيقياً في التواصل مع بني جنسه وبيئته وإن اختلفت هذه الوسائل من بيئة إلى أخرى أو من زمان إلى آخر.
إلاأن النتيجة التي تمخضت عن ذلك هو الوصول لغة كانت تارة مكتوبة أو مقروءة أوإشارية أو حركية أو أيقونية، وصول الإنسان إلى اللغة إنما فتح الباب أمامه للتعبيرعن أولى تلك المشاعر والانفعالات والهواجس، وكل ما يجول بخاطره ويحدد علاقته وموقفه بالآخرين والبيئة وما تكتنفه في الزمان والمكان.
وهذه كقيمة إنما تحدد تقريباً موقف الإنسان من الفكر الحضاري والمدني في تعمير الأرض ونشوء الوعي باعتباره من أعلى القيم الكبرى التي تعمل على ديمومة الحياة واستمرارها.
ولعل أولى تلك الوسائل التي اعتمدها الإنسان في التعبير هي تلك الرسوم على جدران الكهوف والتي كان يرسمها لأهداف عديدة قد تكون اجتماعية أودينية أو اقتصادية أوتحمل طقوس معينة كان يشعر بحاجتها وضرورتها.
إلا أن حقيقة تلك الرسوم كانت تشكل أولى مراحل الكتابة التي سميت فيما بعد بالصورية وهي أولى الأبجديات القادرة على التعبير والتواصل، ومن الطبيعي أن ترتقي وسائل الإنسان وأدواته بارتقاء فكره ونشاطه واكتشافه لقوانين الحياة والمادة، فأصبحت وسيلة تواصله "لغته "رمزية ثم مقطعية، وقطعت حقب زمنية طويلة وصولاً إلى الأبجديات المختلفة باختلاف أمم الأرض والشعوب، وكان كل من هذه الأبجديات تشكل على مستوى الشكل والمعرفة انعكاساً لتلك البيئة والثقافة ومجموعة القيم والمنظومات المجتمعية لتلك الأمم.
وهكذا شكلت الأ بجديات أعلى مراحل تطور وسائل الاتصال الأنساني.
منذ بدايتها كأشكال مرسومة وحتى وصولها إلى أشكال في أعلى مراحل التجريد في الشكل الذي اقترن بالصوت بعد إن كان صورة فقط.
كانت أولى مظاهر نشوء الأبجدية ومن ثم اللغة، كوعاء للفكر ووسيلة لنقل العلوم والمعارف وكتابة التاريخ التي حفظت الحضارة الإنسانية في كل صفحاتها هي عملة لتدوين، أما الحروف العربية فلم تكن لتبقى وسيلة لنقل تلك الأفكارفحسب، وإنما أصبحت العلاقة وثيقة من خلال تمثل الأشكال الخطوط العربية بالبيئة العربية وما فرضته العقيدة الإسلامية من قيم في الوفاء والصدق والإخلاص والأمانة والتي كانت
تشكل المبادئ الأساسية للإنسان في علاقته بالمجتمع والبيئة.
من هذا المنطلق ظهرت أشكال متعددة للخطوط العربية وعبر عدة قرون بأنواع مختلفة وكان كل منها يؤدي وظيفة مختلفة وأصبح لهذه الاشكال قيماً جمالية لها تقاليدها وظوابطها ومنطقها الجمالي الخاص الذي يعبر بصورة واضحة عن الثقافة العربية الإسلامية، وكان هذا التنوع والتعدد مصدر ثراء في قيم المجال كماهو الأمر في مجالات الفكر والفلسفة والادب والشعر والعلوم التي ازدهرت في القرن الرابع الهجري.
من هذا المناخ العام تستقي العديد من الأعمال الفنية العربية قيمتها الجماليةفي أساليب شتى، ولاشك أن الخط العربي بمنطقه الجمالي الخاص يعد فنياً جميعاً وليس فردياً فقد اجتمعت كل أسباب ومفردات الجمال العربي لإرساء قواعده وأصوله طيلة قرون عديدة بما يجعله يشكل بنية شبه مغلقة لا تقبل الإضافة أو الحذف، ليس بكونها تجربة عقيمة وإنما يحتاج أنقاصها ثانية إلى استدعاء كل تلك القيم التي نشأت وتطورت بسببها عبر أربعة عشر قرناً من الزمن.
وفي ضوء ذلك يعد الخطاطون الخروج عن القواعد والأصول والموازين الموروثة في الخط العربي انهياراً لمنطقه الجمالي .. ذلك أن هذا الفن ينتمي إلى المنطق الجمالي في الفنون الإسلامية عموماً الذي ينظم ويعيد للتجربة الإنسانية علاقتها الوثيقة بخالقها، ولتجعل من الخالق مبدعاً ومن الإنسان مخلصاً متقناً.
وفي خضم التجربة العربية الجمالية تبزغ لنا اتجاهات متعددة في استلهام الحروف العربية في الأعمال الفنية التشكيلية ذات البعدين وذات الأبعاد الثلاثة، ليس على أساس ما يشكله الحرف من نسق داخلي في المنظومة الحضارية وما تحويه من رموز وإشارات وأيقونات.
على هذا الأساس فاننا نستطيع التمييز بين مجموعة الأعمال التي تناولت الحرف العربي في تكويناتها وبنائها الفني في الاتجاهات
الآتية :
2/ الاتجاه الثاني :
(استلهام المنطق الجمال للخط العربي )
وهو ما يظهر بصورة واضحة في تلك التجارب الفنية التي حافظت على قوانين الحرف وقيمته الجمالية كتجربة حضارية أصلية تمتد في عمق التاريخ العربي وتعكس هويته وإنسانيته وتلاقح هذه التجارب دون تكرار لما اعتاده الخطاط وذلك باعتماد صيغ وعناصر أخرى تجتمع مع الحروف كالكتلة واللون والاتجاه والملمس والعديد من العناصر والمبادئ الأخرى المتمثلة بخزف ماهر السامرائي ومنحوتات أياد الحسني، التي زاوجت بين المطلق والحياة، بينما كان الأرابسك يلتصق بالمعمار الديني ويرتبط بأفكار إستعمالية محددة, وهذه التجارب تمنح الفن حرية أكبر في فهم الإبداع الفني في كون الفن يدخل في تركيب النفس البشرية، بصرياً وعلى صعيد المعنى اللروحي للوجود، فالأعمال الخطية المعمارية تستقل كنصب تنتمي إلى كل زمان أي أنها غير خاضعة للتاريخ رغم أنها تمتاز بالخبرة الواسعة في مجال الإبداع الفني والجمالي.
وهذا يعني أن الفنانين يوسعان من رؤيتهما ليجعلا رسالتهما وليدة عدة عصور سابقة مثلما هي وليدة الحاضر كموقف من الوجود والأزمان والاغتراب، حتى أن اللون الأبيض لون الأعمال لدى أياد الحسني يذكرنا بكل ماهو طاهر ومقدس، فالفن عنده نوع من العبادة، لون الفن لا يختلف من العمل الصالح والأخلاقي من الطراز الرفيع الجليل، وهذاالإيحاء اللوني يرتبط بالنحت والعمارة على نحو متماسك أو جميع هذه العناصر تكون في الأخير وحده عضوية لجماليات تكاد تكون مضاد لكل ماهو نقص أو مباشر في التجارب الحديثة الأكثر ترفاً أو الباذخة بمشكلات آنية أو خاضعة للتلف أو الزوال .
فاستلهام روح الخط، ذلك السر الكائن في اللغة المقدسة،كل لغة تريد أن تصر علماً ميتافيزيقياً خالداً.
فتجربة كتابة العربية وعشقها حد التصوف إنما مع احترام مثمر للعلوم الحديثة، وللتقنيات المعاصرة التي تقوي الإيمان وتزيل كل شك باطل في الدنيا وزمنها الفاني، فالكتابة أو الخط تذكار الرفاهية روحية عميقة نابعة من نفس صافية تواجه عصرنا هذا المضطرب والشائك والفاسد في كثير من جوانبه.
ففي النحت تصميم أياد نماذجه بلغة الموسقى, لأن النحت عنده لا ينقى إلى التشخيص بل الى الحلم الروحي الواعي الذي يراه بالقلب.
كذلك المعمار لدى مصغرات السامرائي ومحمد شعراوي التي يكون بعداً إيحائياً لخيال الفنان تجاه أمانيه ونياته.
وفن المعمار يمنح بعداً لاينفصل عن النحت ولا عن دخول الحرف فيهما، فعملية الدمج جاءت للخروج من أزمة التقنية التقليدية التي يعيشها التشكيل العربي اليوم، ومعنى هذا أن الأعمال المنجزة مصححة لتنفذ كنصب تذكارية لا أن تكون مجرد أعمال فنية.
فالوعي بالخروج من أزمة التقنية التقليدية ومنعها ألى الخروج الى الفضاء الكبير بخطاب يوازي الخيال الخصب الذي يجعل من الفن لغة يومية قائمة على الأساس الروحي ومنفذه بخبرة وحساسية تناسب توجهات الموضوع الفني أصلاً.
بينما يعيد السامرائي الأرابيسك الديني في المسجد في الخزف من خلال ألوانه :
الأزرق،الشذري، الأبيض، ولون الذهب إلأى اختصار ذلك المعمار الديني في عمل تتركز جماليته ودلالته الرمزية في نحت خزفي يواجه الملتقى بحروفه وكلماته المقدسة والتي تبدو احياناً كصفحة من كتاب مقدس كتب في القرون الأولى للهجرة. وعبر تلك الثنايات والكتل يترك الزمن بصماته على الأثر الجمالي الذي يعمق قيمة المعتقد والكلام المقدس.
وتخاطب هذه التجارب حداثة تستلهم المنطق الجمالي للنقد الإسلامي بلغة جديدة تناغم في آن واحد مع الخطاب العربي الأصيل لقيمة الجمال، ومعناه وأركانه وثوابته، وفي ذات الوقت تعيد ترتيب العناصر ومكونات العمل الفني وفق رؤية جديدة تمتد في الخطاب الجمالي المعاصر.
1 / الاتجاه الأول
( استلهام القيمة الرمزية للحرف العربي )
في إطار من الفلسفة التصويفية، كما هو الأمر لدى الحلاج أو النفري العديد من التجارب الحروفية إعادة تكوين اللوحة بأعتبارها ذلك السر أساس وقفها البصري الرمزي المجرد في اللوحة بأعتبارها ذلك السر الكامن الذي تبحث مغاليقه عن مفاتيح له عند المتلقي، والوصول بالحرف إلى قيمة بذاته وفي ذات الوقت لايؤدي تلك الجمالية التي أحاطت بمناخها الفكري، وتجريد الحرف عن هذه القيم كما هو الأمر لدى الفنان شاكر حسن آل سعيد إنما يعيد للحرف العربي تلك القيم لما قبل البدائية أوتلك الرموز التي نجدها على اللقى الأثرية أو تلك الإشارات التي تتركها الحضارة على جدرانها ومسلاتها، دون أن تعني شيئاص إلاّ كشاهد على وجود تلك الحضارة بواسطة ما يعبر عنها من رموز ودلالات.
وهذه المعاجة إنما تطلق الحرف كقيمة حضارية لاتختص بالحضارة العربية رغم كون الحرف العربي الدلالة إلا أنها تنتمي إلى الأفق الأوسع في الحضارة الإنسانية ممتدة من الماضي إلى المستقبل ممروراً بالحاضر.
وهذا يعني أننا أمام تجربة فنية يدخل التاريخ طرفاً أساسياً في رسم مساراتها وقيمتها الجمالية.
وتمنح هذه التجارب حرية واسعة للفنان في صياغة خطابه الجمالي على أساس قيمة التجربة ةالذاتية للفنان ورؤيته الفكرية وإطارها الجمالي.
لا شك أن المنهج الفكري هنا يستعين بشكل كبير بالمفاهيم الأوربية التي سادت مع ظهور المدرسة التجريدية ومن بعدها التعبيرية كما تجسدت بأعمال بول كلي وكاند منسكي منذ قرن من الزمان، والتي كانت تسعى بفضل الفن من محيطه لتحويله إلى عالم قائم بذاته يعاني من الكثير من التفكك والاغتراب.
بينما تؤكد أعمال يوسف أحمد تلك الموسيقى الغنائية الخفية الناتجة عن إيقاعات الحروف بنسبها وألوانها وتبادلاتها، مذكرة بذلك الأرابيسك العربي ومن تكوينات تستوحي الجمال العربي الإسلامي ومن صيغ إبداعية جديدة.
وهو هنا علىرآي شنجبلر : ( إن كل فن هو لغة تعبير، أو كما يرى بنرتو كروتشه ( بأن الفن تعبير أولغة تعبيرية يقوم فيها الفنان عبر عملية الإبداع بتقديم شئ جديد يختلف عن الواقع المعاش إن كان ينبثق منه في معظم الأحيان.
ويوسف أحمد في أعماله إ،ما يسعى إلى أن يكون للواقع معنى مغاير للمعاني السائدة، أي أن عليه مهمة اكتشاف عالم جديد لاغبار عليه باعتبار عملية الخلق التي تعيد تنظيم الحياة وفق رؤية الفنان وفلسفة الجمالية وفي مقدمتها مسألة التعبير.
بينما تعيد لنا أعمال محمد عبد العال ذلك الزمن الطفولي في مداعبة الخطوط والألوان وتناغم المسامات بطريقة تعتمد تلك العفوية والجرأ والتنظيم في التكوين، وهو ما يتفق مع أسلوب وتكوينات سعد العدوي الذي يستمد دلالاته التكوينية من ذات المناخ العام للوحة على أساس التناغم في العناصر والأسس والعلاقات الناشئة بينهما.
وتذكرنا دقة التفاصيل والأنتطام في أعمال قويدر التريكي بجانب من أعمال المنمنمات التي تمثل جزءاً حياً من الخطاب الجمال العربي.
الإسلامي في أطار من الروحية الزخرفية التزويقية التي تمنح لذاتها أبعاداً جديدة وهي في ذات الوقت تعيد تشكيل الخطاب الجمالي وفق رؤية عربية معاصرة تؤدي فيها الايقونات وقعاً بصرياً حداثوياً.
3 / الاتجاه الثالث :
(الخط العربي كقيمة توضيحية ).
وهو الجانب الذي ارتبط به الخط العربي في أدائه الوظيفي للتعبير عن الأفكار والمواضيع كوسيلة لغوية وضمن منطقها الجمالي الذي توارثه الخطاطون في قواعده وأصوله، وهنا يحاول الفنان استخدامه كوسيلة أيضاحية تربط بطريقة دلالية بين النص اللغوي الذي يحمله الحرف العربي من ناحية ومن ناحية ثانية يشكل علاقة وثيقة بمفردات وعناصر اللوحة الاخرى. بحيث يشتركان الرسم والخط العربي في معنى مفاهيمي واحد، وهو مادامت عليه عليه العديد من الأعمال الفنية العربية، وتسعى هذه المحاولات إلى طرح المفهوم الترث الشعبي في إطار جمالي يمتلك مقدرة تعبيرية وبتأكيد كخطاب جمالي موجه مرتين بالحرف والصورة، وهو ما نجده في أعمال مصطفى فروخ أو في أعمال عبد الله المحرقي.
تؤشر هذه الأعمال قيماً جمالية تداولية بسبب وضوح خطابها الجمالي ولما تتمتع به من قدرة على التعبير عن مضامينها الدينية والاجتماعية والأوربية.
وعما يؤخذ على مثل هذه التجارب هو اعتمادها على تقنيتين مختلفتين على مستوى المادة وطريقة معالجتها واستخدام أدوات مختلفة، مما يشكل أسلوبين مختلفين على مدى رؤية العمل الفني الجمالية في صيغتها النهائية، لاشك أن التعبير كقيمة أساسية في العمل الفني تعتمد شكل أساس على المادة وطريقة صياغتها أي إن استخدام الفرشاة وألوان الزيت ذات اختلاف كبير عن تقنية الخطاط وأدواته في الحبر والورق والقلم وقد تقاوم المادة الخام الفكرة أثناء صياغتها لذا فان مهمة الفنان هنا هي إعادة تنظيم المادة الخام وتطويعها بما يتلائم والفكرة الأساسية لرؤيته.
بينما تنحى بعض الأعمال باتجاه الميل الى الاختزال وإعطاء المعالجات التصميمية لسطح اللوحة الفنية أهمية أولى في الرؤية البصرية التشكلية ورغم اعتماد بعض هذه التجارب على اقتباس أعمال خطية لكبار الخطاطين واستعارتها في لوحاتهم بعد معالجتها تكوينياً ووضعها بطريقة لاتتفق كثيراً مع منهج الخط العربي كنص لغوي وبصري إلا أنها بالتالي تعيد قراءة اللوحة العربية وفق رؤية جمالية معاصرة، تجعل منها أقرب إلى لوحات التصميم، كماهو الأمر لدى الفنان هاشم سمرجي في تكويناته الحروفية.
ويضيف هذا الإتجاه أسلوباً جديداً في معالجة اللوحة سواء على مستوى الشكل أو الفكرة أو التقنية في محاولة لخلق علاقة بين المنطق الجمالي للخط العربي بما يحويه من عناصر متعددة فضلاً عن النص الذي يحمله ذلك الخط ودلالة للغوية ، والمفاهيمية من جهة واختلاف الرؤية المعاصرة على مستوى الجوانب الثلاثة المذكورة وهو بذلك إنما يخلق إشكالية جديدة في انتمائها لأكثر من منطق جمالي أو رؤية فكرية قد تكون مختلفة أحياناً ومتقاطعة أحايين أخرى.
4 / الاتجاه الرابع :
(الحرف العربي كنسق تأويلي )
لاشك أن الحرف العربي مصدر ثراء فكري وفني وجمالي وأولى صوره البسيطة كانت تحمل تلك الملامح الأساسية فيه وأول مظاهرها الوظيفيةوالجمالية هي صفحات تلك المخطوطات التي كانت تنسخها الوراقين والخطاطين في المصاحف والدواوين والمعارف والعلوم، فكانت أبسط المفاهيم الجمالية فيها تلك العلاقة الناشئة بين الحبر الأسود أو البني والورق وما تتركه هذه العلاقة من إيقاع بين المساحات التي تشغلها الحروف والأرضية كفضاء يحتوي تلك النصوص المزدحمة والمتجهة افقياً تارة أوعمودية أو مائلة تارة أخرى.
وهي بهذه الصورة انما تشكل نسيجاً إيقاعياً ذو تأثير بصري مباشر يجعل من الرؤية قوسيقى بصرية تدركها العين كما هو الأمر بتلك الموسيقى التي تدركها الأذن.
وفي حالات الوجد والعشق الروحي كان الخطاط يعيد كتابة الحروف مرات ومرات لغرض الكشف عن ذلك الصوت الخفي الذي ينضم ارتفاعاته وانخفاضاته، ثم يكرر ذلك بما يجعل صفحة الورق تتكمل بالسواد ( التسويد ) في الحروف وتشكيلاتها حتى لاتكاد ترى مساحة بيضاء.
وعندما يتكرر الحرف بصورة طبيعية كناتج ل (مشق ) الخطاط إنما هو ينتقل كل خصائصه الجمالية والتكوينية إلى مساحة أخرى ترتبط بإيقاع وتناسب وتكوين يؤكد صلاتهما الوثيقة أو إن كانت هذه الوسيلة التكرارية تنحى منحنى زخرفياً في إيقاعات قد تكون متناقصة أو متزايدة أو رئيسة أو عكس ذلك، إلا أنها في النهاية تتبلور كرؤية جمالية تستمد قيمتها من الخطوط بجهد إنساني خلاق ذو تقنية خاصة طالما توجت أعمال الوراقين والنساخين والخطاطين.
واستلهام هذه الرؤية إنما يجسد ذلك العمق الحضاري للخطوط ودوره قبل ظهور الطباعة كمحور للفكر والفن والجمال وكوسيلة لتنفيذهم.
وتتجهة أعمال العديد من الفنانين المعاصرين هذا الاتجاه كرؤية جمالية.
ومن المؤكد أن المعالجات الذاية لكل فنان تضعي عليها طابعاً خاصاً يمنحها قيمة أسلوبية كانت في الأصل بعيدة ةعنها ليس لضعفها وانما لانتمائها الجمعي كقيمة جمالية لا تشكل ناتجاً فردياً وإنما رؤية جماعية لقيمة الفن ومعنى الجمال.
وتبرز في هذا المجال أعمال الفنان نجا المهداوي التي تأخذك أعماله يعاطفه ذلك الجهد الخلاق التي بيذله الخطاط العربي في النسخ والتكرار معطرة سطورها بعبق الزعفران وأريج المداد وأصوات القصب. ولكنها هنا تعيد ترتيب سردها لتجعل من السطور والكلمات والحروف قيماً تكتنز بينها الكثير من الدلالات البصرية، فهي تارة دقيقة وأخرى سميكة يطفى عليها السواد على كتلها وحركاتها وإيقاعاتها.
كما يؤكد رشيد القريشي هذا النهج في أعماله الفنية عندما يجذبك ذلك البناء الحروفي الذي تتصدر اللوحة بطريقة مطلقة ومتناغمة ومنسجمة وكانها قد أحسن رسمها خطاط في دلالة بصرية فائقة.
بينما لايبتعد رفيق لحام في لوحاته عن هذا المنهج الذي يتبعه الخطاط عندما يرص الحروف أو يقاطعها أو يوازيها فيخلق الحرف إيقاعات متناغمة حتى وإن لم يكن الفنان يقصد إيجاد تلك الإيقاعات والنغمات.
وهي بذلك إنما تشكل نسقاً بصرياً يعيد ترتيب حروف الخط العربي وفق ذات المنهج ولكن بنتائج مختلفة.
وتبرز إشكاليات التقنيات التصميمية وطريقة معالجتها للخروج بتقنيات تنفيذية, أي أن العديد من اللوحات التي كانت تحمل خصائص تكويناتها إنما أضيف لها تقنيات جديدة عليها وأحياناً غربية ثم تم طبعها بالليثوغراف أو الزنك أو النحاس كماهي أعمال الفنان ..........
ويقترب الفنان نذير نبعة كثيراً في معالجة سطحه التصويري من رؤية يحيى الواسطي في عملية السرد التي يكتنفها الخط والرسم ليكتمل بعضها البعض الأخر. في إطار تزويقي وجمالي أخاذ، فهو تارة يؤكد وظيفة سردية وروائية، وأخرى شكلية وجمالية، رغم أن لونها الوحيد هو ذلك اللون الذي اعتاده الوراقين في استنساخ الكتب والمؤلفات الحبر الأسود على الورق.
كما تذكرنا أعماله بذلك الموروث الحي للشعوب العربية في تطرها الإنثربولوجي من خلال الحكاية والرواية في أبو زيد الهلالي وعنترة العبسي، أي أن قيمة الجمال تدخل في صميم التجربة الاجتماعية لنشكل معها نسقاً ونسيجاً واحداً وإن كانت للموروث أقرب منها للمعاصرة, وهذا لابد من أن يعيد صياغته رؤياه الفنية وفق أساس إبداعي مغاير .
ويعيد محمد غنوم للحرف موسيقاه بتلك التكرارات الإيقاعية المتزايدة والمختلفة وبأتجاهات متعددة بطريقة تكتسب منحنى زخرفياً. إن المعالجة اللونية نأخذ المنحنى الزخرفي في طريقة التكوين معتمداً طريقة تقنية تتوسط تقنيات الخطاط في مداته وتدويراته.
لاشك أن الفيصل في انتماء اللوحة للحروفية من عدمها من خلال وجود الحروف كعناصر تكوينية تنميها ويكاد هذا الحرف عن بنيته اللغوية في أعمال حسين ماضي حتى لاتكاد يميز حرفاً فيها وقد تعمد الفنان ذلك ليعيدنا إلى ذلك النسيج الزخرفي العربي وليستلهم حركة الخط واتجاهات الحروف وطاقاتها الكامنة في خلق خلخلة بصرية مرة بالأشكال وأخرى بالحركة وثالثة بالألوان. حتى تكاد تطالبنا بصرياً تلك المفردات المتكررة بطريقة زخرفية ليس غريبة عن المنطق الجمالي للفن الإسلامي. ومابين هذهالدلالات وإيقاعات العناصر يعيد حسين ماضي بناء ملامح الخط المسند الحميري أو يذهب أبعد من ذلك إلى مفردات الأبحدية السومرية.
ان القيمة الفلسفية والحضارية لتجربة الحروفية أو استلهام الحرف داخل اللوحة التشكيلية هي محاولة ذات اتجاهين في أساليبها الذي ذكرنا وهذين الاتجاهين هما علمي وتجريبي, لأجل المقارنة بين عالمين مختلفين في الفكر والتقنية وهما (عالم الحرف ) اللغوي و (عالم البعدين والثلاثة أبعاد ) التشكيلي. وهنا تظهر إشكالية الجمع بين عالمين أحداهما إنساني وأخر لاإنساني لأنها تتجاوز عالمها الذاتي نحو افقها الكوني.
ومثل هذه التجارب تحتوي على أكثر من محاولة تشكيلية,المحاولة الأولى تشكيلية ترتيط بعاملها الزمكاني والثانية كقيمة لغوية مرتبطة مرتبطة بعاملها الزماني وهذا يعني ان الفنان لايريد فقط أن يناقش الوجود المكاني أو الزماني بل كليهما معاً وفي آن واحد.
إن محاولة إدخال الحرف في ذاتها عملية توسيع لرؤية الفنان بحيث تصبح التقنية محاولة تلصيقية من خلال الجمع بين الحروف من جهة والمفردات التشكيلية من جهة أخرى ومن خلال هذه المزاوجة يبرز الحرف من الناحية التقنية كشاهد من شواهد عالم اللغة عند حضوره كعناصر على السطح التصويري، ولكنه يبقى محاطاً بهالة من عالم القيم اللغوية فضلاً عن علاقته بالمنطق الجمالي للخط العربي.
إن التنوع الهائل في تقنية استخدام الحرف أثرت اللوحة التشكيلية العربية المعاصرة بأن طرحت العديد من التأويلات الجمالية من خلال أساليب الكتابة التي تشبه إلى حد كبير كتابة الأطفال ذات العفوية البالغة، أو بأسلوب الكتابة على الجدران التي يترك الزمن اثرها عليه كالشقوق والكسور والانثلامات أو الخط المنحق المكتوب بإجادة في اللوحات الخطية العربية.
وفي كل الأحوال فان هذه الكتابات ذات قدرة واضحة على التعبير عن القلق والعفوية والخوف كما أنها زاخرة بإشارات التعمية والكبت والتضليل.
إن المناخ الحروفي العام في تجربة الحروفين العرب غالباً ما كانت تستذكر كل تلك الأنواع الخطية التي تداولت عبر تاريخ ( كالثلث والنسخ والديواني والتعليق والكوفي ........الخ ) رغم عدم مقدرة فناني تلك اللوحات على إجادة تلك الخطوط وبالتاكيد لم يكن في أي حال من الأحوال ان يتحولوا إلى خطاطين في لوحاتهم التشكيلية.
إنها شواهد بلاغية على كل التراث الرمزي والصوري والصوتي والتأويلي للحرف العربي على مدى تاريخه الطويل ودوره الجمالي وما يتميز به من خصائص في شكله ومطاوعته في التعبير والتبديل كانغام الموسيقى وإيقاعاتها.
ولم تكن هذه الخصائص والصفات لتستولي على عقول الفنانين العرب وأذواقهم، بل غالباً ما استهولت العديد من الفنانين الأوربين، أمثال
( كلي، وميرو، وباومايستر، وآراب،وتابس،وكلاين،ونوفيللي،وراوشنبرك،وهارتنك وآخرين )
هكذا دخل الحرف العربي في تاريخ الفن الجمالي بشخصية تأملية وتعبيرية جديدة معبراً عن التقاليد الفنية في الحضارة العربية الإسلامية كبعد روحي ووظيفي وشكلي وجمالي معاً.
مرفق 1 /
وبتقنية خطاط من خلال الأثر التي تتركز فرشاه علي حسين تعيد لنا استذكار تلك التقديرات والارسال والاستدارات التي تكون الحروف العربية إلا أنها هنا لا تدل إلا على تلك الحركات الكامنة في الخط واتجاه وهو ما كانت تتميز به الخطوط العربية التي كانت توصف بالسعي الدائم والدؤوب للحركة باتجاهات مختلفة مستوحية من حركة الأرابسك ( التوريق ) قيماً جمالية تدل على ديمومة الحياة من خلال ما يتركه الإنسان من فكر وحضارة وهو بهذا ليس بحاجة إلى تزويق لوحاته وإنما تكتفي بذلك الألق التي تميزت به المخطوطات العربية التي اقتصرت على الحبر والورق .
قد تذكرنا بعض ملامح اللوحة وحركة الحروف واتجاهها العمودي بما امتازت به كتابة أمم وشعوب أخرى في شرق أسيا وهذا لا يتقاطع مع القيمة الحضارية بقدر ما يعزز أهميتها ووجودها كنتاج للفكر الإنساني أينما وجد.
مرفق 2 /
ويعيد لنا محمد شعراوي فكرة بناء العمل الفني التصاعدية ومن خلال بناء النص في الخط العربي مذكرنا باللقى الأثرية الجدارية أوشواهد القبور ولكن بطريقة تشكل إبداعياً متوائماً بين الحروف المستلهمة من الكتابات الحيرية والمكية والمدنية ومن ثم جاء بعدها في الخط الكوفي الغير منقوط في صدر الإسلام. وهو بنفسه هذا لا يبتعد عن بنية الخط العربي رغم معالجة تكوينه بمادة مختلفة ألا وهي الخزف.
وقد شهدنا طيلة العصور الإسلامية استخدام مواد مختلفة لتفيذ الخط العربي وبتقنيات متعددة. وفكرة التكرار هنا تستمد قيمتها الفنية من سطر الكتابة الذي شبهه ابن متصلة ( بالسمط ) الخيط الذي تنتظم منه حبات اللؤلؤ.
وسطر الكتابة ذو أهمية بالغة في أنتظام الحروف والكلمات والجمل في اتصالهاوتركيبها ووصلها ولكنه هنا يلغى بطريقة إبداعية الفراغات الحاصلة بين السطور ليعيدنا إلى فكرة المشق الذي قام به الخطاط في ملئ صفحاته بالحروف.
وتنفيذ ذلك على مادة الطين ومن ثم مخزنا يمنحنا ذلك النحت الفخاري البارز الذي يجعل من توزيع الضوء على سطح الحروف اللون الأساسي الذي يمنحها قيمة جمالية إبداعية. فما بين الثنايا والخطوط الفائرة الداكنة وبين السطوح البارزة وسطوعها تتشكل إيقاعات حروفه كإيقاعات الخطوط ووظائفها الجمالية عبر العصور الإسلامية.
.
تستوحي أعمال ضياء العزاوي مناخها الروحي من جدلية المناخ العام الذي كان يحيط بالمعلقات الشعرية العربية، وماتكتنفه من معاني في القيم العربية الأصيلة، كالفروسية والبطولةوالمواقف التي تحلى بها العربي، وهذا ما تؤكده طريقته في استخدام الحرف العربي الذي تقترب صورته من الصورة العفوية التي كانت شاخصة في الكتابات القديمة، ولاتبتعد هذه الكتابة عن مناخ اللغة العام الذي يحيط بها، فهي تتناول غالباً أبياتاً شعرية ونصوصاً ذات دلالات لغوية تؤدي وظيفتها الفعلية كنص في تأويل اللوحة من ناحية وكأحد العناصر التي تشكل نسج اللوحة، بل أهم عناصرها، وتؤكد قيمة التضاد الكبيرة الناتجة عن التقاء الحبر على الورق بطريقة كرانيكية ابتعادها عن اللون وتأثيراته التزويقيةالتي يمارسها المزخرف، لصالح المعنى العام الالطبيعة لتكوين الذي يستقي دلالاته الأساسية دور المعلقة في البيئة العربية الجديدة التي تهدف ىإلى استنهاص الهمم وإشاعة القيم وإحياء كل دلالاتها ودورها.
رغم سيادة الكتابات الشعرية ماتثيره حركاتها الإيقاعية من رمزية وسحرية نتيجة لحركة الحرف الدينماكية إلا أن العديد من العناصر
التي تشترك في التكوين، فالؤوس المختزءة، والأيدي المتحركة، والعيون الشاخصة، والضلال القاتمة وسنابك الخيل وضرب حوافرها كلها تدل على صدى الوقائع والغزوات في الدفاع عن مجد الفبيلة التي استعارها الفنان كوحدة اجتماعبة لا تختاف بمدى كبير عن المجتمع بأوسع صوره، وهنا يؤدي الحرف العربي قيماً جمالية على شكل إيحاءات لاتخلو من عنفوان وقوة فضلاً عما تثيره قيمها اللغوية.
تنقسم أعمال الصكار الى منهجين مختلفين، الأول تمثل مجموعة الأعمال التي لا تختلف كثيراً من عما جادت به قريحة الخطاط العربي الذي أجاد المشق ووجود الحروف ورسم ترويساتها ووفقاً للقواعد، والأصول التي توارثها، وكانت تحتوي على كتابات بالخط الكوفي للقرن الأول للهجرة.
مبررزاً فيها نقاط الحروف الحمراء والملفوفة، ومضيفاً لها كتابات بالخط النسخي، مستعيداً فيها لوحة الخطاط العربي بقى من البساطة وكثيراًَ من الإتقان، ومؤكداً بالدرجة الأولى على ما تحمله هذه الكتابات والنصوص من دلالات في المعنى اختبرها الصكار بدقة من خلال مقدرته الأدبية وشاعريته الحالمة في قراءة النص من وجوه عديدة، وتأويله بطريقة يخدم الانتشاء والتكوين الفني.
أما المنهج الثاني الذي يستلهم الحرف عبر الكتل والمسامات للوصول الى ما يثيره ذلك من إيقاعات وتنوع في وحدة فنية تجعل من النص جزءاً لا يتجزأ من التكوين، والإيقاع الذي يسعى إليه الصكار هو الناتج عن إلتقاء الحروف العمودية والافقية من جهة وماسماه الخطاطين بالحروف الملفوفة والمجموعة من جهة أخرى .......... يظفي السواد على كتلة موسيقى خفية مختلفةالإيقاعات بأختلاف دلالاتها الجمالية.
إن التنوع البصري يستعيد استقراره على تلك الحروف الأصلية لخط النسخ العربي والممتدة على سطر الكتابة في نص تدل معانيه على اكتمال الرؤية لدى الصكار. فموسقاه مما بلغت مدياتها إلا أن لها مسارات تمتد إلى ذلك إلارق الأصيل لتعيد قراءة المخطوطة العربية وترسم لها ملامح جمالية عربية جديدة معاصرة.
منذ بدايات الإنسان الأولى، كان البحث عن وسيلة للتعبير هدفاً حقيقياً في التواصل مع بني جنسه وبيئته وإن اختلفت هذه الوسائل من بيئة إلى أخرى أو من زمان إلى آخر.
إلاأن النتيجة التي تمخضت عن ذلك هو الوصول لغة كانت تارة مكتوبة أو مقروءة أوإشارية أو حركية أو أيقونية، وصول الإنسان إلى اللغة إنما فتح الباب أمامه للتعبيرعن أولى تلك المشاعر والانفعالات والهواجس، وكل ما يجول بخاطره ويحدد علاقته وموقفه بالآخرين والبيئة وما تكتنفه في الزمان والمكان.
وهذه كقيمة إنما تحدد تقريباً موقف الإنسان من الفكر الحضاري والمدني في تعمير الأرض ونشوء الوعي باعتباره من أعلى القيم الكبرى التي تعمل على ديمومة الحياة واستمرارها.
ولعل أولى تلك الوسائل التي اعتمدها الإنسان في التعبير هي تلك الرسوم على جدران الكهوف والتي كان يرسمها لأهداف عديدة قد تكون اجتماعية أودينية أو اقتصادية أوتحمل طقوس معينة كان يشعر بحاجتها وضرورتها.
إلا أن حقيقة تلك الرسوم كانت تشكل أولى مراحل الكتابة التي سميت فيما بعد بالصورية وهي أولى الأبجديات القادرة على التعبير والتواصل، ومن الطبيعي أن ترتقي وسائل الإنسان وأدواته بارتقاء فكره ونشاطه واكتشافه لقوانين الحياة والمادة، فأصبحت وسيلة تواصله "لغته "رمزية ثم مقطعية، وقطعت حقب زمنية طويلة وصولاً إلى الأبجديات المختلفة باختلاف أمم الأرض والشعوب، وكان كل من هذه الأبجديات تشكل على مستوى الشكل والمعرفة انعكاساً لتلك البيئة والثقافة ومجموعة القيم والمنظومات المجتمعية لتلك الأمم.
وهكذا شكلت الأ بجديات أعلى مراحل تطور وسائل الاتصال الأنساني.
منذ بدايتها كأشكال مرسومة وحتى وصولها إلى أشكال في أعلى مراحل التجريد في الشكل الذي اقترن بالصوت بعد إن كان صورة فقط.
كانت أولى مظاهر نشوء الأبجدية ومن ثم اللغة، كوعاء للفكر ووسيلة لنقل العلوم والمعارف وكتابة التاريخ التي حفظت الحضارة الإنسانية في كل صفحاتها هي عملة لتدوين، أما الحروف العربية فلم تكن لتبقى وسيلة لنقل تلك الأفكارفحسب، وإنما أصبحت العلاقة وثيقة من خلال تمثل الأشكال الخطوط العربية بالبيئة العربية وما فرضته العقيدة الإسلامية من قيم في الوفاء والصدق والإخلاص والأمانة والتي كانت
تشكل المبادئ الأساسية للإنسان في علاقته بالمجتمع والبيئة.
من هذا المنطلق ظهرت أشكال متعددة للخطوط العربية وعبر عدة قرون بأنواع مختلفة وكان كل منها يؤدي وظيفة مختلفة وأصبح لهذه الاشكال قيماً جمالية لها تقاليدها وظوابطها ومنطقها الجمالي الخاص الذي يعبر بصورة واضحة عن الثقافة العربية الإسلامية، وكان هذا التنوع والتعدد مصدر ثراء في قيم المجال كماهو الأمر في مجالات الفكر والفلسفة والادب والشعر والعلوم التي ازدهرت في القرن الرابع الهجري.
من هذا المناخ العام تستقي العديد من الأعمال الفنية العربية قيمتها الجماليةفي أساليب شتى، ولاشك أن الخط العربي بمنطقه الجمالي الخاص يعد فنياً جميعاً وليس فردياً فقد اجتمعت كل أسباب ومفردات الجمال العربي لإرساء قواعده وأصوله طيلة قرون عديدة بما يجعله يشكل بنية شبه مغلقة لا تقبل الإضافة أو الحذف، ليس بكونها تجربة عقيمة وإنما يحتاج أنقاصها ثانية إلى استدعاء كل تلك القيم التي نشأت وتطورت بسببها عبر أربعة عشر قرناً من الزمن.
وفي ضوء ذلك يعد الخطاطون الخروج عن القواعد والأصول والموازين الموروثة في الخط العربي انهياراً لمنطقه الجمالي .. ذلك أن هذا الفن ينتمي إلى المنطق الجمالي في الفنون الإسلامية عموماً الذي ينظم ويعيد للتجربة الإنسانية علاقتها الوثيقة بخالقها، ولتجعل من الخالق مبدعاً ومن الإنسان مخلصاً متقناً.
وفي خضم التجربة العربية الجمالية تبزغ لنا اتجاهات متعددة في استلهام الحروف العربية في الأعمال الفنية التشكيلية ذات البعدين وذات الأبعاد الثلاثة، ليس على أساس ما يشكله الحرف من نسق داخلي في المنظومة الحضارية وما تحويه من رموز وإشارات وأيقونات.
على هذا الأساس فاننا نستطيع التمييز بين مجموعة الأعمال التي تناولت الحرف العربي في تكويناتها وبنائها الفني في الاتجاهات
الآتية :
2/ الاتجاه الثاني :
(استلهام المنطق الجمال للخط العربي )
وهو ما يظهر بصورة واضحة في تلك التجارب الفنية التي حافظت على قوانين الحرف وقيمته الجمالية كتجربة حضارية أصلية تمتد في عمق التاريخ العربي وتعكس هويته وإنسانيته وتلاقح هذه التجارب دون تكرار لما اعتاده الخطاط وذلك باعتماد صيغ وعناصر أخرى تجتمع مع الحروف كالكتلة واللون والاتجاه والملمس والعديد من العناصر والمبادئ الأخرى المتمثلة بخزف ماهر السامرائي ومنحوتات أياد الحسني، التي زاوجت بين المطلق والحياة، بينما كان الأرابسك يلتصق بالمعمار الديني ويرتبط بأفكار إستعمالية محددة, وهذه التجارب تمنح الفن حرية أكبر في فهم الإبداع الفني في كون الفن يدخل في تركيب النفس البشرية، بصرياً وعلى صعيد المعنى اللروحي للوجود، فالأعمال الخطية المعمارية تستقل كنصب تنتمي إلى كل زمان أي أنها غير خاضعة للتاريخ رغم أنها تمتاز بالخبرة الواسعة في مجال الإبداع الفني والجمالي.
وهذا يعني أن الفنانين يوسعان من رؤيتهما ليجعلا رسالتهما وليدة عدة عصور سابقة مثلما هي وليدة الحاضر كموقف من الوجود والأزمان والاغتراب، حتى أن اللون الأبيض لون الأعمال لدى أياد الحسني يذكرنا بكل ماهو طاهر ومقدس، فالفن عنده نوع من العبادة، لون الفن لا يختلف من العمل الصالح والأخلاقي من الطراز الرفيع الجليل، وهذاالإيحاء اللوني يرتبط بالنحت والعمارة على نحو متماسك أو جميع هذه العناصر تكون في الأخير وحده عضوية لجماليات تكاد تكون مضاد لكل ماهو نقص أو مباشر في التجارب الحديثة الأكثر ترفاً أو الباذخة بمشكلات آنية أو خاضعة للتلف أو الزوال .
فاستلهام روح الخط، ذلك السر الكائن في اللغة المقدسة،كل لغة تريد أن تصر علماً ميتافيزيقياً خالداً.
فتجربة كتابة العربية وعشقها حد التصوف إنما مع احترام مثمر للعلوم الحديثة، وللتقنيات المعاصرة التي تقوي الإيمان وتزيل كل شك باطل في الدنيا وزمنها الفاني، فالكتابة أو الخط تذكار الرفاهية روحية عميقة نابعة من نفس صافية تواجه عصرنا هذا المضطرب والشائك والفاسد في كثير من جوانبه.
ففي النحت تصميم أياد نماذجه بلغة الموسقى, لأن النحت عنده لا ينقى إلى التشخيص بل الى الحلم الروحي الواعي الذي يراه بالقلب.
كذلك المعمار لدى مصغرات السامرائي ومحمد شعراوي التي يكون بعداً إيحائياً لخيال الفنان تجاه أمانيه ونياته.
وفن المعمار يمنح بعداً لاينفصل عن النحت ولا عن دخول الحرف فيهما، فعملية الدمج جاءت للخروج من أزمة التقنية التقليدية التي يعيشها التشكيل العربي اليوم، ومعنى هذا أن الأعمال المنجزة مصححة لتنفذ كنصب تذكارية لا أن تكون مجرد أعمال فنية.
فالوعي بالخروج من أزمة التقنية التقليدية ومنعها ألى الخروج الى الفضاء الكبير بخطاب يوازي الخيال الخصب الذي يجعل من الفن لغة يومية قائمة على الأساس الروحي ومنفذه بخبرة وحساسية تناسب توجهات الموضوع الفني أصلاً.
بينما يعيد السامرائي الأرابيسك الديني في المسجد في الخزف من خلال ألوانه :
الأزرق،الشذري، الأبيض، ولون الذهب إلأى اختصار ذلك المعمار الديني في عمل تتركز جماليته ودلالته الرمزية في نحت خزفي يواجه الملتقى بحروفه وكلماته المقدسة والتي تبدو احياناً كصفحة من كتاب مقدس كتب في القرون الأولى للهجرة. وعبر تلك الثنايات والكتل يترك الزمن بصماته على الأثر الجمالي الذي يعمق قيمة المعتقد والكلام المقدس.
وتخاطب هذه التجارب حداثة تستلهم المنطق الجمالي للنقد الإسلامي بلغة جديدة تناغم في آن واحد مع الخطاب العربي الأصيل لقيمة الجمال، ومعناه وأركانه وثوابته، وفي ذات الوقت تعيد ترتيب العناصر ومكونات العمل الفني وفق رؤية جديدة تمتد في الخطاب الجمالي المعاصر.
1 / الاتجاه الأول
( استلهام القيمة الرمزية للحرف العربي )
في إطار من الفلسفة التصويفية، كما هو الأمر لدى الحلاج أو النفري العديد من التجارب الحروفية إعادة تكوين اللوحة بأعتبارها ذلك السر أساس وقفها البصري الرمزي المجرد في اللوحة بأعتبارها ذلك السر الكامن الذي تبحث مغاليقه عن مفاتيح له عند المتلقي، والوصول بالحرف إلى قيمة بذاته وفي ذات الوقت لايؤدي تلك الجمالية التي أحاطت بمناخها الفكري، وتجريد الحرف عن هذه القيم كما هو الأمر لدى الفنان شاكر حسن آل سعيد إنما يعيد للحرف العربي تلك القيم لما قبل البدائية أوتلك الرموز التي نجدها على اللقى الأثرية أو تلك الإشارات التي تتركها الحضارة على جدرانها ومسلاتها، دون أن تعني شيئاص إلاّ كشاهد على وجود تلك الحضارة بواسطة ما يعبر عنها من رموز ودلالات.
وهذه المعاجة إنما تطلق الحرف كقيمة حضارية لاتختص بالحضارة العربية رغم كون الحرف العربي الدلالة إلا أنها تنتمي إلى الأفق الأوسع في الحضارة الإنسانية ممتدة من الماضي إلى المستقبل ممروراً بالحاضر.
وهذا يعني أننا أمام تجربة فنية يدخل التاريخ طرفاً أساسياً في رسم مساراتها وقيمتها الجمالية.
وتمنح هذه التجارب حرية واسعة للفنان في صياغة خطابه الجمالي على أساس قيمة التجربة ةالذاتية للفنان ورؤيته الفكرية وإطارها الجمالي.
لا شك أن المنهج الفكري هنا يستعين بشكل كبير بالمفاهيم الأوربية التي سادت مع ظهور المدرسة التجريدية ومن بعدها التعبيرية كما تجسدت بأعمال بول كلي وكاند منسكي منذ قرن من الزمان، والتي كانت تسعى بفضل الفن من محيطه لتحويله إلى عالم قائم بذاته يعاني من الكثير من التفكك والاغتراب.
بينما تؤكد أعمال يوسف أحمد تلك الموسيقى الغنائية الخفية الناتجة عن إيقاعات الحروف بنسبها وألوانها وتبادلاتها، مذكرة بذلك الأرابيسك العربي ومن تكوينات تستوحي الجمال العربي الإسلامي ومن صيغ إبداعية جديدة.
وهو هنا علىرآي شنجبلر : ( إن كل فن هو لغة تعبير، أو كما يرى بنرتو كروتشه ( بأن الفن تعبير أولغة تعبيرية يقوم فيها الفنان عبر عملية الإبداع بتقديم شئ جديد يختلف عن الواقع المعاش إن كان ينبثق منه في معظم الأحيان.
ويوسف أحمد في أعماله إ،ما يسعى إلى أن يكون للواقع معنى مغاير للمعاني السائدة، أي أن عليه مهمة اكتشاف عالم جديد لاغبار عليه باعتبار عملية الخلق التي تعيد تنظيم الحياة وفق رؤية الفنان وفلسفة الجمالية وفي مقدمتها مسألة التعبير.
بينما تعيد لنا أعمال محمد عبد العال ذلك الزمن الطفولي في مداعبة الخطوط والألوان وتناغم المسامات بطريقة تعتمد تلك العفوية والجرأ والتنظيم في التكوين، وهو ما يتفق مع أسلوب وتكوينات سعد العدوي الذي يستمد دلالاته التكوينية من ذات المناخ العام للوحة على أساس التناغم في العناصر والأسس والعلاقات الناشئة بينهما.
وتذكرنا دقة التفاصيل والأنتطام في أعمال قويدر التريكي بجانب من أعمال المنمنمات التي تمثل جزءاً حياً من الخطاب الجمال العربي.
الإسلامي في أطار من الروحية الزخرفية التزويقية التي تمنح لذاتها أبعاداً جديدة وهي في ذات الوقت تعيد تشكيل الخطاب الجمالي وفق رؤية عربية معاصرة تؤدي فيها الايقونات وقعاً بصرياً حداثوياً.
3 / الاتجاه الثالث :
(الخط العربي كقيمة توضيحية ).
وهو الجانب الذي ارتبط به الخط العربي في أدائه الوظيفي للتعبير عن الأفكار والمواضيع كوسيلة لغوية وضمن منطقها الجمالي الذي توارثه الخطاطون في قواعده وأصوله، وهنا يحاول الفنان استخدامه كوسيلة أيضاحية تربط بطريقة دلالية بين النص اللغوي الذي يحمله الحرف العربي من ناحية ومن ناحية ثانية يشكل علاقة وثيقة بمفردات وعناصر اللوحة الاخرى. بحيث يشتركان الرسم والخط العربي في معنى مفاهيمي واحد، وهو مادامت عليه عليه العديد من الأعمال الفنية العربية، وتسعى هذه المحاولات إلى طرح المفهوم الترث الشعبي في إطار جمالي يمتلك مقدرة تعبيرية وبتأكيد كخطاب جمالي موجه مرتين بالحرف والصورة، وهو ما نجده في أعمال مصطفى فروخ أو في أعمال عبد الله المحرقي.
تؤشر هذه الأعمال قيماً جمالية تداولية بسبب وضوح خطابها الجمالي ولما تتمتع به من قدرة على التعبير عن مضامينها الدينية والاجتماعية والأوربية.
وعما يؤخذ على مثل هذه التجارب هو اعتمادها على تقنيتين مختلفتين على مستوى المادة وطريقة معالجتها واستخدام أدوات مختلفة، مما يشكل أسلوبين مختلفين على مدى رؤية العمل الفني الجمالية في صيغتها النهائية، لاشك أن التعبير كقيمة أساسية في العمل الفني تعتمد شكل أساس على المادة وطريقة صياغتها أي إن استخدام الفرشاة وألوان الزيت ذات اختلاف كبير عن تقنية الخطاط وأدواته في الحبر والورق والقلم وقد تقاوم المادة الخام الفكرة أثناء صياغتها لذا فان مهمة الفنان هنا هي إعادة تنظيم المادة الخام وتطويعها بما يتلائم والفكرة الأساسية لرؤيته.
بينما تنحى بعض الأعمال باتجاه الميل الى الاختزال وإعطاء المعالجات التصميمية لسطح اللوحة الفنية أهمية أولى في الرؤية البصرية التشكلية ورغم اعتماد بعض هذه التجارب على اقتباس أعمال خطية لكبار الخطاطين واستعارتها في لوحاتهم بعد معالجتها تكوينياً ووضعها بطريقة لاتتفق كثيراً مع منهج الخط العربي كنص لغوي وبصري إلا أنها بالتالي تعيد قراءة اللوحة العربية وفق رؤية جمالية معاصرة، تجعل منها أقرب إلى لوحات التصميم، كماهو الأمر لدى الفنان هاشم سمرجي في تكويناته الحروفية.
ويضيف هذا الإتجاه أسلوباً جديداً في معالجة اللوحة سواء على مستوى الشكل أو الفكرة أو التقنية في محاولة لخلق علاقة بين المنطق الجمالي للخط العربي بما يحويه من عناصر متعددة فضلاً عن النص الذي يحمله ذلك الخط ودلالة للغوية ، والمفاهيمية من جهة واختلاف الرؤية المعاصرة على مستوى الجوانب الثلاثة المذكورة وهو بذلك إنما يخلق إشكالية جديدة في انتمائها لأكثر من منطق جمالي أو رؤية فكرية قد تكون مختلفة أحياناً ومتقاطعة أحايين أخرى.
4 / الاتجاه الرابع :
(الحرف العربي كنسق تأويلي )
لاشك أن الحرف العربي مصدر ثراء فكري وفني وجمالي وأولى صوره البسيطة كانت تحمل تلك الملامح الأساسية فيه وأول مظاهرها الوظيفيةوالجمالية هي صفحات تلك المخطوطات التي كانت تنسخها الوراقين والخطاطين في المصاحف والدواوين والمعارف والعلوم، فكانت أبسط المفاهيم الجمالية فيها تلك العلاقة الناشئة بين الحبر الأسود أو البني والورق وما تتركه هذه العلاقة من إيقاع بين المساحات التي تشغلها الحروف والأرضية كفضاء يحتوي تلك النصوص المزدحمة والمتجهة افقياً تارة أوعمودية أو مائلة تارة أخرى.
وهي بهذه الصورة انما تشكل نسيجاً إيقاعياً ذو تأثير بصري مباشر يجعل من الرؤية قوسيقى بصرية تدركها العين كما هو الأمر بتلك الموسيقى التي تدركها الأذن.
وفي حالات الوجد والعشق الروحي كان الخطاط يعيد كتابة الحروف مرات ومرات لغرض الكشف عن ذلك الصوت الخفي الذي ينضم ارتفاعاته وانخفاضاته، ثم يكرر ذلك بما يجعل صفحة الورق تتكمل بالسواد ( التسويد ) في الحروف وتشكيلاتها حتى لاتكاد ترى مساحة بيضاء.
وعندما يتكرر الحرف بصورة طبيعية كناتج ل (مشق ) الخطاط إنما هو ينتقل كل خصائصه الجمالية والتكوينية إلى مساحة أخرى ترتبط بإيقاع وتناسب وتكوين يؤكد صلاتهما الوثيقة أو إن كانت هذه الوسيلة التكرارية تنحى منحنى زخرفياً في إيقاعات قد تكون متناقصة أو متزايدة أو رئيسة أو عكس ذلك، إلا أنها في النهاية تتبلور كرؤية جمالية تستمد قيمتها من الخطوط بجهد إنساني خلاق ذو تقنية خاصة طالما توجت أعمال الوراقين والنساخين والخطاطين.
واستلهام هذه الرؤية إنما يجسد ذلك العمق الحضاري للخطوط ودوره قبل ظهور الطباعة كمحور للفكر والفن والجمال وكوسيلة لتنفيذهم.
وتتجهة أعمال العديد من الفنانين المعاصرين هذا الاتجاه كرؤية جمالية.
ومن المؤكد أن المعالجات الذاية لكل فنان تضعي عليها طابعاً خاصاً يمنحها قيمة أسلوبية كانت في الأصل بعيدة ةعنها ليس لضعفها وانما لانتمائها الجمعي كقيمة جمالية لا تشكل ناتجاً فردياً وإنما رؤية جماعية لقيمة الفن ومعنى الجمال.
وتبرز في هذا المجال أعمال الفنان نجا المهداوي التي تأخذك أعماله يعاطفه ذلك الجهد الخلاق التي بيذله الخطاط العربي في النسخ والتكرار معطرة سطورها بعبق الزعفران وأريج المداد وأصوات القصب. ولكنها هنا تعيد ترتيب سردها لتجعل من السطور والكلمات والحروف قيماً تكتنز بينها الكثير من الدلالات البصرية، فهي تارة دقيقة وأخرى سميكة يطفى عليها السواد على كتلها وحركاتها وإيقاعاتها.
كما يؤكد رشيد القريشي هذا النهج في أعماله الفنية عندما يجذبك ذلك البناء الحروفي الذي تتصدر اللوحة بطريقة مطلقة ومتناغمة ومنسجمة وكانها قد أحسن رسمها خطاط في دلالة بصرية فائقة.
بينما لايبتعد رفيق لحام في لوحاته عن هذا المنهج الذي يتبعه الخطاط عندما يرص الحروف أو يقاطعها أو يوازيها فيخلق الحرف إيقاعات متناغمة حتى وإن لم يكن الفنان يقصد إيجاد تلك الإيقاعات والنغمات.
وهي بذلك إنما تشكل نسقاً بصرياً يعيد ترتيب حروف الخط العربي وفق ذات المنهج ولكن بنتائج مختلفة.
وتبرز إشكاليات التقنيات التصميمية وطريقة معالجتها للخروج بتقنيات تنفيذية, أي أن العديد من اللوحات التي كانت تحمل خصائص تكويناتها إنما أضيف لها تقنيات جديدة عليها وأحياناً غربية ثم تم طبعها بالليثوغراف أو الزنك أو النحاس كماهي أعمال الفنان ..........
ويقترب الفنان نذير نبعة كثيراً في معالجة سطحه التصويري من رؤية يحيى الواسطي في عملية السرد التي يكتنفها الخط والرسم ليكتمل بعضها البعض الأخر. في إطار تزويقي وجمالي أخاذ، فهو تارة يؤكد وظيفة سردية وروائية، وأخرى شكلية وجمالية، رغم أن لونها الوحيد هو ذلك اللون الذي اعتاده الوراقين في استنساخ الكتب والمؤلفات الحبر الأسود على الورق.
كما تذكرنا أعماله بذلك الموروث الحي للشعوب العربية في تطرها الإنثربولوجي من خلال الحكاية والرواية في أبو زيد الهلالي وعنترة العبسي، أي أن قيمة الجمال تدخل في صميم التجربة الاجتماعية لنشكل معها نسقاً ونسيجاً واحداً وإن كانت للموروث أقرب منها للمعاصرة, وهذا لابد من أن يعيد صياغته رؤياه الفنية وفق أساس إبداعي مغاير .
ويعيد محمد غنوم للحرف موسيقاه بتلك التكرارات الإيقاعية المتزايدة والمختلفة وبأتجاهات متعددة بطريقة تكتسب منحنى زخرفياً. إن المعالجة اللونية نأخذ المنحنى الزخرفي في طريقة التكوين معتمداً طريقة تقنية تتوسط تقنيات الخطاط في مداته وتدويراته.
لاشك أن الفيصل في انتماء اللوحة للحروفية من عدمها من خلال وجود الحروف كعناصر تكوينية تنميها ويكاد هذا الحرف عن بنيته اللغوية في أعمال حسين ماضي حتى لاتكاد يميز حرفاً فيها وقد تعمد الفنان ذلك ليعيدنا إلى ذلك النسيج الزخرفي العربي وليستلهم حركة الخط واتجاهات الحروف وطاقاتها الكامنة في خلق خلخلة بصرية مرة بالأشكال وأخرى بالحركة وثالثة بالألوان. حتى تكاد تطالبنا بصرياً تلك المفردات المتكررة بطريقة زخرفية ليس غريبة عن المنطق الجمالي للفن الإسلامي. ومابين هذهالدلالات وإيقاعات العناصر يعيد حسين ماضي بناء ملامح الخط المسند الحميري أو يذهب أبعد من ذلك إلى مفردات الأبحدية السومرية.
ان القيمة الفلسفية والحضارية لتجربة الحروفية أو استلهام الحرف داخل اللوحة التشكيلية هي محاولة ذات اتجاهين في أساليبها الذي ذكرنا وهذين الاتجاهين هما علمي وتجريبي, لأجل المقارنة بين عالمين مختلفين في الفكر والتقنية وهما (عالم الحرف ) اللغوي و (عالم البعدين والثلاثة أبعاد ) التشكيلي. وهنا تظهر إشكالية الجمع بين عالمين أحداهما إنساني وأخر لاإنساني لأنها تتجاوز عالمها الذاتي نحو افقها الكوني.
ومثل هذه التجارب تحتوي على أكثر من محاولة تشكيلية,المحاولة الأولى تشكيلية ترتيط بعاملها الزمكاني والثانية كقيمة لغوية مرتبطة مرتبطة بعاملها الزماني وهذا يعني ان الفنان لايريد فقط أن يناقش الوجود المكاني أو الزماني بل كليهما معاً وفي آن واحد.
إن محاولة إدخال الحرف في ذاتها عملية توسيع لرؤية الفنان بحيث تصبح التقنية محاولة تلصيقية من خلال الجمع بين الحروف من جهة والمفردات التشكيلية من جهة أخرى ومن خلال هذه المزاوجة يبرز الحرف من الناحية التقنية كشاهد من شواهد عالم اللغة عند حضوره كعناصر على السطح التصويري، ولكنه يبقى محاطاً بهالة من عالم القيم اللغوية فضلاً عن علاقته بالمنطق الجمالي للخط العربي.
إن التنوع الهائل في تقنية استخدام الحرف أثرت اللوحة التشكيلية العربية المعاصرة بأن طرحت العديد من التأويلات الجمالية من خلال أساليب الكتابة التي تشبه إلى حد كبير كتابة الأطفال ذات العفوية البالغة، أو بأسلوب الكتابة على الجدران التي يترك الزمن اثرها عليه كالشقوق والكسور والانثلامات أو الخط المنحق المكتوب بإجادة في اللوحات الخطية العربية.
وفي كل الأحوال فان هذه الكتابات ذات قدرة واضحة على التعبير عن القلق والعفوية والخوف كما أنها زاخرة بإشارات التعمية والكبت والتضليل.
إن المناخ الحروفي العام في تجربة الحروفين العرب غالباً ما كانت تستذكر كل تلك الأنواع الخطية التي تداولت عبر تاريخ ( كالثلث والنسخ والديواني والتعليق والكوفي ........الخ ) رغم عدم مقدرة فناني تلك اللوحات على إجادة تلك الخطوط وبالتاكيد لم يكن في أي حال من الأحوال ان يتحولوا إلى خطاطين في لوحاتهم التشكيلية.
إنها شواهد بلاغية على كل التراث الرمزي والصوري والصوتي والتأويلي للحرف العربي على مدى تاريخه الطويل ودوره الجمالي وما يتميز به من خصائص في شكله ومطاوعته في التعبير والتبديل كانغام الموسيقى وإيقاعاتها.
ولم تكن هذه الخصائص والصفات لتستولي على عقول الفنانين العرب وأذواقهم، بل غالباً ما استهولت العديد من الفنانين الأوربين، أمثال
( كلي، وميرو، وباومايستر، وآراب،وتابس،وكلاين،ونوفيللي،وراوشنبرك،وهارتنك وآخرين )
هكذا دخل الحرف العربي في تاريخ الفن الجمالي بشخصية تأملية وتعبيرية جديدة معبراً عن التقاليد الفنية في الحضارة العربية الإسلامية كبعد روحي ووظيفي وشكلي وجمالي معاً.
مرفق 1 /
وبتقنية خطاط من خلال الأثر التي تتركز فرشاه علي حسين تعيد لنا استذكار تلك التقديرات والارسال والاستدارات التي تكون الحروف العربية إلا أنها هنا لا تدل إلا على تلك الحركات الكامنة في الخط واتجاه وهو ما كانت تتميز به الخطوط العربية التي كانت توصف بالسعي الدائم والدؤوب للحركة باتجاهات مختلفة مستوحية من حركة الأرابسك ( التوريق ) قيماً جمالية تدل على ديمومة الحياة من خلال ما يتركه الإنسان من فكر وحضارة وهو بهذا ليس بحاجة إلى تزويق لوحاته وإنما تكتفي بذلك الألق التي تميزت به المخطوطات العربية التي اقتصرت على الحبر والورق .
قد تذكرنا بعض ملامح اللوحة وحركة الحروف واتجاهها العمودي بما امتازت به كتابة أمم وشعوب أخرى في شرق أسيا وهذا لا يتقاطع مع القيمة الحضارية بقدر ما يعزز أهميتها ووجودها كنتاج للفكر الإنساني أينما وجد.
مرفق 2 /
ويعيد لنا محمد شعراوي فكرة بناء العمل الفني التصاعدية ومن خلال بناء النص في الخط العربي مذكرنا باللقى الأثرية الجدارية أوشواهد القبور ولكن بطريقة تشكل إبداعياً متوائماً بين الحروف المستلهمة من الكتابات الحيرية والمكية والمدنية ومن ثم جاء بعدها في الخط الكوفي الغير منقوط في صدر الإسلام. وهو بنفسه هذا لا يبتعد عن بنية الخط العربي رغم معالجة تكوينه بمادة مختلفة ألا وهي الخزف.
وقد شهدنا طيلة العصور الإسلامية استخدام مواد مختلفة لتفيذ الخط العربي وبتقنيات متعددة. وفكرة التكرار هنا تستمد قيمتها الفنية من سطر الكتابة الذي شبهه ابن متصلة ( بالسمط ) الخيط الذي تنتظم منه حبات اللؤلؤ.
وسطر الكتابة ذو أهمية بالغة في أنتظام الحروف والكلمات والجمل في اتصالهاوتركيبها ووصلها ولكنه هنا يلغى بطريقة إبداعية الفراغات الحاصلة بين السطور ليعيدنا إلى فكرة المشق الذي قام به الخطاط في ملئ صفحاته بالحروف.
وتنفيذ ذلك على مادة الطين ومن ثم مخزنا يمنحنا ذلك النحت الفخاري البارز الذي يجعل من توزيع الضوء على سطح الحروف اللون الأساسي الذي يمنحها قيمة جمالية إبداعية. فما بين الثنايا والخطوط الفائرة الداكنة وبين السطوح البارزة وسطوعها تتشكل إيقاعات حروفه كإيقاعات الخطوط ووظائفها الجمالية عبر العصور الإسلامية.
.
تستوحي أعمال ضياء العزاوي مناخها الروحي من جدلية المناخ العام الذي كان يحيط بالمعلقات الشعرية العربية، وماتكتنفه من معاني في القيم العربية الأصيلة، كالفروسية والبطولةوالمواقف التي تحلى بها العربي، وهذا ما تؤكده طريقته في استخدام الحرف العربي الذي تقترب صورته من الصورة العفوية التي كانت شاخصة في الكتابات القديمة، ولاتبتعد هذه الكتابة عن مناخ اللغة العام الذي يحيط بها، فهي تتناول غالباً أبياتاً شعرية ونصوصاً ذات دلالات لغوية تؤدي وظيفتها الفعلية كنص في تأويل اللوحة من ناحية وكأحد العناصر التي تشكل نسج اللوحة، بل أهم عناصرها، وتؤكد قيمة التضاد الكبيرة الناتجة عن التقاء الحبر على الورق بطريقة كرانيكية ابتعادها عن اللون وتأثيراته التزويقيةالتي يمارسها المزخرف، لصالح المعنى العام الالطبيعة لتكوين الذي يستقي دلالاته الأساسية دور المعلقة في البيئة العربية الجديدة التي تهدف ىإلى استنهاص الهمم وإشاعة القيم وإحياء كل دلالاتها ودورها.
رغم سيادة الكتابات الشعرية ماتثيره حركاتها الإيقاعية من رمزية وسحرية نتيجة لحركة الحرف الدينماكية إلا أن العديد من العناصر
التي تشترك في التكوين، فالؤوس المختزءة، والأيدي المتحركة، والعيون الشاخصة، والضلال القاتمة وسنابك الخيل وضرب حوافرها كلها تدل على صدى الوقائع والغزوات في الدفاع عن مجد الفبيلة التي استعارها الفنان كوحدة اجتماعبة لا تختاف بمدى كبير عن المجتمع بأوسع صوره، وهنا يؤدي الحرف العربي قيماً جمالية على شكل إيحاءات لاتخلو من عنفوان وقوة فضلاً عما تثيره قيمها اللغوية.
تنقسم أعمال الصكار الى منهجين مختلفين، الأول تمثل مجموعة الأعمال التي لا تختلف كثيراً من عما جادت به قريحة الخطاط العربي الذي أجاد المشق ووجود الحروف ورسم ترويساتها ووفقاً للقواعد، والأصول التي توارثها، وكانت تحتوي على كتابات بالخط الكوفي للقرن الأول للهجرة.
مبررزاً فيها نقاط الحروف الحمراء والملفوفة، ومضيفاً لها كتابات بالخط النسخي، مستعيداً فيها لوحة الخطاط العربي بقى من البساطة وكثيراًَ من الإتقان، ومؤكداً بالدرجة الأولى على ما تحمله هذه الكتابات والنصوص من دلالات في المعنى اختبرها الصكار بدقة من خلال مقدرته الأدبية وشاعريته الحالمة في قراءة النص من وجوه عديدة، وتأويله بطريقة يخدم الانتشاء والتكوين الفني.
أما المنهج الثاني الذي يستلهم الحرف عبر الكتل والمسامات للوصول الى ما يثيره ذلك من إيقاعات وتنوع في وحدة فنية تجعل من النص جزءاً لا يتجزأ من التكوين، والإيقاع الذي يسعى إليه الصكار هو الناتج عن إلتقاء الحروف العمودية والافقية من جهة وماسماه الخطاطين بالحروف الملفوفة والمجموعة من جهة أخرى .......... يظفي السواد على كتلة موسيقى خفية مختلفةالإيقاعات بأختلاف دلالاتها الجمالية.
إن التنوع البصري يستعيد استقراره على تلك الحروف الأصلية لخط النسخ العربي والممتدة على سطر الكتابة في نص تدل معانيه على اكتمال الرؤية لدى الصكار. فموسقاه مما بلغت مدياتها إلا أن لها مسارات تمتد إلى ذلك إلارق الأصيل لتعيد قراءة المخطوطة العربية وترسم لها ملامح جمالية عربية جديدة معاصرة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire