كانت الأكاديمية والرسامة والناقدة العراقية هناء مال الله، في بحثها الموسوم (النظم المنطقية في الفن) الذي نالت به شهادة الدكتوراه في فلسفة الفنون التشكيلة (الرسم)، تنطلق من “افتراض وجود بنى منطقية تتخلل المستويات الصياغية في الرسم” وذلك من خلال “اختيار المنطق Logic الذي ينتمي إلى مجموعة العلوم البرهانية.. ذات النسق الاستنباطي كأداة للتحليل” كبديل للغة النقدية والادبية، حيث تعتقد الباحثة “ان اللغة النقدية، والأدبية، لم تمارس التحليل في قيم الصياغات البَصَرية، والرمزية للرسم، إلا بالحد الأدنى من الدقة، والوضوح بحكم طبيعتها ذات السمة التأويلية والإيحائية”، محاولةً الوصول إلى “ان الأشكال المرسومة هي أصول لكل الاشتقاقات الرمزية اللاحقة ومنها اللغة والمنطق” وهي تعتمد في أحقية المنطق في التفسير من خلال بناء علم اللغة عند العرب استناداً الى المنطقيات الارسطية، وان انعطافهم لدراسة الظواهر اللغوية اعتماداً على المنطق لم يكن إلا من خلال “افتراض وجود حدّ مشترك بين الرسم التجريدي والرسم التشخيصي أي النظام الشكلي المجرد للسطح التصويري وهو لا يلغي الحد الأدنى من ارتباطه بالعالم الخارجي (مرجعيته) بمعنى ان الشكلين التجريدي والتشيخيصي يشتركان في حدّهما الصوري الصياغي الذي يحيل بالضرورة إلى مرجع ما
وقد كان مفتاح (اللغة) الكتابية اتخاذها نماذج من الألف الخامس قبل الميلاد إلى الألف الثاني قبل الميلاد أدت إلى “بوادر استقلال عن الكتابة، بعد ان ساهمت الاشكال المرسومة في اشتقاق نمط من الكتابة التالية لها، وبذلك شكلت تلك النماذج (المدخل الاشتقاقي بين الرسم والكتابة)” وهو ما قال به آل سعيد: “بأن الرسوم الأولى على فخاريات طور سامراء ليست سوى أسلوب لغوي لسرد الواقعة ولكن قبل ظهور الكتابة نفسها، وقبل ظهور العصر الشبيه بالكتابي” (البحث في جوهرة التفاني ، ط1،ص53 الشارقة ، 2003)، وأيضاً يقول آل سعيد في المصدر ذاته ص155: “في حدود الألف الثالث ق.م ظهرت سلسلة من الرسوم على الفخاريات تضمنت على نظام تدويني (تصويري) ما قبل لغوي كان من أهم عناصره الشكل الهندسي (الواسطة – التدوينة) الذي ابتدأ من (نظام التربيع) واعني بذلك ما حفلت به فخاريات سامراء من رسوم”، فتفترض هناء مال الله وجود “حدّ من التجريد في النظام الشكلي القائم على التشخيص.. وحدّ من التشخيص في النظام الشكلي القائم على التجريد، وضرورة إحالة هذا النظام إلى مرجع ما، وانفتاح هذه الإحالة في النظامين إلى تعيين حدهما الرمزي الذي يمهد للوصول إلى مفاصل منطقية في الرسم”، وإن مفهوم التشخيص figurative art والتجريد هي في درجة (محاكاة أو استحضار واقعية المظهر الخارجي)، وهو ما يفترضه كذلك ال سعيد فيعتبره “(بناء تركيبياً) يتسق فيه ان يحتوي على التشخيص figuration والتجريد اللاتشخيص non-figuration في آن واحد” (ال سعيد ،المصدر السابق، ص55).
وبذلك “يكون الموضوع الخارجي نقطة انطلاق حسب لصياغة الاشكال المرسومة”، إلا أن التحول الأهم الذي حدث في صياغة الشكل (الممثل) كانت “باتجاه صياغة قوانين بنائية شكلية عقلية، تحققت بوضوح في التكعيبية” من خلال “عملية تحليل المشهد المرئي (البَصَري) وإعادة تركيبه للوصول إلى الشكل المجرد، والقيم المنطقية التي تتمفصل في الصياغة التجريدية الصورية للشكل المرئي”، وبذلك فهي تتخذ التكعيبية، باعتبارها بوابة (للتنافذ بين مفهومي التجريد والتشخيص في الرسم) ومنها ترسخ الاعتقاد “بضرورة ان تكون للرسم هويته بدون أية علاقة مع مواضيع العالم المرئي، وضرورة أن يبنى بشكل كامل مع أشكال تجريدية موجودة في العقل”، وبذلك يتأسس “لمعتقدات بوجود قوانين في الرسم تظهر بشكل أفضل بمشابهتها مع الهندسة”، وتنتهي الباحثة إلى أنه “يجوز القول إننا في الرسم نستخدم لغة عالمية (عامة) وهي مضبوطة كالرياضيات”، في محاولة للكشف عن قواعد منطقية للأشكال المرسومة باتخاذ الحد الهندسي كأداة للكشف، فأن اتخاذ الرسم للأشكال الهندسية كوحدات إنشائية وتكوينية، يمهد للقول بأن الإشكال المرسومة المجردة تنفتح على معانٍ كلية شاملة، كما الناقدة تعتبر وجود الهياكل الهندسية والرياضية، التي قال (الكسندر بابا دوبولو) بوجودها في الرسوم الإسلامية، هي واحدة من البنى الهندسية والرياضية التي تسند التركيب، وهو ما تسميه (الهيكل الداخلي) الذي هو محاولة للوصول إلى استخدام البنى الهندسية في تحديد المساحات والأشكال، ثم تتناول هناء مال الله البنى العددية والتكرار لتتوصل إلى “إرجاع تعدد الصياغات (الاشتقاقات الشكلية) إلى إشكال محددة هندسية”.
لقد اتخذت هناء مال الله الأواني الفخارية نموذجاً في صياغة فرضياتها: فيعود أول نماذجها الفخارية إلى تل حسونة/ سامراء (العراق) 5600ق.م، وهو نموذج قائم على قيمة التربيع داخل الدائرة، مبتدئة من الصليب المعقوف الذي تفترض له قيمة اشتقاقية من المربع، والذي يشترك في تركيبة بلّورية مع أربع أسماك مفترسة، وثمانٍ أخرى تدور في حاشية الإناء، وهو تدور باتجاه عكس عقرب الساعة مشكلة حركة دائرية مع الصليب المركزي المعقوف، ويتوسع شاكر حسين آل سعيد في افتراضاته فيعيد نشأة الاوفاق بالارتباط مع الشكل الهندسي لفخاريات سامراء وهو شكل الصليب المعقوف فيؤكد “ان أقدم الشواهد على ظهور نظام الاوفاق يمثله لنا ذلك الشكل الهندسي الذي يلاحظ ظهوره على فخاريات دور سامراء في عصر ما قبل السلالات وهو شكل (الصليب المعقوف) وهو نفسه الشكل الذي يقترن اليوم بزخارف الخط الكوفي المربع… ان الشكل المذكور يرد أيضاً في صحون فخارية تعود إلى دور سامراء أهمها صحنان: الأول يمثل رقصة ترقصها أربع نساء وهن يتأرجحن بشعورهن الطويلة التي تؤلف شكل الصليب المعقوف، والثاني يمثل أربعة طيور نشرت أجنحتها، وقد امسك كل منها بسمكة بواسطة منقاره… أن رسوم وزخارف فخاريات سامراء جميعاً يمكن اعتبارها الأشكال الأولى البعيدة للاوفاق لاسيما وان تأليف أي وفق يعتمد على رسم الجدول بشكل (المربع) ونحن نعلم ان ظهور التربيع واستخدام العلاقة بين مركز المربع ومحيطة يعتبر من اكتشافات الإنسان الرافديني بحدود 5000 ق.م” (ال سعيد ،المصدر نفسه،ص171).
ويعود نموذجها الثاني إلى تل حسونة أيضاً والفترة ذاتها، ويشكل فيه التربيع نمطاً آخر من العلاقة الشكلية حيث المثلثات المتناكبة بالرأس مع زوايا معين، وقد تناول آل سعيد مفهوم التربيع في الفخاريات الرافدينة القديمة “في فخاريات عصور ما قبل التاريخ بعصر سامراء حيث اكتشف الإنسان مبدأ (التربيع)، أي اكتمال الحركة المحيطية للشكل المربع إزاء سكونية المركز، أو التقاطع مابين وتري المربع، وقد انتقلت هذه العلاقة بين المحيط والمركز إلى التقاليد (الاوفاق) أو الجداول السحرية التي تحتفظ بالتوافق وبين الحروف والإعداد وتدوينها كتعاويذ وتمائم…الخ” (ال سعيد، المصدر السابق، ص52).
وينتج النموذج الثالث (تل حسونة وذات الفترة) بنية تربيعية مماثلة ناتجة من شكل مشخص لأربعة حيوانات ماعز تدور حول بعضها يصفها ال سعيد “بأن الماعز الجبلي- في فخاريات ديالى- يبدو مختزلاً إلى ابسط شكل هندسي محور عن الشكل الطبيعي، أنه طبيعي- هندسي في آن واحد… مرئي ولا مرئي في الوقت نفسه”(ال سعيد، المصدر السابق، ص56)، والنموذج الرابع يعود لذات المكان والفترة، وهو مؤلف من صياغات تحويرية تشخيصية لأربعة رؤوس ثيران تؤدي إلى إنشاء قائم على شكل متقاطع (صليب) داخل دائرة، حيث تفترض الباحثة “أن هذا الشكل المتقاطع هو تمثيل شكلي لقيم تربيعية قائمة على شكل مربع مغيّب”، كما تناولت الناقدة العديد من النماذج الأخرى قديمة، وحديثة، من المنجز التشكيلي العراقي المعاصر، واتتهت إلى استنتاج هام هو ان “التحليل الشكلي للإشكال المتراكبة المرسومة يقدم بنية علاقات، لها قيمة المفهوم الذي تقدمه الجملة الكتابية لهذا كان استبعاد المحاكاة في الإشكال المرسومة، واستحضار التجريد عبر التحوير للإشكال المشخصة، بينما يقرره ال سعيد: “بأن (التنميط الزخرفي) يمثل تلك الفواعل وهي في طريقها لأن تصبح (نظماً) لغوية” (، المصدر السابق، ص177).
انه، برأي الناقدة هناء مال الله، “بمثابة إدخال للمفردة اللغوية في جملة كتابية، وذلك لتستوعب طاقة مفهوم الإرسالية التي تقوم بالمفهوم المقدس لاحتواء الماء على الحياة” ، وهو ما يؤكده آل سعيد في كتابة السابق (ص)157 حينما يقول: “ان ظهور الكتابة الأول في العراق… يحسم أسبقية ظهور النظم الزخرفية على النظم اللغوية.. وان الدور الحضاري المسمى بدور حسونة (5800-5100 ق.م) كانت فيه الإشكال الهندسية الأولى تمثل أول شكل من إشكال الحروف”، وهو الاستنتاج الاهم الذي اسست عليه فكرة الاطروحة، وهو استنتاج حري بأن يمحص ويدرس من المختصين كونه ، على حد علمنا، اضافة استثنائية في الدراسات الرافدينية القديمة، بدأت ببذرة جنيني قدمها الناقد الكبير الراحل شاكر حسن ال سعيد في كتاباته الاخيرة وخاصة كتابه الاستثنائي والاخير (البحث في جوهرة التفاني ، ط1، الشارقة ، 2003).
خالد خضير الصالحي
العراق – البصرة
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire