الشاعرة التونسية فوزية العلوي القصرين تونس
من أعمال الفنان عبد الله أبو العباس
الطين يحكي أسراره..قراءة في تغريبة حرف..للنحات التونسي عبد الله بو لعبّاس / فوزية العلوي تونس
الفنّ ....ليس محتاجا إلى تقديم
يأتيك دون استئذان كالحبّ أو كالموت.
يطرق عليك أبواب دهشتك ...
فلا تملك إلا أن تستقبله وتفسح له في القلب متّكأ.
قد تنقصنا المعرفة العالمة بتاريخ الفنّ ،وبمدارسه ومحطّاته .قد لا نعرف بالضرورة ممّ قدّ الفنّان أعماله؟ومن أي خامة شكّلها وصاغ معدنها وكيف تأتّت له وانصاعت لأنامله لتكون على هذا النّحو من البهاء والجلال والإيحاء ؟...ولكنّنا نملك القدرة تماما على أدراك ما تتوفّر عليه هذه الأعمال من أحاسيس،و كم هي مليئة بالحياة وبالعشق وباللذة والألم... وكم هي منكفئة على أسرارها وكنوزها القصيّة... وكم تظلّ دأبا تغرينا وتسعى إلى تحريك سواكننا وزرع الدهشة فينا وإرباكنا وحفزنا على التآمّل والتساؤل وإعادة النظر في علاقتنا بذواتنا وعلاقتنا بالاخر وعلاقتنا بالوجود وبالعناصر التي تؤثث فراغه الهائل....
ما كنت لأكتب حول أعمال هذا الفنّان التونسي من باب المجاملة... فالفنّ الصادق لا يحتمل أبدا مجاملة وينفر تماما من التزكيّة.وأنّما كتبت لأنني أحببت بصدق ما يفعله، وما ينجزه من روائع ... يفعل ذلك بكثير من الحبّ والحدب والإخلاص والجهد والصّمت والتواضع، رغم أنه مدرك أنّ ما يبتدعه ليس بالأمر الهيّن. إنّ فعل الكتابة عن أعمال عبد الله بو العبّاس الفنيّة تتجاوز مجرّد الاحتفاء والأعجاب الموسمي والمؤقّت بفنّان متعدد الأبعاد ، إلى محاولة التأّسيس لذائقة فنّية بانورامية، تشكيليّة تتنادى فيها الفنون وتتحاور وتتجاور، وتتبادل إشعاعاتها لتتوهّج جميعا في مجرّة فنّية وجودية ،تكون لها القدرة على إضاءة العتمة التي في نفوسنا.وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذا الضوء الذي يخاطب البعد الانساني فينا ، وينفض عنّا التراب الذي تراكم وجعل الروح تصدأ تحت وقر مانحن فيه من حمّى الاستهلاك وشراسة الحروب وقساوة الاستغلال وبشاعة العنصريّة بكل ألوانها وأشكالها.
أدخل عالم آبي العبّاس الفنّي بحدس الشاعرة ودهشتها الطفوليّة... لا سلاح لي إلا الافتتان بالجمال ولا أدوات لها إلاّ من انطبع في الذاكرة من أضواء وظلال المعيش والمشاهد والمتخيّل ...أدخل ...هذا العالم بل أقف عند العتبة ، وأتهجّى المدرج الفنّي كالسلحفاة،لأقول ما أوحت لي به هذه الكائنات الطينيّة في منشئها والتي أبدعها أبو العباس بعد أن أصغيت أليها واستمتعت بخريرها المائي الصامت...وبعد أن نشقت منها رائحة الطين...رائحة البدايات ،أنا التي فتحت سمعي الأوّل على ترتيل القرآن و ربوت في الكتّاب بين يدي أبي رحمه الله،وعشقت الحرف ، ولعقت الطين فوق لوحي المغموس بالصّمغ...ورأيت كيف يتجاور الطين والحرف في أبّهة التكوين ... وكيف كنّا أطفالا نعدّ اللوح ونغسله بالطّين ،
ليستقبل جمال الحرف وانسيابه .أيكون أبو العباس يكتب ذاكرتي أم ذاكرته أم ذاكرتنا الجمع في الارض العربية الاسلامية حيث قداسة الحرف وسطوة الكلمة؟
.قد يستخفّ النقاد العلماء المختصّون من كلامي وقد يحتجّون على تطفّل شاعرة تقتحم عالم الرسم والنحت والتشكيل...ولكنّني لا أخاطب مطلقا هؤلاء...إنما أخاطب المندهشين أمام الفنّ الجليل بلا أسلحة معرفيّة ... العاشقين لترانيمه وهمهماته الانسانيّة العميقة دون أن يكونوا قادرين بالضّرورة على تفسير الأسباب والعلل التي تجعلهم ينبهرون ويرتبكون أمام هذا العمل أو ذاك ... اولئك الشاعرين بالرّهبة أمام صولجانه كما يرهب الأطفال أمام وميض البرق.
أجمل مافي أعمال عبدالله بولعبّاس، سواء تحدثّت عن منحوتاته أو عن لوحاته المائية أو الزيتية أنّها ...سلبتني اطمئناني .. .وأجمل الأعمال الفنية هي تلك التي تزوبع سواكنك وتيقّظ ذاكرتك وتزرع فيك بذرة والسّؤال ....لماذا فعل هذا وكيف؟ وماالذي يريد أن يقوله من خلال كلّ ذلك ؟...كيف لمادة جامدة أن تتوهّج على هذا النحو وتحمل كلّ هذه الأحاسيس ؟ كيف تعبر اهتزازات النفس وتجلّيات الروح وتوتّرات القلب عبر فرشاة الرسّام وأنامله ، وعبر أزميل النحّات لتستقر في المادة خشبا أو رخاما أو برونزا أو ورقا ولونا أو لغة ..فتخرجها من حيادها وصمتها وخرسها وعماها وتصبح بائحة آو محتجّة آو ساخرة ....
كذا كانت لوحات أبي العبّاس ...هل قلت لوحات ربما لا يسمّيها هو كذلك، قد تكون منحوتات آو مخطوطات أو كائنات طينيّة ...كذا أودّ أن أسمها لأني أشعر بها متحرّكة ...متوترة ...متوهّجة....رافضة أن تكون جمادا باردا.
*** سرّ الشكل:
إنّ أول ما لفت انتباهي في هذه الأعمال على قلّتها أنّها استوعبت أهمّ الأشكال الهندسيّة التي تحيط بنا من كلّ جانب ، والتي في جانب منها تمثل الفضاء الذ ي يحتوينا ،من الدّائرة إلي المربّع إلى المستطيل إلى المثلّث...أيكون أبو العبّاس يستوعب في فنّه شكل الوجود وهو لا يعي ...كمن به رغبة أن يمتصّ الوجود في ذاته ويتشرّبه فيكونه ... ضربا من الحلول الهندسي المجاور لحلول المتصوّفة بل هو نفسه لو تخلّصنا من الحواجز الواهمة .أليس العالم كلّه معزوفة أشكال تتآلف هنا وتختلف هناك...تتناءى مرة وتتدانى أخرى في عناق حميم راسمة بذلك لوحة الوجود الأعظم الذي خلقة وبراه الله سبحانه وتعالى.
إنّ التردّد بين هذه الآشكال والحرص على تجسيدها كلّها لا نظنّه مجانيّا، إنّما هي رغبة الفنّان أن يعيد تشكيل العالم كما يراه ،أوقل كما يتلقّى وقعه في كيانه .وهل العالم إلاّ ما نعي منه وما نرى وما ندرك؟ بعبارة أخرى هل يمكن الحديث عن وجود معزول عن إدراكاتنا؟
هكذا تتمدّد أعمال هذا الفنان طولاوعرضا وتلتفّ في شكل دوائر ،وتميل في شكل خطوط منحرفة، كأنما تختزل الاتجاهات والحركات والايقاعات جميعها، لم يغفل منها الفنّان شيئا كأنما فنّه يخترل حركته ، أو لكأنّ حركته هي فنّه في معزوفة منفردة لا تحيل إلا على نفسها ظاهرا لكنّها تتناغم باطنا مع معزوفة أعمق هي معزوفة الوجود،معزوفة يعدّ الشكل مقاما من مقاماتها.
***الطّين وسرّالحرف.
ثمّة سؤال آخر أهمّ رواد فكري وأنا أتآمّل أعمال أبي العبّاس..هو لماذا الطين أولا؟
قد يكون الجواب أيسر مما نتوقّع...هذا ما تيسّر له ساعتها،فالطين مادة متاحة ويسهل الحصول عليها ،وهي مادة مطواعة قابلة للقولبة والتشكيل أكثر من غيرها. ولكنّ الفنّ لا يكتفي بمثل هذه الإجابات السّاذجة والا القراءة تقتنع بمثل هذا التأويل؟
لعلّ اختيار آبي العبّاس للطين مادة أوّلية وإن كان أضاف له بعض الخامات،يبقى اختيارا مقصودا وبالتالي فأنه يصبح رامزا وحمّال شحنات دلالية عميقة تجتهد القراءة في أجلاء بعضها أو التنبيه اليها على الأقلّ.
إنّ الطين....في المنظور الدّيني هو الانسان... وهو التأريخ للخلق البشري ...فكثيرة هي الايات القرآنية الكريمة التي تنصّ على أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من طين أو صلصال أو حمإ مسنون.ولكنّ الطين مادة مفارقة بمعنى أنّه كما يحيل علي الخلق فهو يحيل على الفناء وهكذا فأنه يختزل دورة الوجود .«منها خلقناكم وفيها نعيدكم» طه٥٥.إنّ اختيار أبي العبّاس للطين مادة أولية لعمله يأتي معبّرا عن حنين البدايات والحنين الى الاصل والى البراءة الأولى... أو مرحلة الفراغ الأول أو لنقل الاستعداد الى الحياة ...فالله خلق الانسان من طين ثم نفخ فيه من روحه. فكأننا هنا إزاء استعارة كبرى يحمّل فيها الفنان المادّة الصمّاء بعض توقّد روحه وتوهج كيانه لينتج حياة أخرى توازي الحياة الفعليّة أو تتماهى معها....بل لعلّها تتعالى عليها لتنشئها على نحو أشف وأكثر بذخا وعنفوانا.إن الطّين من هذا المنظور اختزال لمسيرة الانسان ومسيرة الفنان ،الانسان الذي يلهث في نزوع جلجامش الى البحث عن الخلود....والفنّان الذي يتصدّى للموت عبر أعماله الفنية التي تتحدى جبروت التلاشي وسوس التقوّض....
لكنّ المثير في أعمال أبي العباس هذه ليس خامة التشكيل فقط بل ماحمّل هذه الخامة وما أودعها من أسرار الحروف....ألم يسمّ اعماله هذه «تغريبة حرف»؟
لن يسعنا المجال هنا للبحث في مفهوم التغريبة وما تعنيه لدى صاحبها، إن كانت من الغرب...يوجّه أبو العباس رسالة تحدّ اليه في ظلّ عولمة عمياء ليعلن في عنفوان التأصّل أننا إنما نحن بلغتنا ،وأنّنا بحرفنا نقتحم العالم ونختزل الكون ونعبّر عن ملامحنا الخاصة....أم أنه يعلن عن غربة الحرف. التي هي وجه من غربة الكاتب والفنان ...تلك الغربة الوجودية التي طالما شكا منها الآنبياء والآولياء والمصطفون الخلّص الذين قال عنهم أبو العلاء المعري
ألو الفضل في أوطانهم غرباء تشذّ وتنأى عنهم القرباء
إنّ اختيار الحرف العربي هنا بقطع النظر عمّاأذا كان النصّ المحمول قرآنا أو شعرا أو قولا مأثورا يأتي معبّرا عن موقف وجودي في المفهوم الأنطولوجي للكلمة،علن فيه أبو العبّاس عن ذاكرة مثقلة بأبعادها العربية الأسلامي.
هذه الذاكرة التي احتفت أيما احتفاء بالكلمة وجعلتها شارة وعلامة مميزة ،بل أن العرب لفرط ما قدّسوا الكلمة كتبوها بماء الذهب وعلّقوها على أستار الكعبة ، فوضعت لذلك في مقام تقديس وكما كان يطاف بالكعبة تبتّلا وعبادة فكما كان يطاف في حمى القصيدة طوافا رمزيا معبّرا عن ادراك قديم متأصّل لدى العرب بقيمة الكلمة الوجود.
هكذا ينأى الفنّ عن كونه مجرّد حلية ليصبح فعلا أنطولوجيا في غاية الأهمية، ويصبح الفنان ليس ذاك البوهيمي المتقوقع في برجه العاجي وأنما يصبح تلك الذات المشتعلة لتنير درب الاخرين وتسهم في بناء الصرح الأنساني بامتياز.
فوزية العلوي
٠
الفنّ ....ليس محتاجا إلى تقديم
يأتيك دون استئذان كالحبّ أو كالموت.
يطرق عليك أبواب دهشتك ...
فلا تملك إلا أن تستقبله وتفسح له في القلب متّكأ.
قد تنقصنا المعرفة العالمة بتاريخ الفنّ ،وبمدارسه ومحطّاته .قد لا نعرف بالضرورة ممّ قدّ الفنّان أعماله؟ومن أي خامة شكّلها وصاغ معدنها وكيف تأتّت له وانصاعت لأنامله لتكون على هذا النّحو من البهاء والجلال والإيحاء ؟...ولكنّنا نملك القدرة تماما على أدراك ما تتوفّر عليه هذه الأعمال من أحاسيس،و كم هي مليئة بالحياة وبالعشق وباللذة والألم... وكم هي منكفئة على أسرارها وكنوزها القصيّة... وكم تظلّ دأبا تغرينا وتسعى إلى تحريك سواكننا وزرع الدهشة فينا وإرباكنا وحفزنا على التآمّل والتساؤل وإعادة النظر في علاقتنا بذواتنا وعلاقتنا بالاخر وعلاقتنا بالوجود وبالعناصر التي تؤثث فراغه الهائل....
ما كنت لأكتب حول أعمال هذا الفنّان التونسي من باب المجاملة... فالفنّ الصادق لا يحتمل أبدا مجاملة وينفر تماما من التزكيّة.وأنّما كتبت لأنني أحببت بصدق ما يفعله، وما ينجزه من روائع ... يفعل ذلك بكثير من الحبّ والحدب والإخلاص والجهد والصّمت والتواضع، رغم أنه مدرك أنّ ما يبتدعه ليس بالأمر الهيّن. إنّ فعل الكتابة عن أعمال عبد الله بو العبّاس الفنيّة تتجاوز مجرّد الاحتفاء والأعجاب الموسمي والمؤقّت بفنّان متعدد الأبعاد ، إلى محاولة التأّسيس لذائقة فنّية بانورامية، تشكيليّة تتنادى فيها الفنون وتتحاور وتتجاور، وتتبادل إشعاعاتها لتتوهّج جميعا في مجرّة فنّية وجودية ،تكون لها القدرة على إضاءة العتمة التي في نفوسنا.وما أحوجنا اليوم إلى مثل هذا الضوء الذي يخاطب البعد الانساني فينا ، وينفض عنّا التراب الذي تراكم وجعل الروح تصدأ تحت وقر مانحن فيه من حمّى الاستهلاك وشراسة الحروب وقساوة الاستغلال وبشاعة العنصريّة بكل ألوانها وأشكالها.
أدخل عالم آبي العبّاس الفنّي بحدس الشاعرة ودهشتها الطفوليّة... لا سلاح لي إلا الافتتان بالجمال ولا أدوات لها إلاّ من انطبع في الذاكرة من أضواء وظلال المعيش والمشاهد والمتخيّل ...أدخل ...هذا العالم بل أقف عند العتبة ، وأتهجّى المدرج الفنّي كالسلحفاة،لأقول ما أوحت لي به هذه الكائنات الطينيّة في منشئها والتي أبدعها أبو العباس بعد أن أصغيت أليها واستمتعت بخريرها المائي الصامت...وبعد أن نشقت منها رائحة الطين...رائحة البدايات ،أنا التي فتحت سمعي الأوّل على ترتيل القرآن و ربوت في الكتّاب بين يدي أبي رحمه الله،وعشقت الحرف ، ولعقت الطين فوق لوحي المغموس بالصّمغ...ورأيت كيف يتجاور الطين والحرف في أبّهة التكوين ... وكيف كنّا أطفالا نعدّ اللوح ونغسله بالطّين ،
ليستقبل جمال الحرف وانسيابه .أيكون أبو العباس يكتب ذاكرتي أم ذاكرته أم ذاكرتنا الجمع في الارض العربية الاسلامية حيث قداسة الحرف وسطوة الكلمة؟
.قد يستخفّ النقاد العلماء المختصّون من كلامي وقد يحتجّون على تطفّل شاعرة تقتحم عالم الرسم والنحت والتشكيل...ولكنّني لا أخاطب مطلقا هؤلاء...إنما أخاطب المندهشين أمام الفنّ الجليل بلا أسلحة معرفيّة ... العاشقين لترانيمه وهمهماته الانسانيّة العميقة دون أن يكونوا قادرين بالضّرورة على تفسير الأسباب والعلل التي تجعلهم ينبهرون ويرتبكون أمام هذا العمل أو ذاك ... اولئك الشاعرين بالرّهبة أمام صولجانه كما يرهب الأطفال أمام وميض البرق.
أجمل مافي أعمال عبدالله بولعبّاس، سواء تحدثّت عن منحوتاته أو عن لوحاته المائية أو الزيتية أنّها ...سلبتني اطمئناني .. .وأجمل الأعمال الفنية هي تلك التي تزوبع سواكنك وتيقّظ ذاكرتك وتزرع فيك بذرة والسّؤال ....لماذا فعل هذا وكيف؟ وماالذي يريد أن يقوله من خلال كلّ ذلك ؟...كيف لمادة جامدة أن تتوهّج على هذا النحو وتحمل كلّ هذه الأحاسيس ؟ كيف تعبر اهتزازات النفس وتجلّيات الروح وتوتّرات القلب عبر فرشاة الرسّام وأنامله ، وعبر أزميل النحّات لتستقر في المادة خشبا أو رخاما أو برونزا أو ورقا ولونا أو لغة ..فتخرجها من حيادها وصمتها وخرسها وعماها وتصبح بائحة آو محتجّة آو ساخرة ....
كذا كانت لوحات أبي العبّاس ...هل قلت لوحات ربما لا يسمّيها هو كذلك، قد تكون منحوتات آو مخطوطات أو كائنات طينيّة ...كذا أودّ أن أسمها لأني أشعر بها متحرّكة ...متوترة ...متوهّجة....رافضة أن تكون جمادا باردا.
*** سرّ الشكل:
إنّ أول ما لفت انتباهي في هذه الأعمال على قلّتها أنّها استوعبت أهمّ الأشكال الهندسيّة التي تحيط بنا من كلّ جانب ، والتي في جانب منها تمثل الفضاء الذ ي يحتوينا ،من الدّائرة إلي المربّع إلى المستطيل إلى المثلّث...أيكون أبو العبّاس يستوعب في فنّه شكل الوجود وهو لا يعي ...كمن به رغبة أن يمتصّ الوجود في ذاته ويتشرّبه فيكونه ... ضربا من الحلول الهندسي المجاور لحلول المتصوّفة بل هو نفسه لو تخلّصنا من الحواجز الواهمة .أليس العالم كلّه معزوفة أشكال تتآلف هنا وتختلف هناك...تتناءى مرة وتتدانى أخرى في عناق حميم راسمة بذلك لوحة الوجود الأعظم الذي خلقة وبراه الله سبحانه وتعالى.
إنّ التردّد بين هذه الآشكال والحرص على تجسيدها كلّها لا نظنّه مجانيّا، إنّما هي رغبة الفنّان أن يعيد تشكيل العالم كما يراه ،أوقل كما يتلقّى وقعه في كيانه .وهل العالم إلاّ ما نعي منه وما نرى وما ندرك؟ بعبارة أخرى هل يمكن الحديث عن وجود معزول عن إدراكاتنا؟
هكذا تتمدّد أعمال هذا الفنان طولاوعرضا وتلتفّ في شكل دوائر ،وتميل في شكل خطوط منحرفة، كأنما تختزل الاتجاهات والحركات والايقاعات جميعها، لم يغفل منها الفنّان شيئا كأنما فنّه يخترل حركته ، أو لكأنّ حركته هي فنّه في معزوفة منفردة لا تحيل إلا على نفسها ظاهرا لكنّها تتناغم باطنا مع معزوفة أعمق هي معزوفة الوجود،معزوفة يعدّ الشكل مقاما من مقاماتها.
***الطّين وسرّالحرف.
ثمّة سؤال آخر أهمّ رواد فكري وأنا أتآمّل أعمال أبي العبّاس..هو لماذا الطين أولا؟
قد يكون الجواب أيسر مما نتوقّع...هذا ما تيسّر له ساعتها،فالطين مادة متاحة ويسهل الحصول عليها ،وهي مادة مطواعة قابلة للقولبة والتشكيل أكثر من غيرها. ولكنّ الفنّ لا يكتفي بمثل هذه الإجابات السّاذجة والا القراءة تقتنع بمثل هذا التأويل؟
لعلّ اختيار آبي العبّاس للطين مادة أوّلية وإن كان أضاف له بعض الخامات،يبقى اختيارا مقصودا وبالتالي فأنه يصبح رامزا وحمّال شحنات دلالية عميقة تجتهد القراءة في أجلاء بعضها أو التنبيه اليها على الأقلّ.
إنّ الطين....في المنظور الدّيني هو الانسان... وهو التأريخ للخلق البشري ...فكثيرة هي الايات القرآنية الكريمة التي تنصّ على أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان من طين أو صلصال أو حمإ مسنون.ولكنّ الطين مادة مفارقة بمعنى أنّه كما يحيل علي الخلق فهو يحيل على الفناء وهكذا فأنه يختزل دورة الوجود .«منها خلقناكم وفيها نعيدكم» طه٥٥.إنّ اختيار أبي العبّاس للطين مادة أولية لعمله يأتي معبّرا عن حنين البدايات والحنين الى الاصل والى البراءة الأولى... أو مرحلة الفراغ الأول أو لنقل الاستعداد الى الحياة ...فالله خلق الانسان من طين ثم نفخ فيه من روحه. فكأننا هنا إزاء استعارة كبرى يحمّل فيها الفنان المادّة الصمّاء بعض توقّد روحه وتوهج كيانه لينتج حياة أخرى توازي الحياة الفعليّة أو تتماهى معها....بل لعلّها تتعالى عليها لتنشئها على نحو أشف وأكثر بذخا وعنفوانا.إن الطّين من هذا المنظور اختزال لمسيرة الانسان ومسيرة الفنان ،الانسان الذي يلهث في نزوع جلجامش الى البحث عن الخلود....والفنّان الذي يتصدّى للموت عبر أعماله الفنية التي تتحدى جبروت التلاشي وسوس التقوّض....
لكنّ المثير في أعمال أبي العباس هذه ليس خامة التشكيل فقط بل ماحمّل هذه الخامة وما أودعها من أسرار الحروف....ألم يسمّ اعماله هذه «تغريبة حرف»؟
لن يسعنا المجال هنا للبحث في مفهوم التغريبة وما تعنيه لدى صاحبها، إن كانت من الغرب...يوجّه أبو العباس رسالة تحدّ اليه في ظلّ عولمة عمياء ليعلن في عنفوان التأصّل أننا إنما نحن بلغتنا ،وأنّنا بحرفنا نقتحم العالم ونختزل الكون ونعبّر عن ملامحنا الخاصة....أم أنه يعلن عن غربة الحرف. التي هي وجه من غربة الكاتب والفنان ...تلك الغربة الوجودية التي طالما شكا منها الآنبياء والآولياء والمصطفون الخلّص الذين قال عنهم أبو العلاء المعري
ألو الفضل في أوطانهم غرباء تشذّ وتنأى عنهم القرباء
إنّ اختيار الحرف العربي هنا بقطع النظر عمّاأذا كان النصّ المحمول قرآنا أو شعرا أو قولا مأثورا يأتي معبّرا عن موقف وجودي في المفهوم الأنطولوجي للكلمة،علن فيه أبو العبّاس عن ذاكرة مثقلة بأبعادها العربية الأسلامي.
هذه الذاكرة التي احتفت أيما احتفاء بالكلمة وجعلتها شارة وعلامة مميزة ،بل أن العرب لفرط ما قدّسوا الكلمة كتبوها بماء الذهب وعلّقوها على أستار الكعبة ، فوضعت لذلك في مقام تقديس وكما كان يطاف بالكعبة تبتّلا وعبادة فكما كان يطاف في حمى القصيدة طوافا رمزيا معبّرا عن ادراك قديم متأصّل لدى العرب بقيمة الكلمة الوجود.
هكذا ينأى الفنّ عن كونه مجرّد حلية ليصبح فعلا أنطولوجيا في غاية الأهمية، ويصبح الفنان ليس ذاك البوهيمي المتقوقع في برجه العاجي وأنما يصبح تلك الذات المشتعلة لتنير درب الاخرين وتسهم في بناء الصرح الأنساني بامتياز.
فوزية العلوي
٠
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire