الاتجاهات اللا تشخيصية في الفن التشكيلي
سعيد العفاسي فنان تشكيلي من فاس المغرب
بقلم : سعيد العفاسي
لقد اعتاد الناس على مر العصور، أن يقدم لهم الفنان في لوحاته الفنية حادثة ما أو حكاية أو مشهدا من الحياة، وكانوا يتسامحون قليلا أو كثيرا في تقبل نزواته وتأويلاته الشخصية للواقع ولكنهم فوجئوا بلوحات لا تمثل الشيء ولا الموضوع، الذي يجد له أصداء ترتبط بخبراتهم وذكرياتهم أو بواقع المرئيات من حولهم، وقد وقف الكثيرون من هذه اللوحات مواقف العداء الذي لا يقبل مصالحة، بنما حاول آخرون أن يتقربوا منها ويتفهموا ويلامسوا بعضا من حقيقة ما أنتجه الفنان لهم، سواء بالدراسة أو البحث أو بالتهميش.حيث كثر الجدل وتضاربت الآراء خصوصا بعد الانقطاع الحاسم بين الصور المرئية وفنون الرسم والتشكيل والنحت، وتطور مذاهب الفن المعاصر.كان هدف الفنان في لوحاتهن التوصل على التعبير بواسطة العناصر الأساسية للفنون التشكيلية من خط وشكل ولون ونور وحركة وإيقاع، مهملا كل ما يمت بصلة لفنون الأدب من وصف وحكاية، في محاولة للوصول إلى استقلال اللغة التشكيلية، بعيدا عن التقليد والمحاكاة، للانطلاق منها على رحاب أكثر حرية في الابتكار والتطوير والتعبير عن العالم الداخلي أكثر من الخارجي للفنان، وعن أشكال جديدة تستجيب للتطورات الحضارية للعصر، ومن ثم أصبح الناس يطلقون كلمة التجريد على كل ما يرونه غريبا عما اعتادوه، بيد أن المصطلح الذي يفيد الشمول في هذا الموضوع الذي أتطرق إليه هو: اللاتشخيص، وسوف أو حاول أن أبرز فيه معالم التيارات اللاتشخيصية ومرتكزاتها الفلسفية والفكرية. بعد أزمة الموضوع والشيء برز مصطلح اللاتشخيص والذي أطلق على الحركات الفنية التي ثبتت دعائمها،والتي بدت بمظاهر مختلفة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهذه الحركات رفضت بإصرار أي نوع من قبيل التمثيل التصويري أو التشكيل، الذي يرتبط بصلة مباشرة بالتجربة الفنية،ولمتتبع مسيرة الفن في العالم يمكن أن يلاحظ نشوء طرق تعبير لا تشخيصية في عصور وأمكنة متفاوتة،ونم هنا سأذكر بشكل خاص التطورات التي طرأت على نظرية الفن القديم، وبالتحديد عند الثقافة الإغريقية التي نشأ منها مفهوم الفن على انه محاكاة، إذ نجند أفلاطون يفرق الفن الخيالي عن الفن التشبيهي، ومن هذا الاعتبار يمكن ملاحظة أمثلة عديدة من هذا التفريق حتى أصل إلى التمييز الذي طرحه كانط بين الجمال المبهم،والجمال الواضح،ولكي أظل في حدود الموضوع، سأقتصر على التذكير بأهمية آراء ونظريات أنصار الرؤية الصافية*1 ،ويعتبر صدور كتاب -التجريد والتعاطف الفني- إنذارا في زمان ومكان ظهرت فيهما بوادر التعبيرات اللاتشخيصية الأولى، وقد كان وليام ورينغر من بين المدافعين عن هذه الرؤيا الجديدة،إذ اعتبر الفن ضرورة مزدوجة، إن الحاجة للتعاطف الفني-أي أن يشعر المتلقي للوحة بأنه قد اسقط عليها وتحرك معها،واستغرق فيها-لا يمكن اعتبارها محركا انفعاليا للإرادة المبدعة، إلا في الحالة التي تميل فيها نحو العضوية الحية، أي نحو الطبيعة، في أسمى معانيها، فالإشادة بشكل غير حي لهرم،أو خنق الحياة،كما يبدو في عدد من لوحات الفسيفساء البيزنطي،يبرهن لنا بالتأكيد في هذه الأحوال، على أن الحاجة للتعاطف الفني التي تكيل دوما إلى العضوي،لا يمكن أن تكون هي التي حددت إرادة الفن،وهنا تتأكد الفكرة بأنه يوجد دافع يعاكس مباشرة هذه الحاجة،ويحاول أن يخضع كل يغذيها،هذا القطب المعاكس إلى التعاطف الفني يبدو لنا كدافع من نوع تجريدي،وعلى الأغلب كان كاندينسكي أول مصور أنجز بإرادته الواعية أعمالا لا تشخيصية،ولكنه من الصعب التأكيد على أسبقية مطلقة في هذا الموضوع،فقد بدأ هولزل في ألمانيا تجارب لا تشخيصية يعود إلى عام 1905-تكوين بالأحمر-وخلال الفترة ذاتها قام بتطوير تعبيريته الزخرفية للوصول إلى مستوى التجريد،ولكنها كانت على كل حال محاولات لم تبدل جوهر الأشياء، وإنما كانت نتيجة للحلول التي أوجدها الفن التجريدي الجديد،أما في ما يتعلق بالأفكار الجديدة الواعية وبإهمال التمثيل التشخيصي،فإنه حدث على أيدي عدد كبير من الفنانين الروس أمثال كاندينسكي و لاريونوف 1881، والفرنسيين أمثال بيكابيا وذلك حوالي 1910 غير أن جميع هذه المحاولات والتجارب تكاد تكون غير موضع بحث، إذا لم ترتبط مباشرة بما كانت عليه النزعات الطلائعية في الفن الفرنسي،الوحشية والتكعيبية، والمستقبلية الايطالية،ولا يمكننا تصور أي استمرارية في التطور لدى كاندينسكي أو موندريان، أو النزعات اللاتشخيصية الروسية- علما أن أوائل فناني الطليعة الروسية اشتهروا باسم التكعيبيون المستقبليون- بدون الرجوع إلى تلك المحاولات والتجارب، ومن خلالها إلى ذلك الانقطاع عن التصوير التقليدي الذي وعى بضرورته التعبيرية في أوج الفترة الانطباعية،معنى ذلك أن نرفض نهاية خادعة في العمل الفني، أي أن نعتبر اللوحة منتهية عندما تعبر عن المثل الأعلى الطبيعي، هنا تكمن العناصر الأساسية لهذا الانقطاع،فإذا كانت نهاية ما يسمى باللامنتهي تؤدي على خلق استقال تجاه الطبيعة،فإن إهمال قيمة الموضوع واستبداله بالعنصر التصويري يجعل التصوير فنا متكاملا ومستقلا تجاه الأدب وتجاه التاريخ، ومن جهة أخرى فإن الاستغناء عن الجمال الموضوعي،يركز الخيال على العنصر الفني الصرف، أي على قيمة خيال الفنان الذي يستجيب لحاجاته الفنية ولانسجام تفكيره الخاص متحررا من أي إلتزامات غريبة عن التصوير.وهكذا نجد بعد الانطباعية،أن سيزان يستعمل في لوحاته المناظر الطبيعية المتعددة، ليؤكد على الأبعاد الانفعالية في الفراغ على حساب البعد التمثيلي،وهكذا طرحت بطبيعة الحال المشكلة الأساسية لفن التصوير المعاصر بكامله،المشكلة التي أمكن أن يكون لها حلولا مختلفة، ومن هنا توصل التطور الفني انطلاقا من سيزان من جهة، ومن سورا والتنقيطيين أو التجزيئيين من جهة أخرى،مرورا بالتكعيبية إلى نوع من التجريد الهندسي،وانطلاقا من تجزيئية غوغان ومرورا بماتيس والوحشيين، توصل إلى طريقة من التعبيرية التجريدية غير الهندسية، ففي الحالة الأولى دفعت التكعيبية التجربة إلى أقصاها وحددت معنى الحيز والزمن منتزعة الأشكال التصويرية من نسبية الحيز كتنظيم زمني وكتتابع للأحداث، لقد كانت التكعيبية المذهب الذي ساهم أكثر من يره في إيجاد لغة فنية جديدة كما برر عدم جدوى تمثيل المظاهر المرئية لدى النزعات الفنية التي ستأتي من بعد.وفي الفترة التي كانت فيها الثقة تنهار بالواقع المرئي أخذت أزمة الشيء تحل محل أزمة الموضوع، إذ كانت الانطباعية قد وجدت لها حلا،أما التكعيبيون فقد تمكنوا من حل هذه الأزمة الجديدة بمد آخر، حيث فقد الشيء الممثل معناه المألوف، واكتسب معنى غير متوقع،له جدةمقلقة، فأبدعوا أشكالا سحرت دوما الإنسان الواقع تحت سيطرة آلهة الشر،أشكالا بسطوح واضحة تشبه الإنسان ولا تقلده.وكل هذا حول جذريا وبلا عودة مفهوم التشكيل نفسه. لكن هل يمكن اعتبار الفنان بول كلي فنانا لا تشخيصيا ؟ بالمعنى الحرفي للتعبير،خصوصا في أعماله حتى سنة 1904 التي لم تتخل أبدا عن إشارة إلى الواقع المرئي، وكانت مجموع أعماله تندرج في الفن المعاصر،وهي التي أعطت درسا جديدا للتحول الفكري للفن ، وكانت من أعظم الدروس.وفي سنة 1909 أسس عدد من الفنانين من ضمنهم كاندينسكي وكوبين وجاولينسكي ومونتر الجمعية الفنية الجديدة والتي ضمت شخصيات الفن الشابة العاملة في ذلك الوقت في ميونيخ،ولكن هذا التجمع لم يكن له أهداف محددة وواضحة ،وسرعان ما ظهرت الاختلافات بينهم بقوة مما أدت إلى تشتتهم، وعندئذ تولى فرانز مارك -الذي كان قد انضم إلى الجماعة في وقت لاحق- وكاندينسكي تهيئة بيان الفارس الأزرق الذي نشر في عام 1912 واستعرضا فيه التطلعات الجمالية الجديدة.لقد اتخذت جماعة الفارس الأزرق اتجاها تعبيريا واضحا ولكنها لم تهمل المكتسبات الفنية القريبة العهد والمعاصرة،خصوصا التجربة الفرنسية وبهذا توصلوا عن طريق تزايد اهتمام الحركة في الشكل بمعناه التجريدي-من خلال معرفة مباشرة لأعمال التكعيبيين والوحشيين-إلى تحقيق معادل لإرادتهم في الارتقاء بكل الصور وتبسيط الشكل ذاته في سبيل التأكيد على مضامينه الانفعالية،بأسلوب تعدى التعبيرية بوضوح.إن التعبيرية التي تبنتها جماعة الجر والتي حاول كانداينسكي أن يتابع موضوعها منذ أن كان عضوا في الجمعية الفنية الجديدة،تحولت مع جماعة الفارس الأزرق باتجاه تجريدي على يد مارك وماكيه، ولكن بحدود، بينما نقلها كاندينسكي قطعا، إلى مستوى التجريد اللاتشخيصي، متجاوزا التكعيبيين والمستقبليين الذي كانت لهم محاولات واضحة في هذا السياق.ثم إن بيان الفارس الأزرق الذي هيأه كاندينسكي يؤكد على عدم التمسك بأي شكل معين، ليبقى الهدف من خلال تنوع الأشكال الممثلة على مدى تعدد الإمكانات في التعبير عن الإحساس الداخلي، هو التعبير عن الضرورة الداخلية،وقد أكد ذلك الموسيقي أرنولد شونبرغ سنة 1909 : عندما أضع موسيقاي أقرر ما أكتب من خلال الشعور فقط،من خلال الشعور بالشكل الذي يملي علي ما يجب كتابته، وكل ما عدا ذلك مرفوض، وكل جملة موسيقية أضعها تقابل ضبطا في النفس،ضبطا لمتطلبات التعبير، وربما بالإضافة إلى ذلك منطق شديد القسوة، بالرغم من أنه لا شعوري، من أجل البناء الهارموني.والمشابهة للضرورة الشعورية التي تكلم عنها شنوبرغ تتجلى في أن اللون هو ملامس الآلة والعين هي المطرقة، والنفس هي بيانو متعدد الأوتار، والفنان هو اليد التي عندما تلمس هذا الوتر أو ذاك تضع النفس الإنسانية في حالة اهتزاز حسب طريقة منظمة سلفا، من الواضح إذن أن الانسجام في الألوان يجب أن يقوم فقط على مبدأ التوافق بين المضارب من أجل الوصول إلى النفس البشرية، وهو الهدف الأساس، أي هدف الضرورة الداخلية. ومن جهته كان كلي يرى الأمور بمزاج مختلف تماما عن جماع الفارس الأزرق، وكون مفاهيم أخرى تجاه العالم، ولكنه كان يتحرك في نفس البيئة الثقافية للجماعة،وكانت مشكلة الواقع بالنسبة له تجد حلها ليس في رفض العالم الحسي بحثا عن روحانية منسجمة في الشكل، بعيدة عن كل ما هو مادي ظاهر، ولكن في العلاقة بين شخصية الفنان المتشابكة، التي تنشأ عن تعدد وتشابك ردود الفعل البصرية والنفسية تجاه العالم الحسي، والوجدان الذي يضعه في لوحته أو عمله التشكيلي، ضمن معطيات الأسلوب الذي يحافظ على علاقته بواقع الظاهرة الخارجية، ولكنه يرتقي بها من خلال تنظيم الوسائل التكوينية، والنور واللون. إن كل ما يحدث ما هو إلا رمز، وما نشاهد هو نسب وإمكانيات ووسائل، إلا أن الحقيقة الأصلية تبقى من حيث المبدأ غير مرئية، ولهذا وجب امتلاك هذه الحقيقة غير المرئية لأن الفنان رفض التأمل والسهل، وراح بالعكس يعمل منطقيا من تجربته كفنان، وهذه الأخيرة في تجربة اللغة التصويرية، لغة الشكل واللون والخط، عليه أن ينتج المعرفة وليس عرض شيء معروف من جديد، لتوضيح المعنى المختبئ خلف الأشياء، وخلف تشابك العلاقات بن هذه الأشياء والإنسان.*2 . وقد تحدث كلي عن عقيدته في الإبداع لكي يبرز موقف وجداني عميق لمعنى الواقع تجاه تجربته الفنية الخاصة، لأن الفن بالنسبة إليه لا يمثل المرئيات ولكنه يمكن من الرؤية.وطبيعة فن الرسم تقود بسهولة وشرعية إلى التجريد، وعندئذ تظهر في العمل الفني المميزات الغريبة والسحرية، وكل ما يمكن لعين الخيال أن تكتشفه بكل دقة ووضوح،وكلما أتقن الفنان عمله مستندا إلى عناصر الشكل التي هي مركب التعبير التخطيطي، فإنه يتنبه إلى أن الوسائل المناسبة للتمثيل الطبيعي للمرئيات غير ذات جدوى.ما نريد الإشارة إليه هو فكرة العمل غير التام في النقل الموضوعي للطبيعة، والمشكلة ليس في أن نستعير من الطبيعة بعض العناصر في سبيل البناء الفني للصور المستقلة، ولكنها في التمكن من استخلاص معنى الواقع الموجود وراء المرئيات بالوسائل الخطية واللونية الصرفة،والهدف هو جعل العمل الفني تأكيدا لحقيقة أكثر كمالا، حقيقة لا تشمل بناء الأشياء فحب وإنما تتعدى ذلك لإدراك الأشياء في حقل أكثر عمقا من حقل الرؤية المجردة، ويأخذ الفنان على عاتقه مهمة هذا البحث وهي مهمة مقرونة بدوافع أخلاقية، فهو في إبداعه لعمله عليه أن يستخدم تجربته ومراه في الشكل، ولكن بدون إهمال التجربة المرئية، ومن زاوية أعمق إنسانية، تجربته في الحياة. إن التجريد يغدو ضروريا عندما يستحيل التعبير بوسائل التمثيل الطبيعية عن هذه الأحاسيس المعقدة التي هي في نفس الوقت حسية ونفسية، ولتحقيقها وإخراجها إلى الوجود بطريقة ملموسة يجد الفنان في متناول يده الوسائل والتقنيات الخاصة للتعبير التخطيطي- النقط و الخطوط و السطوح والحيز..- ومن هنا تأتي أهمية التجارب .
المراجع : *1 كتاب وليام ورينغر التجريد والتعاطف الفني ميونيخ سنة 1908 .
*2 كتاب الاعترافات المبدعة كلي .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire