الرموز الجمهورية العراقية المفقودة وسبل إعادتها
................................................................
منذ انبثاق الجمهورية الفرنسية الأولى في عام(1789) وحتى أيامنا هذه, وبعد كل تحولات الجمهوريات الخمس لا يزال علم الكومونة يرفرف عاليا فوق باريس. بينما ضاع علم جمهوريتنا الأولى وسط زحام أعلام أخرى وبتوظيف إيديولوجي لا يمت لوطننا إلا بإحالات شبحيه ضيعته وضيعتنا بين ثنايا مصادماتها الانتحارية والانتحالية الفجة. ومثلما ضيعنا العلم ضيعنا كذلك نشيدنا الجمهوري الوطني, ولم يسلم حتى قبر الجندي المجهول وهو صرح موصولة إشاراته الدلالية برمزه.
دعونا نعيد نبش تواريخ هذه الرموز الجمهورية لنكشف لعبة التغييرات والاقصاءات الغير بريئة:
1.. بعد انبثاق الجمهورية العراقية الأولى في تموز(1958)لم يكن في خلد الفنان الراحل جواد سليم, وبما عرف عنه من ثقافة محلية وإنسانية إن يصمم علما جمهوريا بنوازع تتقاذفها أهواء فؤية أو أثنية بقدر من استلهامه لروح التسامح والمرجعية الأثرية العراقية الثرة. وجواد بالحقيقة في تصميم مفردات علمه الجديد لم يبتعد كثيرا عن مفردات ألوان علم العراق الملكي وحفرياته التاريخية بقدر من إعادة لصياغة هذه المفردات وباظافة مناسبة للحدث الجمهوري ونوازع الحرية أو الانعتاق المستجدة والمأمولة من التغيير الجمهوري. وان بقي هذا العلم يرفرف في سماء العراق لأربعة سنوات هي الأكثر عطاء على مستويات عدة( أخيرا انتبه إلى دراسة معطيات هذه الفترة الزمنية وبحيادية بعض الشيء وفرها تقادم زمنها). لكن هذا العلم الجمهوري تعرض للإقصاء من قبل البعث الأول(1963) حيث تم استبداله بعلم الوحدة العربية لمصر وسوريا وإقحامه بنجمة ثالثة( عراق مضاف لمصر وسوريا) بالرغم من احتفاظ علم الوحدة المصرية السورية بنجمتيه فقط. رغم إلغاءه في مصر لاحقا. نجمة ثالثة ظلت ملازمة للعلم العراقي حتى عام واقعة الكويت وما بعدها. وبعد فعلة صدام في الكويت بدل العلم العراقي للمرة الرابعة باظافة لفظة الجلالة(الله اكبر) مستلهما تاريخ الغزوات بهذه الصيغة وساعيا لكسب ود العرب والإسلام والتي لم يكسبها مطلقا في غزوته وكانت وبالا علينا إلى يوم احتلال بغداد والتغيير الدراماتيكي الذي أعقب ذلك. ومع نجوم الوحدة المنفرطة أصلا ولفظة الجلالة من غير نوازع دينية حقيقية ضاع علمنا وضيع صفته التمثيلية الرمزية. ثم مابين عام(2004) و(2008) فقد العلم نجومه الثلاث وضاعت الوحدة الثلاثية أو شعارات البعث الثلاث المنجمة(بينما كانت نجمتي العلم الملكي السباعية تمثل ألوية, محافظات, العراق الأربعة عشر وقتها قبل تفكك خرائطها الإدارية). وبقيت الصيغة الدينية وتابو المقدس وصراعه الأثني والفئوي يلاحق ما تبقى من علمنا في انتظار تغيير جديد اقره البرلمان والدولة لمحاولة إسدال ستر النسيان على علم الجمهورية الأولى, ولا تزال لجنة تغيير العلم وأصحاب القرار في حيرة من أمرهم.
من خلال اطلاعي على العديد من نماذج العلم الجديد المقدمة للجنة وجدت العديد منها يستقي مفرداته من علم الجمهورية الأولى وعلم فدرالية كردستان. فإذا كان الحال هكذا, فلماذا لا نعيد سيرة علمنا الجمهوري الأول( وهو علم ارتضته كل المكونات العراقية) ونسدل الستار على هذه الدراما التي لا توصلنا إلا إلى مزيدا من اجتهادات الحكومات المستقبلية لأعلام أخرى. إن نكن جمهوريين فلنعيد لجمهوريتنا التي ضيعناها علمها الذي تعرض للإقصاء إيديولوجيا. وهذا ما تبادر لذهني وقلته في أول مقابلة إذاعية بعد السقوط في استفتاء عن العلم. مع العلم أن وجود علم وطني لا يلغي وجود أعلام أخرى, كأعلام الفدراليات أو المقاطعات أو حتى أعلام الفرق الرياضية وشعاراتها, كما لا يلغي أعلام موروثة من حقب ماضية, كأعلام العشائر, ما دام مجتمعنا لم يستوفي شروط بنائه المدنية. ولكل رفعة علم وقتها ومكانها الخاص سواء كان في مناسبة عامة أو خاصة. وستبقى كل هذه الأعلام ترفرف تحت الراية الوطنية رمز سيادة البلد وحريته ووحدة أناسه ومساواتهم قانونيا.
2.. كعراقيين لم نمتلك سلامنا الوطني إلا مرة واحدة وفي زمن الجمهورية الأولى(1963..1958) وقد أهداه مؤلفه العراقي(لويس زنبقه) إلى ثورة تموز. وكان في زمن الملكية من تأليف ضابط في الجيش الانكليزي. ثم نشيد صلاح شاهين المصري(والله زمان ياسلاحي) من(1963)وحتى(1981) الذي لحنه في(1956) الموسيقي المصري كمال الطويل خصيصا للعدوان الثلاثي وغنته أم كلثوم وقتها. نشيد حماسي استرجاعي يشحذ الهمم لثورة دائمة لم نحصد منها غير الماسي وبقاياها التي لا تأبى المغادرة عند البعض, وهما موروثا بإحالة لمرجعية تاريخية مشكوك في صلاحيتها. ثم جاء التغيير المفاجأة الآخر في الزمن ألصدامي في عام(1981) باعتماد قصيدة الرفيق, المغدور لاحقا, شفيق الكمالي(ارض الرافدين) التي اشتهرت(وطن مد) وبتكليف للموسيقي السوري وليد غليمية. ولم يستطاع غالبا من إكمال قصيدة النشيد أو السلام هذا لطوله الممدود. ويأتي التغيير الارتجالي الأخير بالرجوع لنشيد طفولتنا المدرسية في أواسط القرن العشرين (موطني) والذي لحنه اللبناني محمد فليفل. وبقي العراق بلا نشيد جمهوري(رسميا) هذا العام لكون البرلمان صوت على نشيد موطني لفترة زمنية تنتهي في نهاية العام الماضي. ولا ادري إن حدث تغيير في هذا الأمر, وكل ما أدريه انه أمر ملتبس وبحاجة إلى فك اشتباكه والرجوع إلى المصدر الجمهوري الأول والانتهاء من هذه المحنة التي لا يبدو أن أحدا يستسيغ نهايتها. وأخيرا يبقى السؤال مطروحا وهو: هل نصوص النشيد الوطني مقدسة للحد الذي لا يمكننا إزاحة أو تغيير بعض مفرداتها لكي تتماشي وعصرنا العولمي الديمقراطي الحالي. سؤال سبقنا إليه بعض المثقفين الفرنسيين بمساءلتهم لنص النشيد الوطني لبلدهم(المارسيليز) في محاولة منهم لحذف المفردات النابولونية التي تمجد عنصرية الحرب والعدوان. وهل آن لنا أن نعتمد نصا من خارج اللغة الفروسية والاثنية والفئوية, نشيدا ينسجم وروح لحن السلام الجمهوري الأول يتغزل بدجلة والفرات وبسحنات قسمات أناسنا البسطاء وبوحدة مكوناتهم وبأمل عز علينا بلوغه في كل حقب تواريخنا الملكية والجمهورية السابقة. و, أما آن الأوان لاسترجاع فقيدنا, نشيدنا الجمهوري الأول.
3 .. الإشكالية العراقية الثالثة, وليست ألأخيرة!, هي عن اللغط المثار حول النية في إعادة نصب الجندي المجهول القديم إلى مكانه. وان تجاوز موقتا تساؤلي عن وجود نصب أصلا للجندي المجهول في بغداد بمواصفات صروح الجندي المجهول المعروفة في العالم بعد هدم نصب الجمهورية الأول, بل وحتى في بعض من الدول العربية. الإشكالية واضحة. فنصب الجندي المجهول البغدادي الذي أنشأته دولة البعث على أنقاض نصب الجمهورية الأولى في الثمانينات, هذا النصب الجديد شامخ ووطيد ويتحدى تصوري المتواضع عن نفيه. لكن دعونا ننظر في هذا الأمر:
إن كنا أقمنا نصبا لجنودنا المجهولين(المغدورين) فمن اجل أن يكون قبرا مزارا نستذكر ونترحم على أرواحهم في فضاءه, كما يجب أن يكون الوصول إليه وولوجه متيسرا لكل ذوي المفقودين ولكل المواطنين, إن يكون بنائه مألوفا ولا يشكل حاجز صد بضخامته وبتفاصيل استعراضية زائدة لا تؤدي الغرض. أن تكون مفردة أو مفردات التصميم الرئيسية هي الأخرى من مألوف المعمار العراقي بشقيه المحلي أو الأثري المتفاعل أو المتعاشق. فهل حقق نصب البعث أو لنقل نصب المرحوم خالد الرحال بما انه من بنات أفكاره, هل حقق هذا النصب شروطه الوظيفية. اعتقد وبالمقارنة أيضا بالعديد من أنصاب العالم فان الجواب يكون نفيا. فمعظم أنصاب الجندي المجهول في العالم(وهي من بنات أفكار العقد الثالث من القرن العشرين) هي بوابات للنصر بعضها هدمتها الحروب وبني النصب أو شعلته على أنقاضها(كما في وارشو مثلا) وبعضها اخترقته شعلة الجندي المجهول بعد الحرب العالمية الثانية(شارل ديكول..باريس) وبعضها حيطان مدونة عليها أسماء بعض الجنود المجهولين مع شعلة ومنصة للأكاليل(موسكو, عند حائط الكرملين). ومن الدول العربية نصب مدينة النصر في القاهرة والذي استلهم منشئه وحدته المعمارية من الهرم وفككه إلى أضلاع متقاطعة. أو نصب جبل قاسيون في دمشق بقبته المحدبة وبشريط مدونتها للآية القرآنية التي تستذكر الشهادة والتي تطل من فراغ قوس الحائط المدون هو الآخر. كذلك العديد من الأنصاب التي شكلتها منحوتات دالة. أنصاب كهذه هي مزارات مألوفة للمواطنين لا قلاع حصينة(كما هو نصب خالد الرحال) تخترقها سلوكيات الساسة المؤدلجة الشمولية. إن نظرت من الأعلى(عين الطائر) لهذا النصب البغدادي المستحدث من أزمنة مشكوك في تفاصيل ثقافتها الرسمية. فستكتشف هيكلا محدبا مسننا ضخما يجثهم من على مرتفع, أكثر ما يوحي بكونه مركبة فضائية من الزمن الافتراضي جاثمة بثقلها وهي على أهبة الإقلاع. أما إذا نظرت من الأمام وبمستوى سطح أرضيته العلوية فسيفاجئك قرص معدني مرصع هائل مرتكز على جانب واحد بمسند معدني يدعم ميلانه. ومن الجانب الآخر يستقر عمود معدني تحيطه دوامة لولبية متصاعدة من أشرطة المساطر المعدنية هي الأخرى. فلا العمود المعدني رمحا, ولو مجازا(سارية العلم), ولا القرص ترسا, بالرغم من إشكالية زمن الفروسية وخيولها الكحلاء. هيكل الأسمنت والمعدن هذا يحتوي فضاءه الداخلي أيضا على كتلة مرصوصة من تفاصيل أخرى مسننة لا تقل تعقيدا عن مشهد هيكليته الخارجية مع فضاء تحت ارضي متحفي خصص لفترة لأرشفة حياة صدام حسين(مثلما فعلها بإقامة تمثال له على أنقاض النصب الذي هدمه). وبعض من الأسلحة المتنوعة. كما لم يفتقد تدوين بعض أسماء الجند المجهولين. هيكل بهذا الحجم هو حصيلة لتصور فنان مهووس بالضخامة النصبية. وحاكم مهووس أكثر منه يتدخل في تفاصيل كل مشروع بنوازع تضخيمية لا تجيد سوى تلصيق المتنافر كما فعلها في قصوره الثقيلة العديدة. فأين فكرة خالد الرحال الأولية ببساطة عرضها من هذا الهيكل الاقتحامي. إن كان أصل الفكرة هي بعد أن سقط الفارس عن حصانه اهتز ترسه قبل همود حركة سقوطه من يده على الأرض مثلما ارتكز رمحه هو الآخر أرضا. اهتزاز الترس وارتكاز الرمح هي مفردات هذا الصرح الذي ضيعها في ميكانيكية أدواته المعقدة الضخمة. فكيف للمواطن البسيط من طريق لولوج هذا الضجيج المعدني والحرس المدججين سلاحا وكيف له من استذكار من فقده أو من فقدناهم .
رجوعا لنصب الجمهورية الأولى(نصب رفعت الجادرجي) فسنجد الفرق هائلا. أولا في اختيار وحدة التصميم الإنشائية الرئيسية في بساطة ووضوح خطها المنحني و في مرجعيتها المعمارية الأثرية و في موقعها وسط ساحة شهدت العديد من التغييرات الدراماتيكية في زمننا المعاصر. القوس لازوردي بفضاء مفتوح على امتداد وسط الشارع من جانبيه. فضاء معماري سكنا إيوانا قلص المعماري من نسبة انحناء تحدبه ليغني استقامة ضلعيه المائلتين صعدا, فضاء ممنوح للتسامي, لهدوء الروح وصمتها. وآلفة قبوله بصريا تتجاوز حتى كل ما يحيط به من منشات معمارية. فضاء حاني على شعلته التي اطفؤها في عام من أعوام السطو على ما تبقى من الذاكرة العراقية بسمو بساطة رموزها وقدرة دلالاتها وتلقائية انبثاقها. وان كثر اللغط حول تغيير خارطة المكان المعمارية. فاعتقد بأننا لسنا بحاجة إلى نصب نناطح بها الأنصاب الإنشائية الفندقية المحيطة, فالمكان لم يتغير أصلا حينما هدم هذا النصب, ولم يكن فاقدا لأهليته أصلا. نحن بحاجة لمنشأة نصبية رمزية تخترق الساكنين ويخترقوها بدون دهاليز تضيع بساطة ووضوح المغزى الرمزي كما كان يمنحها هذا النصب. واعتقد أن بالإمكان لو جرى حفر أسماء لجنود مفقودين ومن كل النحل العراقية على السطح الداخلي للقوس وبدون أن يؤثر ذلك على هيئته ولونه لأضاف بعدا إيحائيا مناسبا آخر. وان ادعى بعضهم بوجود نصب مماثلة في بقعة ما من العالم, مثلما ادعي بوجود مماثل لنصب الشهيد( للمرحوم إسماعيل الترك). فان الأمر لا يعدو عن مقاربات لوحدة معمارية موروثة وموصولة بحداثة زمننا وباجتهادات عديدة لا تلغي خصوصية اشتغالات كل منها. وما تداول هكذا رأي مؤخرا اعتقده لا يفصح إلا عن إدراك ينقصه حس البحث الجاد في خصوصيات الجزئيات المضافة لهيئة(الفورم) القوس المستلهمة والمشاعة على نطاق كبير.
في حالة استرجاع النصب المهدم, تبقى إشكالية النصبين واردة. لكن بإمكاننا معاينتها كما في إشكاليات نصب الأنظمة الشمولية لما بعد الحرب العالمية الثانية. إذ جرى تحويل وتبديل إغراضهما السياسية إلى أغراض اجتماعية وخدمية مشاعة. كما في بعض المنشات المؤدلجة لهتلر في برلين أو موسولوني في روما. توظيف هذه المنشات رغم ثقل مكونات وهيكلية معمارها أثرا خاضعا للمعاينة الاجتماعية يفرغه من سطوته الشمولية بثقل هيئاتها وإرباكات مكوناتها في زمن معماري يشكل من الفضاء حيزا لفراغاته. ويبقى السؤال مطروحا أما آن الأوان لتفكيك تواريخنا العراقية الحديثة وإعادة بناء منظومتنا الثقافية بطرد لكل عبثيات ممارساتها السابقة وأوهامها المكرسة تشضيا لا يوصل إلا إلى مزيد من الفرقة والنأي عن بناء أنظمة حديثة طاردة لكل غيبيات العبث اللامجدي في خلطه الواقع بالغيب, العلم بالمقدس. الم يحن الأوان لفك ارتباط كل هذه المتضادات التي يخرب أو يلغي بعضها البعض الآخر. لنتفق أولا على إعادة الرموز الجمهورية الأولى. ولنبدأ نبني ما لم تستطع بنائه في زمنها القصير الذي كرست فيه جهدها لمحاولة ردم هوة الفقر وتعزيز الكادر المثقف المدرب لبناء أنظمة الدولة.
..............................................................................................................................................
(*).. من استشهادات الكتابة:
مقالة دلير إبراهيم: عن النشيد الوطني العراقي(1921..2003). جريدة الإتحاد.
مقالة الدكتور خالد السلطاني: إعادة نصب الجندي المجهول. مرة ثانية.(إيلاف..27 يوليو )
...................................................................................................................................................
علي النجار .. 09..08..08
................................................................
منذ انبثاق الجمهورية الفرنسية الأولى في عام(1789) وحتى أيامنا هذه, وبعد كل تحولات الجمهوريات الخمس لا يزال علم الكومونة يرفرف عاليا فوق باريس. بينما ضاع علم جمهوريتنا الأولى وسط زحام أعلام أخرى وبتوظيف إيديولوجي لا يمت لوطننا إلا بإحالات شبحيه ضيعته وضيعتنا بين ثنايا مصادماتها الانتحارية والانتحالية الفجة. ومثلما ضيعنا العلم ضيعنا كذلك نشيدنا الجمهوري الوطني, ولم يسلم حتى قبر الجندي المجهول وهو صرح موصولة إشاراته الدلالية برمزه.
دعونا نعيد نبش تواريخ هذه الرموز الجمهورية لنكشف لعبة التغييرات والاقصاءات الغير بريئة:
1.. بعد انبثاق الجمهورية العراقية الأولى في تموز(1958)لم يكن في خلد الفنان الراحل جواد سليم, وبما عرف عنه من ثقافة محلية وإنسانية إن يصمم علما جمهوريا بنوازع تتقاذفها أهواء فؤية أو أثنية بقدر من استلهامه لروح التسامح والمرجعية الأثرية العراقية الثرة. وجواد بالحقيقة في تصميم مفردات علمه الجديد لم يبتعد كثيرا عن مفردات ألوان علم العراق الملكي وحفرياته التاريخية بقدر من إعادة لصياغة هذه المفردات وباظافة مناسبة للحدث الجمهوري ونوازع الحرية أو الانعتاق المستجدة والمأمولة من التغيير الجمهوري. وان بقي هذا العلم يرفرف في سماء العراق لأربعة سنوات هي الأكثر عطاء على مستويات عدة( أخيرا انتبه إلى دراسة معطيات هذه الفترة الزمنية وبحيادية بعض الشيء وفرها تقادم زمنها). لكن هذا العلم الجمهوري تعرض للإقصاء من قبل البعث الأول(1963) حيث تم استبداله بعلم الوحدة العربية لمصر وسوريا وإقحامه بنجمة ثالثة( عراق مضاف لمصر وسوريا) بالرغم من احتفاظ علم الوحدة المصرية السورية بنجمتيه فقط. رغم إلغاءه في مصر لاحقا. نجمة ثالثة ظلت ملازمة للعلم العراقي حتى عام واقعة الكويت وما بعدها. وبعد فعلة صدام في الكويت بدل العلم العراقي للمرة الرابعة باظافة لفظة الجلالة(الله اكبر) مستلهما تاريخ الغزوات بهذه الصيغة وساعيا لكسب ود العرب والإسلام والتي لم يكسبها مطلقا في غزوته وكانت وبالا علينا إلى يوم احتلال بغداد والتغيير الدراماتيكي الذي أعقب ذلك. ومع نجوم الوحدة المنفرطة أصلا ولفظة الجلالة من غير نوازع دينية حقيقية ضاع علمنا وضيع صفته التمثيلية الرمزية. ثم مابين عام(2004) و(2008) فقد العلم نجومه الثلاث وضاعت الوحدة الثلاثية أو شعارات البعث الثلاث المنجمة(بينما كانت نجمتي العلم الملكي السباعية تمثل ألوية, محافظات, العراق الأربعة عشر وقتها قبل تفكك خرائطها الإدارية). وبقيت الصيغة الدينية وتابو المقدس وصراعه الأثني والفئوي يلاحق ما تبقى من علمنا في انتظار تغيير جديد اقره البرلمان والدولة لمحاولة إسدال ستر النسيان على علم الجمهورية الأولى, ولا تزال لجنة تغيير العلم وأصحاب القرار في حيرة من أمرهم.
من خلال اطلاعي على العديد من نماذج العلم الجديد المقدمة للجنة وجدت العديد منها يستقي مفرداته من علم الجمهورية الأولى وعلم فدرالية كردستان. فإذا كان الحال هكذا, فلماذا لا نعيد سيرة علمنا الجمهوري الأول( وهو علم ارتضته كل المكونات العراقية) ونسدل الستار على هذه الدراما التي لا توصلنا إلا إلى مزيدا من اجتهادات الحكومات المستقبلية لأعلام أخرى. إن نكن جمهوريين فلنعيد لجمهوريتنا التي ضيعناها علمها الذي تعرض للإقصاء إيديولوجيا. وهذا ما تبادر لذهني وقلته في أول مقابلة إذاعية بعد السقوط في استفتاء عن العلم. مع العلم أن وجود علم وطني لا يلغي وجود أعلام أخرى, كأعلام الفدراليات أو المقاطعات أو حتى أعلام الفرق الرياضية وشعاراتها, كما لا يلغي أعلام موروثة من حقب ماضية, كأعلام العشائر, ما دام مجتمعنا لم يستوفي شروط بنائه المدنية. ولكل رفعة علم وقتها ومكانها الخاص سواء كان في مناسبة عامة أو خاصة. وستبقى كل هذه الأعلام ترفرف تحت الراية الوطنية رمز سيادة البلد وحريته ووحدة أناسه ومساواتهم قانونيا.
2.. كعراقيين لم نمتلك سلامنا الوطني إلا مرة واحدة وفي زمن الجمهورية الأولى(1963..1958) وقد أهداه مؤلفه العراقي(لويس زنبقه) إلى ثورة تموز. وكان في زمن الملكية من تأليف ضابط في الجيش الانكليزي. ثم نشيد صلاح شاهين المصري(والله زمان ياسلاحي) من(1963)وحتى(1981) الذي لحنه في(1956) الموسيقي المصري كمال الطويل خصيصا للعدوان الثلاثي وغنته أم كلثوم وقتها. نشيد حماسي استرجاعي يشحذ الهمم لثورة دائمة لم نحصد منها غير الماسي وبقاياها التي لا تأبى المغادرة عند البعض, وهما موروثا بإحالة لمرجعية تاريخية مشكوك في صلاحيتها. ثم جاء التغيير المفاجأة الآخر في الزمن ألصدامي في عام(1981) باعتماد قصيدة الرفيق, المغدور لاحقا, شفيق الكمالي(ارض الرافدين) التي اشتهرت(وطن مد) وبتكليف للموسيقي السوري وليد غليمية. ولم يستطاع غالبا من إكمال قصيدة النشيد أو السلام هذا لطوله الممدود. ويأتي التغيير الارتجالي الأخير بالرجوع لنشيد طفولتنا المدرسية في أواسط القرن العشرين (موطني) والذي لحنه اللبناني محمد فليفل. وبقي العراق بلا نشيد جمهوري(رسميا) هذا العام لكون البرلمان صوت على نشيد موطني لفترة زمنية تنتهي في نهاية العام الماضي. ولا ادري إن حدث تغيير في هذا الأمر, وكل ما أدريه انه أمر ملتبس وبحاجة إلى فك اشتباكه والرجوع إلى المصدر الجمهوري الأول والانتهاء من هذه المحنة التي لا يبدو أن أحدا يستسيغ نهايتها. وأخيرا يبقى السؤال مطروحا وهو: هل نصوص النشيد الوطني مقدسة للحد الذي لا يمكننا إزاحة أو تغيير بعض مفرداتها لكي تتماشي وعصرنا العولمي الديمقراطي الحالي. سؤال سبقنا إليه بعض المثقفين الفرنسيين بمساءلتهم لنص النشيد الوطني لبلدهم(المارسيليز) في محاولة منهم لحذف المفردات النابولونية التي تمجد عنصرية الحرب والعدوان. وهل آن لنا أن نعتمد نصا من خارج اللغة الفروسية والاثنية والفئوية, نشيدا ينسجم وروح لحن السلام الجمهوري الأول يتغزل بدجلة والفرات وبسحنات قسمات أناسنا البسطاء وبوحدة مكوناتهم وبأمل عز علينا بلوغه في كل حقب تواريخنا الملكية والجمهورية السابقة. و, أما آن الأوان لاسترجاع فقيدنا, نشيدنا الجمهوري الأول.
3 .. الإشكالية العراقية الثالثة, وليست ألأخيرة!, هي عن اللغط المثار حول النية في إعادة نصب الجندي المجهول القديم إلى مكانه. وان تجاوز موقتا تساؤلي عن وجود نصب أصلا للجندي المجهول في بغداد بمواصفات صروح الجندي المجهول المعروفة في العالم بعد هدم نصب الجمهورية الأول, بل وحتى في بعض من الدول العربية. الإشكالية واضحة. فنصب الجندي المجهول البغدادي الذي أنشأته دولة البعث على أنقاض نصب الجمهورية الأولى في الثمانينات, هذا النصب الجديد شامخ ووطيد ويتحدى تصوري المتواضع عن نفيه. لكن دعونا ننظر في هذا الأمر:
إن كنا أقمنا نصبا لجنودنا المجهولين(المغدورين) فمن اجل أن يكون قبرا مزارا نستذكر ونترحم على أرواحهم في فضاءه, كما يجب أن يكون الوصول إليه وولوجه متيسرا لكل ذوي المفقودين ولكل المواطنين, إن يكون بنائه مألوفا ولا يشكل حاجز صد بضخامته وبتفاصيل استعراضية زائدة لا تؤدي الغرض. أن تكون مفردة أو مفردات التصميم الرئيسية هي الأخرى من مألوف المعمار العراقي بشقيه المحلي أو الأثري المتفاعل أو المتعاشق. فهل حقق نصب البعث أو لنقل نصب المرحوم خالد الرحال بما انه من بنات أفكاره, هل حقق هذا النصب شروطه الوظيفية. اعتقد وبالمقارنة أيضا بالعديد من أنصاب العالم فان الجواب يكون نفيا. فمعظم أنصاب الجندي المجهول في العالم(وهي من بنات أفكار العقد الثالث من القرن العشرين) هي بوابات للنصر بعضها هدمتها الحروب وبني النصب أو شعلته على أنقاضها(كما في وارشو مثلا) وبعضها اخترقته شعلة الجندي المجهول بعد الحرب العالمية الثانية(شارل ديكول..باريس) وبعضها حيطان مدونة عليها أسماء بعض الجنود المجهولين مع شعلة ومنصة للأكاليل(موسكو, عند حائط الكرملين). ومن الدول العربية نصب مدينة النصر في القاهرة والذي استلهم منشئه وحدته المعمارية من الهرم وفككه إلى أضلاع متقاطعة. أو نصب جبل قاسيون في دمشق بقبته المحدبة وبشريط مدونتها للآية القرآنية التي تستذكر الشهادة والتي تطل من فراغ قوس الحائط المدون هو الآخر. كذلك العديد من الأنصاب التي شكلتها منحوتات دالة. أنصاب كهذه هي مزارات مألوفة للمواطنين لا قلاع حصينة(كما هو نصب خالد الرحال) تخترقها سلوكيات الساسة المؤدلجة الشمولية. إن نظرت من الأعلى(عين الطائر) لهذا النصب البغدادي المستحدث من أزمنة مشكوك في تفاصيل ثقافتها الرسمية. فستكتشف هيكلا محدبا مسننا ضخما يجثهم من على مرتفع, أكثر ما يوحي بكونه مركبة فضائية من الزمن الافتراضي جاثمة بثقلها وهي على أهبة الإقلاع. أما إذا نظرت من الأمام وبمستوى سطح أرضيته العلوية فسيفاجئك قرص معدني مرصع هائل مرتكز على جانب واحد بمسند معدني يدعم ميلانه. ومن الجانب الآخر يستقر عمود معدني تحيطه دوامة لولبية متصاعدة من أشرطة المساطر المعدنية هي الأخرى. فلا العمود المعدني رمحا, ولو مجازا(سارية العلم), ولا القرص ترسا, بالرغم من إشكالية زمن الفروسية وخيولها الكحلاء. هيكل الأسمنت والمعدن هذا يحتوي فضاءه الداخلي أيضا على كتلة مرصوصة من تفاصيل أخرى مسننة لا تقل تعقيدا عن مشهد هيكليته الخارجية مع فضاء تحت ارضي متحفي خصص لفترة لأرشفة حياة صدام حسين(مثلما فعلها بإقامة تمثال له على أنقاض النصب الذي هدمه). وبعض من الأسلحة المتنوعة. كما لم يفتقد تدوين بعض أسماء الجند المجهولين. هيكل بهذا الحجم هو حصيلة لتصور فنان مهووس بالضخامة النصبية. وحاكم مهووس أكثر منه يتدخل في تفاصيل كل مشروع بنوازع تضخيمية لا تجيد سوى تلصيق المتنافر كما فعلها في قصوره الثقيلة العديدة. فأين فكرة خالد الرحال الأولية ببساطة عرضها من هذا الهيكل الاقتحامي. إن كان أصل الفكرة هي بعد أن سقط الفارس عن حصانه اهتز ترسه قبل همود حركة سقوطه من يده على الأرض مثلما ارتكز رمحه هو الآخر أرضا. اهتزاز الترس وارتكاز الرمح هي مفردات هذا الصرح الذي ضيعها في ميكانيكية أدواته المعقدة الضخمة. فكيف للمواطن البسيط من طريق لولوج هذا الضجيج المعدني والحرس المدججين سلاحا وكيف له من استذكار من فقده أو من فقدناهم .
رجوعا لنصب الجمهورية الأولى(نصب رفعت الجادرجي) فسنجد الفرق هائلا. أولا في اختيار وحدة التصميم الإنشائية الرئيسية في بساطة ووضوح خطها المنحني و في مرجعيتها المعمارية الأثرية و في موقعها وسط ساحة شهدت العديد من التغييرات الدراماتيكية في زمننا المعاصر. القوس لازوردي بفضاء مفتوح على امتداد وسط الشارع من جانبيه. فضاء معماري سكنا إيوانا قلص المعماري من نسبة انحناء تحدبه ليغني استقامة ضلعيه المائلتين صعدا, فضاء ممنوح للتسامي, لهدوء الروح وصمتها. وآلفة قبوله بصريا تتجاوز حتى كل ما يحيط به من منشات معمارية. فضاء حاني على شعلته التي اطفؤها في عام من أعوام السطو على ما تبقى من الذاكرة العراقية بسمو بساطة رموزها وقدرة دلالاتها وتلقائية انبثاقها. وان كثر اللغط حول تغيير خارطة المكان المعمارية. فاعتقد بأننا لسنا بحاجة إلى نصب نناطح بها الأنصاب الإنشائية الفندقية المحيطة, فالمكان لم يتغير أصلا حينما هدم هذا النصب, ولم يكن فاقدا لأهليته أصلا. نحن بحاجة لمنشأة نصبية رمزية تخترق الساكنين ويخترقوها بدون دهاليز تضيع بساطة ووضوح المغزى الرمزي كما كان يمنحها هذا النصب. واعتقد أن بالإمكان لو جرى حفر أسماء لجنود مفقودين ومن كل النحل العراقية على السطح الداخلي للقوس وبدون أن يؤثر ذلك على هيئته ولونه لأضاف بعدا إيحائيا مناسبا آخر. وان ادعى بعضهم بوجود نصب مماثلة في بقعة ما من العالم, مثلما ادعي بوجود مماثل لنصب الشهيد( للمرحوم إسماعيل الترك). فان الأمر لا يعدو عن مقاربات لوحدة معمارية موروثة وموصولة بحداثة زمننا وباجتهادات عديدة لا تلغي خصوصية اشتغالات كل منها. وما تداول هكذا رأي مؤخرا اعتقده لا يفصح إلا عن إدراك ينقصه حس البحث الجاد في خصوصيات الجزئيات المضافة لهيئة(الفورم) القوس المستلهمة والمشاعة على نطاق كبير.
في حالة استرجاع النصب المهدم, تبقى إشكالية النصبين واردة. لكن بإمكاننا معاينتها كما في إشكاليات نصب الأنظمة الشمولية لما بعد الحرب العالمية الثانية. إذ جرى تحويل وتبديل إغراضهما السياسية إلى أغراض اجتماعية وخدمية مشاعة. كما في بعض المنشات المؤدلجة لهتلر في برلين أو موسولوني في روما. توظيف هذه المنشات رغم ثقل مكونات وهيكلية معمارها أثرا خاضعا للمعاينة الاجتماعية يفرغه من سطوته الشمولية بثقل هيئاتها وإرباكات مكوناتها في زمن معماري يشكل من الفضاء حيزا لفراغاته. ويبقى السؤال مطروحا أما آن الأوان لتفكيك تواريخنا العراقية الحديثة وإعادة بناء منظومتنا الثقافية بطرد لكل عبثيات ممارساتها السابقة وأوهامها المكرسة تشضيا لا يوصل إلا إلى مزيد من الفرقة والنأي عن بناء أنظمة حديثة طاردة لكل غيبيات العبث اللامجدي في خلطه الواقع بالغيب, العلم بالمقدس. الم يحن الأوان لفك ارتباط كل هذه المتضادات التي يخرب أو يلغي بعضها البعض الآخر. لنتفق أولا على إعادة الرموز الجمهورية الأولى. ولنبدأ نبني ما لم تستطع بنائه في زمنها القصير الذي كرست فيه جهدها لمحاولة ردم هوة الفقر وتعزيز الكادر المثقف المدرب لبناء أنظمة الدولة.
..............................................................................................................................................
(*).. من استشهادات الكتابة:
مقالة دلير إبراهيم: عن النشيد الوطني العراقي(1921..2003). جريدة الإتحاد.
مقالة الدكتور خالد السلطاني: إعادة نصب الجندي المجهول. مرة ثانية.(إيلاف..27 يوليو )
...................................................................................................................................................
علي النجار .. 09..08..08
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire